An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, April 13, 2009
  • اللغة والأذن
  • Published at:مجلة رسالة التربية التي يصدرها مكتب التربية العربي لدول مجلس التعاون الخليجي
  • اللغة والأذن

                                    

    أ.د. يحيى جبر

     

    الملخص

     

    يقع هذا البحث في نحو من عشرين صفحة بحثنا فيها العلاقة بين الأذن واللغة، من حيث هي في الأصل أصوات لمعان يتداولها الملقي والمتلقي، في إطار جماعة توحد بينها صفات عديدة، وفي البداية عرضنا للرمز بالأصوات وقارنا ذلك بالرمز بما يرى، وبينا جانبا من معاني الأصوات، مقارنة بما نقلت إليه بعض الصور من دلالة على الحرف المكتوب.

    ثم تحدثت عن الأذن الحساسة ودورها في نقل المعرفة وإحداثها، انطلاقا من الأصل اللغوي "أذن"، وما انشعب من دلالة المفردات المشتقة منها على معاني العلم والإعلام والاستسماح، مستشهدا لذلك كله بنصوص من القرآن الكريم، وأشعار العرب مما يحتج به.

    وقد عرضت كل ما توصلت إليه من معان على المعاجم، وأخذت منها مما بنيت عليه، واستخلصت المعاني المجاورة للسمع والأذن والصمم والوجوم، وتحدثت بعد ذلك عن الصوت: ماهيته وكيفية صدوره وحكايته للمعنى ، وكيف أن الصوت وإن دلّ على معنى ـ يظل قاصرا مبهما حتى يُجاء بصوت آخر على الأقل، ومن هنا كانت مفردات المعاني حرفين فأكثر.

    وانتقلت بعد ذلك إلى عقد مقابلة بين الأذن والعين ودورهما في اللغة، وأوضحت أن التركيز على العين في التعليم ـ تعليم اللغة بالذات ـ وذلك بالاعتماد على النسخ والكتابة والقراءة، أدى إلى خلل جسيم يتمثل في فقد القدرة على تنمية جهاز النطق؛ بحيث تكون استجابته للتعبير عن الأفكار سليمة، ذلك لارتباطه بالأذن، ومن هنا ينشأ أخرس أبكم ذلك الذي يولد أصما، ومن هنا أيضا، فإن من درجت أذنه على سماع الدارج من الكلام، فإن لسانه لن يتمكن من التعامل بالفصيح منه، لذلك، فنحن ندعو إلى ضرورة إعادة النظر في المناهج المتبعة في تعليم العربية، وضرورة إعادة عادة التتبيع والامتحانات الشفوية، وحفظ النصوص ـ القرآنية في المقدمة ـ وإشراك الطلبة في المناقشة بشكل فعال، والتخفيف من الاعتماد على العين في التحصيل اللغوي، ذلك أن السمع ـ كما يقول ابن خلدون ـ هو أبو الملكات اللسانية، وهل اللغة إلا ملكة لسانية، ألسنا نقول: اللسان العربي، وزيان ياريسي، ولشون عبريت، و English tongue ، ولا نقول قلم عربي أو انجليزي؟

    ثم تحدثت عما بين السمع والنطق من علاقة، والكيفية التي يتم بها نقل المعاني، ثم عرضت وظائف الصوت والدور الذي يقوم به في المقامات المختلفة، وأخيرا تحدثت عن برمجة الدماغ، حيث قدمت تصورا لخلية دماغية برمجت بكلمة ومعناها انطلاقا مما ترشحه الحواس الخمس، وختمت البحث بما نراه من دلالة اللفظ على المعنى، ابتداء من الحرف الواحد، فالحرفين فالثلاثة وأكثر، مرورا بالمباني والحركات، فالجمل والفقرات، وعقدت مقارنة بين المعاني والأجسام حيث تشترك في حد أدنى يتمثل في أنها لا تتم إلا بثلاثة أبعاد على الأقل .. هي الأحرف الثلاثة مقابل الطول والعرض والارتفاع.

    وقد ذيلت البحث بثبت المراجع والمصادر التي استقيت منها مادته.

    والله ولي التوفيق.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

    اللغة والأذن

     

    أ.د. يحيى عبد الرؤوف جبر

     

    اللغة في أصلها أصوات لمعان تتداولها الناس، وسبيلهم إلى ذلك جهازا النطق والسمع. فاللغو بعبارة أخرى هي الكلام المستخدم لمعانيه بين فم المتكلم وأذن السامع، أما الكتابة فما هي إلا رموز اهتدى إليها الإنسان في وقت متأخر لتدوين كلامه ومعانيه؛ شأنها في ذلك شأن النتوءات التي يهتدي بها المكفوفون إلى المعاني المقصودة بها (طريقة بريل) وشأن الإشارات التي يتفاهم بها الخرس، وهذه وتلك سواء في أنها لا تختلف كثيرا عن ما يقوم به الرمز.

    وقد يقال هنا، إن الأصوات هي الأخرى رموز (صوتية)، تقوم أدلة على المعاني، فنقول: إن طبيعة الرمز مختلفة في الحالين؛ فاستخدام الكلمة المسموعة هو الأصل، والنطق في الإنسان جزء من الفطرة التي زوده الله بها، بينما الكتابة ـ بوجه عام ـ ملكة مكتسبة، وكشف متأخر، ولا علاقة لها بإجادة اللغة والاتصاف بها.

    ولما كان الأمر كذلك، فإن حاسة السمع (الأذن بأقسامها وعصب السمع) هي الأداة الفطرية التي تخلق مع الإنسان للنهوض بمهمة إدراك ما يريده الناس حوله. والضحك ونحو ذلك من الأصوات الحيوانية، والتي تحدث في البيئة بشكل عام.

    وجهاز النطق هو الأداة التي تنهض بعملية الكلام تعبيرا عما يريده الإنسان سواء في الرد على غيره أم في التعبير عن حاجته، وبهذا يكون كل إنسان مزودا بجهازين فطريين متلازمين؛ أحدهما يرسل ويتكلم، والثاني يستقبل ويستمع، وإن خللا في أحدهما يؤدي إلى خلل في العملية اللغوية على نحو أخطر مما يؤدي إليه فقد الحواس الأخرى، بل إن تلف جهاز السمع، إذا كان مبكرا، يؤدي إلى تلف جهاز النطق، ولذلك فإن الذين يولدون صما، يكونون خرسا، وهذا يوضح مدى ارتكاز جهاز النطق على جهاز السمع وارتباطه به، وقد لاحظ ابن خلدون هذه العلاقة بينهما وذلك حيث قال في مقدمته (1) "إن السمع أبو الملكات اللسانية".

    ويختلف الرمز بالأصوات عن الرمز بالحروف ونحوها،ذلك لأن ثمة علاقة بين الصوت وما يدل عليه، تتمثل في حركة الفم وكيفية تشكيله، وفي صفة الصوت الصادر، كما تتمثل في إطلاقهم الاسم "فتحة" على الحركة الفصيرة  ـَ ، وفي شكلها وموقعها، مراعاة لانفتاح الفم عند التلفظ بها، والضمة ـُ مراعاة لضم الشفتين، والكسرة ـِ  بالنظر إلى كسر الحنك الأسفل عند نطقها (2). كما تتمثل في ما يمكن أن نسميه معاني الحروف، كدلالة الغين في أول الجذر على معنى الإخفاء والاختفاء، والنون على ابتداء الحركة، والقاف على القطع، والشين على الانتشار، والفاء على التفشي والتفريق، ونحو ذلك.

    ويقابل الرمز بالأصوات للمعاني، ما مر به الرمز بالصورة للمسميات، أو في مرحلة لاحقة، الرمز بصورة المسمى على الصوت (الحرف) الأول من اسمه، ثم تجريد تلك الصورة للدلالة على الحرف في أي مكان من الكلمة، أي كلمة، ولتوضيح ذلك نورد مثلا صورة الحصان للدلالة عليه، ثم استخدام تلك الصورة  للدلالة على الحرف "ح"، والتوسع في استخدامها في أي مكان من الكلمة، هنا توجد بعض الرموز التي لم أستدل عليها على لوحة المفاتيح.

     

    *                         *                          *

              وتتمثل حاسة السمع في الأذن بأقسامها الثلاثة: الخارجية أو ما يعرف بالصوان، والوسطى، والداخلية، بما في ذلك عصب السمع الذي ينقل الأصوات على نحو معين إلى الجزء المختص بمعالجة اللغة من الدماغ، ويمثل الصوان مرآة مقعرة، تعمل على جمع أكبر قدر ممكن من الذبذبات الصوتية، أو عن شئت، فهوائي محطة أقمار صناعية، أو كأنه عدسة لامّة ... تبارك الله أحسن الخالقين. 

              وجدير بالذكر أن العرب اشتقت من "الأذن" مفرزات أوقعتها على معاني العلم والإعلام ونحوهما، وتوجيه ذلك أن عملها ـ السمع ـ هو سبيل الإنسان إلى العلم، وهو الأصل في العملية اللغوية، والمكمل لجهاز النطق؛ حيث يجعل للألفاظ المنطوقة قيمة ودورا، ذلك انه لا قيمة لجهاز النطق فيبني الإنسان، ما لم تكن هنالك آذان تسمع، ولما كان الأصل في اللغة أن تكون أصواتا تنظم على نح معين، فإن الأذن هي الأصل في العملية اللغوية، بل في استجابة الإنسان لما يدور حوله؛ حيث يدرك بها أصواتا مبهمة (غير لغوية) ولكنها ترمز إلى معان في غيرها، كان تسمع خريرا أو عواء، فتدرك أن ثمة ماء أو ذئبا ونو ذلك مما لا يخفى عليك.

              وقد تنبه علماء العربية الأوائل إلى هذه العلاقة بين الأذن والعلم، ويتضح ذلك فيما جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3) من قوله: " والهمزة والذال وانون، أصلان متقاربان في المعنى متباعدان في اللفظ. أحدهما أذن كل ذي أذن، والآخر العلم، وعنهما يتفرع الباب كله، أما التقارب فبالأذن يقع على كل مسموع، وأما تفرع الباب، فالأذن معروفة ...".

              وفي هذا القول بيان لمدى التقارب المعنوي بين الأصلين، يتمثل في أن ابن فارس جعل مقداره هون التباعد اللفظي القائم بين كلمتي الأذن بمعنى الجارحة، والأذن بمعنى العلم، وهو اختلاف طفيف يتمثل في حركات الحروف وحسب.

              ومن الأذن قولهم للرجل السامع من كل أحد حديثا هو أذن. ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى في خبر المشركين في تطاولهم على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن، قل هو أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين" (4). وهذا التوجيه إنما هو من باب التجسيم والمبالغة، فكأن المقصود أن السامع قد تلاشى في أذنه وعطّل حواسه، ولم يبق منه سواها، فهو يلقيها لكل حديث تماما كما يفعل صاحب الرسوم الساخرة في تجسيم بعض أعضاء الشخصية التي يتناولونها بتعليقاتهم.

              ومن المادة الأذن وهو الاستماع، وقد سمي به لأنه بالأذن يكون، قال عدي بن زيد:

     

                                                                                                                "رمل"

    وسماعٍ يأذن الشيخ له                        وحديث مثل ماذي مشار (5)
    أي رب حديث يستمع له الشيوخ لطرافته، وهو أيضا كأنه العسل المجني حديثا، وشأنهم في ذلك شأنهم في اشتقاق شافه مشافهة من الشفة، وراوس بمعنى شاور من الرأس، وعانق من العنق.

              وقد تخص الأذن بما ظهر منها، وهو الصوان، أو ما يعرف بالأذن الخارجية، قال الشاعر في النعامة:

                                                                                                                                     "بسيط"

    فقيل أذناك ظُلْمٌ ثمت اصطلمت                    إلى الصِّماخ فلا قرن ولا أذن(6)
              والصماخ هو معبر السمع إلى الأذن الداخلية، ومن هذه الدلالة جاء إطلاق الأذن على عرقاة الدلو، وممسك الإبريق ونحوهما لجامع الشبه الشكلي.

              وأضاف ابن فارس (أذن): "والأصل الآخر العلم والإعلام، تقول العرب: قد أذنت بهذا الأمر أي علمت، وآذنني فلان: أعلمني، والمصدر الأذن والإيذان، وفَعَله بإذني أي بعلمي، ويجوز بأمري وهو قريب من ذلك، قال الخليل: ومن ذلك: أذن لي في كذا، ومن الباب الأذان وهو اسم التأذين كما أن العذاب اسم التعذيب، وربما حولوه إلى فعيل فقالوا أذِين، قال الشاعر:

                                                                                                               "رجز" 

    " حتى إذا نودي بالأذين"

    أي بالأذان، هو الإعلام بوقت الصلاة، وقلت: إن قول الخليل يعني انتقال الدلالة إلى معنى السماح، فكان معنى قولك: ائذن لي، استمع إلي واعلم، وكأن الأصل في الناس أن يكونوا أحرارا لا يستسمح أحدهم غيره إذا عزم أمرا، بل يكتفون بالإعلام، وبهذا يكون نقل الدلالة إلى معنى الاستسماح وليد العصور المتأخرة التي شهدت تحكم الناس بعضهم ببعض، وتطاول بعضهم على حقوق بعض.

              أو كأن الإيذان إشعار وتطييب خاطر على نحو ما يتجلى في قول الحارث بن حلزة اليشكري في مطلع معلقته:             

                                                                                                              "خفيف"

    آذنتنا ببينها أسماء                             ربّ ثاوٍ يمل منه الثواء(7)
    إي أعلمتنا، فكأنها تطلب رضانا بذلك، وذلك هو معنى الاستسماح.

              وجاء في اللسان قول ابن منظور(8): أذن بالشيء أذنا وأذَنا وأذانه: علم، وفي التنزيل:" فأذنوا بحرب من الله ورسوله" (9) أي كونوا على علم. كما أورد ابن منظور عن الليث (10) قوله: سمعت أذني زيدا يفعل كذا، أي أبصرته بعيني يفعل ذلك، لكن ابن منظور استنكر هذا القول ولم يقبله، ونعتقد أن فيه إشارة إلى اتحاد الحاستين على نحو ما يكون في المشاهدة ـ كمشاهدة التلفاز ـ حيث تعمل الأذن والعين معا، ويذكرنا هذا بما بين الأذن والبصر أو البصيرة، وهي جميعا بمعنى العلم، وبين الأذن والباصرة (العين) من تقارب وظيفي وتباعد لفظي، أي كأن الليث لم يجانب الصواب فيما نقل، وإن بدا متعارضا، وقريب من ذلك ما قاله بشار بن برد:

    والأذن تعشق قبل العين أحيانا

              وكما أن العين تبصر حركة جهاز النطق أثناء الكلام، الأمر الذي يستعين به الصم على الفهم أحيانا، فإن الأذن تسمع الأصوات التي تنجم عن الحركات التي يقوم بها "زيد" أثناء عمله، فيكون صوت الحركة المدركة بالأذن دليلا عليها، وإن كانت لا تدرك إلا بالعين، تماما كما يعنيه صوت خرير الماء النامي إلى أذنك من حركته، وذلك أن الخرير لا يكون إلا مع حركة الماء، فكأنك تراه بأذنك وتدركه بها، ومهما تكن من حال فالإدراك واحد بأي حاسة كان، أما رأيت أن الأذن والبصر يفيدان معنى العلم؟

    ومن الشواهد التي توضح انصراف الأذن لمعنى الاستماع مطلقا قول الشاعر:

                                                                                                              " بسيط"

    صمٌ إذا سمعوا خيرا ذُكرت به                                   وإن ذُكرت بسوء عندهم أذنوا (11)
    وهذا بمعنى قولهم فيمن يبدي الصمم وهو يسمع: فلان يسمع ما يريد وحسب، وبهذا المعنى فُسر قوله تعالى "وأذنت لربها وحُقَت" (12) أي استمعت، وأنشد ابن برّي في اللسان قول عمرو بن الأهتم: (13)

                                                                                                          "وافر"

    فما أن تسايرنا قليلا                               أذِنَّ إلى الحديث فهنّ صُوَرُ
    أي استمعن إليه فسالت بهن الطريق.

    وقد يقع الإيذان لمعنى استهواء الأذن. ويتضح هذا المعنى فيما أنشده ابن الأعرابيّ من قول الشاعر:

    فلا وأبيك خير منك إني                       ليؤذنني التحمحم والصهيل (14)
    أي يستهويان أذني فألقي إليهما، وأستمع إليهما معجبا.

    *                   *                   *

              وقد عرّف الجرجاني الأذان بقوله: الآذان في اللغة مطلق الإعلام وفي الشرع: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ معلومة مأثورة (15)، قلت: إن المعنى الشرعي قائم على قصر الدلالة وتخصيصها.

              وقال أيضا في تعريف الإذن: إنه في اللغة الإعلام، أما في الشرع: فهو فك الحجر، وإطلاق التصرف لمن كان ممنوعا شرعا. قلت: إن في المعنى الشرعي ما يرشح كونه بداية لوقوع اللفظ على معنى السماح السالف الذكر.

              ونعتقد أن كلمة (إذَنْ) التي يعبر بها عن الاستنتاج، إنما كانت لدلالتها هذه، لعلاقة بمعنى العلم الذي تنصرف له المادة (أذن)، ذلك أنها لا تقع إلا بعد معلوم، فكان العلم به إيذانا لنا بالقول الذي نستنتجه، ولك أن تتقصى ذلك في قولهم: محمد يحفظ دروسه جيدا، إذن ينجح.

              وقد توصف الأذن بالوعي، وخير مثال لذلك قوله تعالى: "لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية" (16)، وهذا من المجاز، وإنما يعي الدماغ ما تسمع الأذن، والمقصود نفس تسمع وتدرك، وربما كان على الحقيقة، إذ ما الحواس (أعصابها) إلا أجزاء وفروع تتشعب من الدماغ وتنتهي إليه.

              وعكس ذلك الضرب على الأذن، والختم على السمع في الاستعمال القرآني، والصمم فيه وفي غيره، وتتضح هذه المعاني في قوله تعالى في سورة الكهف: "فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا" (17)، فهم يسمعون ما يجري من حولهم. ولا يستيقظون طوال ذلك، وقريب منه قوله عز وجل: "ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون" (18) بحيث لا يكون في جهاز الإدراك فرجة ينتهي إليه السمع من خلالها، وفي قوله عز وجل أيضا: "أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون" (19). ما يسمعون، والصم هنا بمعنى المتصامين الذين يستكبرون على الحق، على نحو ما يظهر في قول الشاعر:

                                                                                                          "طويل"

    أصُمُّ على الشيء الذي لا أريده                                      وأسمع خلقِ الله حين أريد
    وقول الآخر:

                                                                                                              "رجز"

    أصمُّ عما ساءه سميع (21)

    أي أنه يتظاهر بالصمم فلا يسمع ما يسوءه، بينما هو في حقيقة الأمر سليم الحاسة، يدرك ما يسمع.

               وقد يطلق على الأذن اسم السامعة، وذلك على الأصل، لأنها هي التي تفعل ذلك، أو ـ إن شئت ـ تُمَكّن من ذلك، وقد وردت هذه الدلالة في قول طرفة  بن العبد البكري يصف أذني ناقته في معلقته:

    مؤللتان تعرف العتق فيهما                                   كسامعتي شاة بحومل مفرِد (22)
    أي كأذني بقرة وحشية منفردة بذلك المكان، وذلك أفزع لها، فسمعها وبصرها متيقظان، يتوجسان أن يداهمهما عدو من أي اتجاه (23).

              وما يزال عرب الحجاز وتهامة، إلى يومنا الحاضر يستخدمون كلمة "مِسْمَع) للدلالة على الأذن. وهو اشتقاق صحيح، لأنها آلة السمع وجهازه، وقد اشتقت الكلمتان ـ المسمع والسامعة ـ اسم آلة وفاعلا من الفعل الذي تقوم به الأذن، وأطلقتا اسمين عليهما، وهذا يمثل عكس ما ورد آنفا، من اشتقاقهم الفعل من الاسم حيث قالوا: أذنٌ وأذَنٌ وأذين اشتقاقا من الأذن الجارحة

              والسمع هو الفعل الذي أنيط خلقه بالأذن وهو أيضا اسم ذلك الفعل، وهو إما سمع صادق أو كذوب، والكذوب ما كان توهما ويتضح هذا المعنى في وصف طرفة أذني ناقته أيضا بقوله:

                                                                                                           "طويل"

    وصادقتا سمع التوجس للسرى                          لهجس خفي أو لصوت مندَّدِ (24)
    أي أنها لا تلقي أذنها أثناء سيرها ليلا إلا لتسمع ما هو صوت على الحقيقة، سواء أكانت خشخشة أم نداء أم نحو ذلك، فهي ليست كالخائف الذي تحدثه نفسه بأصوات لا وجود لها إلا في وهمه.

              وينصرف السمع لجملة من المعاني على الحقيقة والتحور، والأصل فيه ما قال ابن فارس: السين والميم والعين أصل واحد وهو إيناس ()إدراك) الشيء بالأذن من الناس وكل ذي سمع أذن (25). ومثله قول ابن منظور: السمع حسّ الأذن (26). وقول الجرجاني في تعريفه للسمع: هو قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ، يدرك بها الأصوات بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية الصوت إلى الصماخ (27). وفي قوله الهواء المتكيف بكيفية الصوت، إشارة مبهمة إلى ما يطلق عليه في العلم الحديث اسم الموجة الصوتية.

              وتنشعب من هذا المعنى معان أخر، بعضها لعلاقة بالوظيفة، وبعضها لعلاقة بالنتيجة، أو بالحال وغير ذلك. فقد ينصرف السمع لمعنى الإجابة، ومن ذلك قولك في الصلاة: سمع الله لمن حمده، بمعنى أجاب حمده وتقبله، وهذا واضح أيضا في قوله تعالى: "ادعوني أستجب لكم" (28) والدعاء أصوات تسمع، ومثله قولنا: يا سامع الدعاء، ويا مجيب الدعاء.

              وتوجيه هذه الدلالة أن السمع، الذي هو حس الأذن، ينقل معنى الصوت إلى ذهن السامع فيدركه، ويقوم برد الفعل اللازم ممثلا في الاستجابة، وهذا من قبيل البناء على النتيجة إيجابا. ومن قبيل ذلك ما ورد في الحديث الشريف: "اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يُسمع" (29) والمعنى يستجاب، وبهذا المعنى فسّر أبو زيد قول الشاعر:

                                                                                                               "وافر"

    دعوت الله حتى خفت أن لا                                  يكون الله يسمع ما أقول(30)
    أي يجيب، وما أوضح الربط بين السمع والإجابة في قوله تعالى: "إنما يستجيب الذين يسمعون" (31)، ويفهمون ما يسمعون.

              ومن هذا المعنى تولد معنى آخر مماش هو الطاعة، وذلك على نحو ما يفهم من قول عبد الملك بن مروان حين خطب الناس فقال: " ولِيَكم عمر بن الخطاب وكان فظا مضيقا عليكم فسمعتم له" (32) أي أطعتموه.

              ومنه تولد أيضا معنى القبول والعمل بما يُسمع، لأنه إذا لم يقبل ولم يعمل فهو بمنزلة من لا يسمع، قال تعالى: " إن تُسمع إلا من يؤمن بآياتنا" (33) أي لن يقبل منك إلا الذين يؤمنون بكتاب الله.

    وقد يأتي السمع بمعنى العلم لأنه أداته كالبصر والرؤية وعلاقتهما بالبصيرة والرأي، ويتضح هذا المعنى في قوله تعالى: "فلما سمعت بمكرهنّ أرسلت إليهنّ" (34) أي فلما علمت، ويؤكد ذلك تعدية الفعل بحرف الجر، لأنها لم تعلم ذلك منهن مباشرة، وإنما انتهى إليها قيلهن عن طريق غيرهن.

    وينصرف السمع لمعنى الفهم، ذلك بما هو الوسيلة المؤدية إليه، ويتضح هذا المعنى في قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" (35)، والمعنى حتى يفهم شيئا منه على يدك، وبهذا، دون غيره، يتحقق الغرض لأنه قد يسمع ما لا يفهم فلا يكون ثمة وجه للمهلة والإجارة، ومثله قوله تعالى: "ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحا" (36) إذ المعنى فهمنا وأدركنا الحقيقة.

    وقد يأتي السمع بمعنى الوجود، وذلك على نحو ما يفهم من قوله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" (37) ذلك ان الأذى لا يكون كلاما وحسب، ولكنه إلى جانب ذلك، أفعال ونحوها، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى إذا لقوها لقوها وهم مستعدون (38).

    وقد ورد السمع في القرآن الكريم مستخدما في مقام ظاهره أن البصر أولى منه به، وذلك حيث قوله تعالى: "من إله غير الله يأتيكم بضياء، أفلا تسمعون" (39) نظرا لارتباط الضياء بالإبصار. ومعنى السمع ها هنا العقل والوعي، كأنما المقصود أفلا تعقلون؟ ويؤكد هذا الذي ذهبنا إليه أن العقل جاء معطوفا على السمع بأو التي تفيد التخيير في بعض معانيها، وكذلك في قوله تعالى: "لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" (40) إلا أن تكون "أو" هنا بمعنى الواو كما هي في قول الشاعر في الشاهد النحوي المشهور:

                                                                                                       "كامل"

    قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم                                        ما بين ملجِمِ مهرِه أو سافِعِ
    أي ما بين ملجم مهره وسافع مهره، وتوجيه ذلك أن السمع يسبق العقل ويؤدي إليه، ولكن هذا التقدير مرجوح لأن السمع يأتي بمعنى العلم كما أسلفنا، ومثل هذه الآية في قوله تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون" (41)

              ومن معاني السمع التي وردت في القرآن الكريم استخدام الحاسة المختصة بهذه المهمة والانتفاع بها، وذلك حيث قوله تعالى: "ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها" (42) أي لا يستغلونها في ما ينفعهم.

    *                                  *                                    *

              وعكس السمع الصمم، وقد يُطلق على عدم الفهم وعدم الاستجابة؛ حقيقة كانت أو استكبارا وعنادا، وقد يُنعَت به ما لا يسمع أصلا، ومن ذلك قولهم صخرة صمّاء، كقول امرئ القيس:

                                                                                                             "طويل"

    فيا لك من ليل كأن نجومه                            بأمراس كَتّان إلى صُمّ جَنْدَل (43)
    وذلك أن الجذر ( ص م م ) يدل على تصامّ الشيء ـ كما في الصخور ونحوها ـ وزوال الخرق والشتم كما في الأذن (44). ومن ذلك صِمام القارورة لأنه يسدّ الفرجة.

              وقد نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إنّ كل جذر يبدأ بالصاد فالميم، فهو إلى دلالة تقع على معنى التضامّ، ولك أن تستظهر ذلك في الجذور: صمت صمد (الصمد: الجبيل من صخور متراصة)، صمغ، ومن ذلك أيضا صمخ الذي منه صماخ الأذن، وهو خرقها الواصل بين الأذن الوسطى إلى الصوان، وفيه يكون الصمغ الذي تفرزه الأذن، فهو متضام ضيق يكاد الصمغ يسده، وقد سمعت عرب عسير يقولون "أصمختني" بمعنى آذيت صماخي بكثرة كلامك، فكأنك ملأته به وسددته، وربما كان الاشتقتق من ( ص م خ ) لعلاقة باللزوجة والتماسك كالصمغ، لأنه موضع تلك المادة.

              وبالتأمل في العلاقات اللغوية يقف الدارس على حقيقة مهمة بين السمع والصمم من ناحية، وبين النطق والخرس (البكم) من ناحية أخرى، حيث نرى أن الله تعالى وفق الإنسان إلى توظيف تلك الصفات واستخدامها على نحو متقابل، ليس في مجال لفظة واحدة وحسب، بل في عدد من المفردات، الأمر الذي يرشح التوقيفية اللغوية في بعض جوانبها، ويرجحها (45).

              ومن قبيل ذلك ان الوجَمَ (ويؤنث) هو الصخر الأصم .. والوجوم هو الصمت المطبق من الإنسان مع سكون الحركة، والصمت من الإنسان ألا يتكلم، وألا يفتح فمه، وكذلك صخرة مصمتة إذا لم يكن فيها فتحة ولا صدع، وباب مصمت إذا كان إغلاقه مبهما فلا يدري كيف يفتح، وذلك إنسان أخرس وتلك آثار وأطلال خرس لا تبين.

              وما نرى ما تقدم إلا انطلاقا من العلاقة الوثيقة التي تربط بين جهازي السمع والنطق، تلك العلاقة التي تتمثل في خَرَس من يصاب بالصمم في سن مبكرة، ولم يكتشف أثر السمع في النطق إلا في مرحلة متأخرة من عمر الإنسان الحضاري، ولكن الإنسان اهتدى بفضل ما زوده الله به من "فطرة" إلى شيء من ذلك، وإن لم يكن عن قصد منه، فكانت الصاد والميم مع ميم الأخرى أصلا يدل على فقد السمع (الصمم)، والصاد مع الميم مع التاء، أصلا يدل على عدم النطق (الصمت المطبق والخرس) ولو لحين. ذلك أن الأصل في دلالة كلا الجذرين أن تكون للصاد والميم، وهما إلى تضام.

     

     

    الصوت:

     

              تختص الأذن بإدراك الأصوات والعين بالألوان، فما هي حقيقة الصوت؟؟ قال الجرجاني في كتاب التعريفات: الصوت كيفية قائمة بالهواء يحملها إلى الصّماخ (46)، وقال في موضع آخر: الأصوات كل لفظ حكي به صوت نحو "غاق" حكاية صوت الغراب، أو صوت به للبهائم نحو "نخ" لإناخة البعير، و"قاع" لزجر الغنم (47).

              ونقول بدورنا: إن الصوت هو ما تدركه الأذن عند حدوث احتكاك بين جسمين أو جزئين من جسم واحد على الأقل، وكلما كثرت المحتكات في آن واحد، كانت الأصوات متداخلة على نحو يجعل تمييزها صعبا كما هي الحال في الضوء، وهذا يعني ـ بإيجاز ـ إن الصوت وليد حركة قائمة على الاحتكاك، وقد نذكّر هنا بما تكون عليه أذن الساري من تيقظ شديد لأي صوت يند في سكون الليل، ذلك لتعطل حاسة البصر تقريبا.

              وتختلف الأصوات باختلاف ما تصدر عنه، وقد عرف الإنسان كثيرا منها، وعلّم بها على مصادرها، فهو يعرفها دون أن يراها، فتسمع صياح الديك فتدرك أن الصائت هو ذلك الحيوان المعروف. وتسمع الرعد فتدرك أن ثمة سحابا وبرقا.

              وقد يترتب على الاستدلال بالصوت تصعيد للمعرفة، كذلك الذي يعكسه بعض الناس في تعليمهم بصياح الديك على حلول الفجر، أو بالبكاء على اللم، وبالضحك على المسرة. وربما زاد الناس فربطوا بين بعض الأصوات وما لا علاقة لها به، كالتشاؤم عند سماع نعيق البوم و نعيب الغراب، أو أن تصيح الدجاجة صياح الديك، وهذا ما يقابل في مجال العين ما سبق أن ذكرناه من استخدام الصورة للدلالة على الحيوان ثم للدلالة على أول حرف من اسمه، وباختصار، فإن لكل صوت دلالة قريبة وأخرى بعيدة.

              وألفاظ اللغة أصوات مركبة من أصوات مفردة، ولكلٍ دلالة، ونمثل لذلك بمعنى الطرق الذي يحدث في الذهن عند سماع صوته، حيث يكون دلالة على وجود ثلاثة عناصر هي الطارق والمطروق به والمطروق عليه. وبعبارة أخرى فإن هذه العناصر هي التي أسمعتنا صوت الطرق، والصوت هو الذي عرّفناه بالمعنى، غير أن أصوات اللغة لا تأتينا من البيئة الخارجية، بل من جهاز زوده الله بطاقة فطرية قادرة على إصدار الأصوات، ولكن هذه الأصوات ليست في دلالتها على المعاني كأصوات الحيوانات ـ والطرق ـ ونحو ذلك، حيث يدلك صوت الكلب مباشرة عليه، إنما هي أصوات رامزة، وقد تبلورت فيها جملة الأصوات التي تصدر خارج الإنسان في البيئة، فجاءت تحمل دلالتها على نحو فيه غموض، ولك أن تتحسس من ذلك بالمقابلة بين أصوات المفردات التالية ومعانيها التي تحدث: فرّ، جرّ، شدّ، قشّ، قشر، حشّ، دشّ (جش)، خشخش ونحوها، ولذلك، فهي لا تستعمل إلا مركبة من ثلاثة في الغالب على الأقل، وهذا ما يعرف بالكلمة، ولما كان الإنسان في حديثه يعكس الأحداث التي تجري في البيئة والحياة ـ الحركات ـ وهذه أكثر من أن يعبر عنها بالكلمة، فقد لجأ الإنسان إلى تركيب المركب في بناء أكبر هو الجملة، والجملة في حديث طويل وهكذا.

              وتختلف دلالة الأصوات المفردة باختلاف مواقعها من المفردة المركبة، تماما كاختلاف المعنى الناجم عن الاختلاف في مواقع المفردات، فالكلمة هي عنوان المعنى، أو ـ بعبارة أخرى ـ فإن دلالة الصاد في أول الكلمة غير دلالتها عندما تكون في آخرها، وإن كان هناك تقارب، فكأن دلالة الصوت المفرد في اختلافها بالنظر إلى موقعه، تتأرجح على طرفي الذبذبة التي يحدثها عند وقوعه، أو أن الحروف تستأثر بدلالة المفردات بأسبقيتها.

     

    بين الأذن والعين:

     

              الأذن جهاز يعمل بشكل مستمر، حتى أثناء النوم، ولهذا كانت، ولهذا أيضا خلقها الله سبحانه وتعالى دون غطاء، على العكس من العين، حيث يغطيها الجفن على نحو إرادي أثناء اليقظة، وغير إرادي أثناء النوم، وبذلك تتوقف عن الإدراك.

              وتنتهي الأصوات إلى الأذن من أي اتجاه أتت، وهذا يعني أنها تمثل مركز كرة، وبهذا يكون انتفاع الإنسان بها أعظم لمتعة الحياة وسلامتها، ولا يكاد يضاهيها في ذلك من الحواس إلا العين.

              وتستطيع العين ان تدرك المرئيات في جميع الاتجاهات، كالأذن مع المسموعات، ولكن ليس بنفس الطريقة، إذ لا بد من الاستدارة بالرقبة أو بكامل الجسم لإدراكها بالعين، وأفضل الإدراك ما كان باتحاد العين والأذن، على نحو ما يحدث في اللقاءات العامة ومشاهد البيئة الحية ومشاهد التلفاز على سبيل المثال، ولنتدبر هاهنا يطمئن موسى وهارون عليهما السلام حين خافا أن يذهبا إلى فرعون: "لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" (48) وأحميكما من كل مكروه يُرى أو يُسمع.

              أما في مجال اللغة، وهي أصوات مركبة لمعانيها على نحو معين، فإن الأذن تنهض في اكتسابها وأدائها بوظيفة أخطر وأهم من تلك التي تؤديها العين في مجال اللغة المكتوبة التي هي رموز للرموز، فالسمع يمكن للإنسان ما لا يمكنه من النظر، فالجملة (أهلا وسهلا) لا تكتب إلا على نحو واحد، ولكنها قد تلفظ بعشر طرائق مختلفة، ولكل طريقة دلالة على المقام، لا تنهض بها الكلمات المكتوبة.

              وبعبارة أخرى، فإن النبرة والتنغيم والترتيل والتجويد والإمالة والروم والإشمام ونحوها ـ تُحدث أثرها في الأذن، ولا يمكن التعبير عنها بالكتابة، اللهم إلا بقدر ما تؤديه علامات الترقيم من ذلك، ولتدرك مدى الاختلاف بين الإدراك الحادث بالسمع بالأذن، والإدراك الحادث بالقراءة بالعين، اقرأ سورة من القرآن الكريم، ثم استمع إلى الشيخ محمد رفعت ـ على سبيل المثال ـ يرتلها، أو اقرأ قصيدة لشاعر، ثم استمع إلى تسجيها بصوته، عندئذ ستدرك أن الرق بين الحالين كبير.

              ولهذا فإن ثمة خللا كبيرا في العملية التعليمية يتمثل في أن التركيز في المدارس ينصبّ على اللغة المكتوبة أكثر منه على المسموعة، والسمع والنطق مترابطان متلازمان على نحو ما سيأتي، بينما النظر والنطق متباعدان، بل لا بد من صلة تربط بينهما تبدأ بتحليل الرمز المرئي، وتنتهي بتحويله إلى رمز مسموع، أي أن السمع يتوسط بينهما، ولهذا يجب أن تكون العناية بالسمع أشد من العناية بالنظر في العملية التعليمية التعلمية ولا سيما ما ارتبط منها باللغة.

              وتبدو المشكلة أكبر عندما يقصّر الطلاب في التحدث بلسان فصيح، وما نرى ذلك إلا نتيجة للاختلاف القائم بين قناتي التلقي والإلقاء، فالتلقي أكثره بالنظر في المكتوب، بينما الإلقاء مرتبط بالسمع، وباختصار، فإن تعليم النطق السليم والحديث والمشافهة يقتضي تدريب الأذن على السماع، وليس تدريب العين على النظر ـ القراءة ـ أي أن ما هو قائم الآن في المدارس يقتضي إعادة النظر، ولا سيما في مجال تعليم اللغة، ونحوها وصرفها، على وجه الخصوص، لأنهما في الأصل من علوم السماع.

              ويتضح دور السمع والبصر في الإدراك والإحاطة في أنهما مفتاح الإنسان على العالم من حوله، ولولاهما لعاش الإنسان في ظلمة مطبقة وصمت رهيب، ولكان معزولا عن الحياة، ولا يختلف عن الموتى إلا بما هو قليل.

              ونظرا لمكانة هاتين الحاستين ودورهما في الإدراك، فقد ذكرهما القرآن الكريم معا، أو مفردتين، كما ذكرتا في معرض منّ الله سبحانه وتعالى على عباده أن زودهم بهما، وقد وصف نفسه بهما، فهو السميع البصير، كما وصف بهما عبده، إذ خلقه فجعله سميعا بصيرا، وقد جاء ذلك كله بتقديم السمع على البصر، والغالب في ذلك أن يستخدم السمع مفردا والبصر مجموعا (الأبصار). وقد أحصينا من ذلك سبعا وعشرين مرة وردت في مثلها من الآيات، ولم يقدم البصر على السمع إلا مرة واحدة فيما نعلم، وذلك في قوله تعالى: "مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع" (50). ويلاحظ هنا أن الآية في الفقد والمقابلة، ونرى في هذا ما يشير إلى أن دور السمع أخطر من دور البصر في حال اجتماعهما نعمتين من الله سبحانه وتعالى. وأن فقد البصر أشد على الإنسان من فقد السمع في حال فقدهما، متعنا الله بأسماعنا وأبصارنا، وهدانا بهما إلى ما يرضيه.

              ولكل امرئ مجال لسمعه وبصره، يختلف فيه عن سواه، قليلا كان ذلك أم كثيرا، وكلما ابتعد الجسم المنظور، ومصدر الصوت المسموع، كان الإدراك أقل، وعلى العكس من ذلك إن اقتربا، مع مراعاة ما تختلف به الأجسام المنظورة والأصوات المسموعة من صفات في ذاتها تؤثر في مدى الإدراك من جانبها. وتختلف العين عن الأذن في أن إدراكها السوي لما ترى يتوقف عند مسافة معينة، تمتد من عيني الناظر إلى أقرب نقطة يلتقي عندها نظر عينيه، أي إلى الأمام قليلا من أنفه.

              وكما أن البصر يكذب السمع أو يؤكده، ولا يصلح بمفرده شاهدا على اليقين في بعض الأحوال، فإن السمع هو الآخر قد يكذب البصر، أو يؤكد ما يراه أو يشك فيه، فقد ترى ما تحسبه ذهبا، فتنقده نقد الدراهم تنقاد الصياريف، فيتبين لك من صوته أنه مزيف، وقد تراه أشعث اغبر فتحقره، فلا تسمعه حتى تغير موقفك منه، وعلى العكس من ذلك، فقد تراه فيعجبك جسمه، ولكن إذا تكلم سقطك من عينك، وقد أصاب زهير حيث قال:

                                                                                                            "طويل"

    وكائن ترى من صامت لك معجب                      زيادته أو نقصه في التكلم
    لأن الكلام يدل على ما في الدماغ من تبر المعاني او تبنها.

     

    *                              *                                     *

     

    السمع والنطق:

              يولد الإنسان صامتا، إلا من بكاء يليه بعد مدة ضحك ثم مناغاة فكلمات محدودة بسيطة التركيب، إلى أن يصبح ناطقا يتكلم بلغة القائمين على تربيته: أبويه أو سواهما، من قومه كانوا أم من قوم سواهم. يسمع الطفل قبل النطق كلاما كثيرا، وتراقيص وأشعارا يرددها والداه وأهله على مسمعيه، فيحاول أن يقلد فيصيب مرة ويتعثر مرة أخرى، إلى أن يتقن التلفظ بها.

              وقد لوحظ أن كثيرا من حالات الخرس (البكم) تكون ناتجة عن صمم مبكر، الأمر الذي يحول بين الوليد وبين سماع الأصوات التي يرددها ذووه على مسمعيه، فلا يدري ماذا يقلد ولا كيف وبذلك يعجز عن النطق.

              ونعتقد أن هناك في الدماغ مركزا واحدا يسيطر على جهازي السمع والنطق معا، يعمل مرسلا تارة ومستقبلا تارة أخرى، دون أن يجمع بين الفعلين في الوقت الواحد، ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يسمع ـ ويعي ما يقال ـ في الوقت الذي يتكلم فيه، وذلك لسببين هما:

    (أ‌)     أنه يسمع كلام نفسه أعلى وأوضح من كلام الآخر.

    (ب‌)  أن المركز المشار إليه يكون مشغولا بالإرسال دون الاستقبال، وتكون صماماته ـ عن جاز التعبير ـ مغلقة في أحد الاتجاهين، ونعتقد أن هذا هو المقصود بقوله تعالى: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" (52)، وهذا لا يتعلق بالسمع والنطق وحسب، ولكن بالحواس كلها، فالإنسان لا يستطيع أن يركز النظر على جسم ما في الوقت الذي يركز فيه السمع على صوت منبعث من جهة أخرى، فكأن هناك صماما ينظم ويوجه حركة الإدراك. ولكن الحواس قد تتحد في الإدراك، ومن ذلك الأذن والعين في المشاهدة، واشتراك الذوق والشم ـ وربما البصر ـ عند الأكل والشرب، واللمس والبصر عند عد النبضات من مريض، وربما شاركهما السمع.

    ونعود إلى المركز الدماغي الموكل بالسمع والنطق فنقول: إن هذا المركز يكون مبرمجا بطريقة ما بحيث تقع كلمة (سيارة) في المكان (أ) مثلا من ذلك المركز عند سماعها، وبحيث تخرج الإشارة العصبية من ذلك المكان (أ) إلى جهاز النطق ليصدر نفس الكلمة (سيارة) عند الحاجة إليها.

    ونعتقد أن عملية الفهم إنما تتم بوقوع المسموع في الأماكن نفسها التي أفردها الدماغ له. فكأنه ينتهي إلى المكان الذي يصدر عنه، كأن تكون المفردات التي تتكون منها جملة (المطر غزير جدا) ومعانيها في المواقع 13، 58، 7، فتقع هذه المعاني عند سماعها في مواقعها نفسها التي يخرجها منها إذا أراد التلفظ بها، فكأنه يقولها هو نفسه عند سماعها من غيره، وبذلك يكون الفهم.

         وربما كان فهم أبطأ من فهم، وهذا يعني أن بعض الناس يقلب ما يسمع ليضعه في أماكنه، ويتثبت منه، وفي هذا يكون التفاوت، ولهذا كانت سرعة الصوت (330م/ث) بطيئة نسبيا، قياسا بسرعة الضوء (168000 ميل/ث) كأن الفهم يتعذر إذا كان الصوت أسرع من ذلك، أو على الأقل لا يكون سويا قويما على النحو الذي يتفق مع خلق الإنسان في أحسن تقويم.

         وبهذا يكون السمع والنطق في حقيقة الأمر شيئا واحدا، ولهذا فإن أكثر الناس فهما لما يقال هو القائل لنفسه، لأنه يمارس كلا الأمرين معا في الوقت الواحد، ومن هنا رأينا المجوّد والمرتّل والمؤذن، يض1عون أيديهم على آذانهم لزيادة تردد ما يسمعون من أصواتهم، وإحداث مزيد من الصدى يتمكنون به من تحديد مقادير المد والتنغيم والإدغام وغير ذلك من الأحكام، إلى جانب ما يشعر به المرء من رضا وطرب يحدثهما ما يسمعه متقنا من نفسه، وما يستأنس به منه، وإلى جانب الزيادة في المعنى الذي يدركه هو نفسه بما يقول، الأمر الذي يتجلى في أمر الله القارئ للكتاب أن يرتله ويجوده، لأن في ذلك إدراكا للمعاني أكثر.

         ثم عن كثيرا من الناس يعيدون ما يسمعون، ذلك ليفهموه جيدا، ويتيقنوا منه، وربما فكر الإنسان بصوت مرتفع؛ فهو يمر بالفكرة على سمعه، ثم يدور بها على عقله مجددا، زيادة في التأكيد والتدقيق.

         أما التفكير الصامت فما أشبهه بعملية التسجيل الداخلي، بأن يسجل من المذياع قبل خلوص التيار إلى مكبر الصوت (السماعة)، وذلك بتوصيل السلكين اللذين ينقلان التيار الكهرومغناطيسي ـ غير المسموع ـ إلى السماعة بالسلكين اللذين يتصلان بجهاز مغنطة الشريط فيكون التسجيل دون أن يمر الصوت من السماعة عبر الهواء إلى لاقط الصوت (الميكروفون). وبعبارة أخرى يكون التفكير حديثا من النفس إلى ذاتها، وحوارا في مركز الدماغ المتحكم في حاسة السمع وجهاز النطق يجريه بينهما، وذلك بأن تنفتح الصمامات بالتناول في الاتجاهين. وهو نشاط تحدثه مواقع المفردات (الأصوات) والمعاني يشبه إلى حد بعيد ما يكون بين الكهرباء والمغناطيسية من ملف على قطعة حديد، كل منهما تحدث الأخرى بشكل متكافئ.

                                *                       *                           *

     

    وظائف الصوت:

    للصوت وظائف عديدة، يتمثل أدناها في التعريف بمصدره، كأن تسمع مواء، فتدرك أن هرة توجد غير بعيد منك، وتختلف هذه الوظائف باختلاف ما يقصد بها، وسنقصر الحديث على الأصوات اللغوية دون غيرها، ويمكن إجمال هذه الوظائف بما يلي:

    1.  التعبير عن الرضا والفرح: ويتمثل ذلك في الغناء والهزج ونحوهما، ومن ذلك ما يقصد به الإمتاع والمؤانسة، متمثلا فيبعض الأصوات التي يرددها الإنسان إذا خلا لنفسه، أو أثناء العمل تنشيطا لنفسه أو لمن معه من إنسان أو دابة، على نحو ما قيل في نشأة الحداء قديما.

    2.  الطلب والإجابة: أي أن الإنسان قد يُسأل فيجيب عما سئل عنه، وقد يَطلب شيئا فيُرفَض أو يُقبَل، ويحتاج إلى المساعدة فيسأل من يليه، (يدخل فيه التعليم والإفصاح والإخبار والإملاء والأحاديث في المجالس وغيرها).

    3.  الفهم: يسمع المرء حديثا فيدرك معناه، ويستوعبه، وليس شرطا هنا أن يجيب أو يعبر، بل يكتفي بتخزين ما أدركه واستخلصه منه في الذاكرة، ليستخدمه عند الحاجة، وهذه هي أخطر وظائف الصوت.

    4.  التنبيه والتنويم: حيث يستخدم الصوت لتنبيه النائم ولتحذير الغافل ونحوه، وعلى العكس من ذلك فقد يستخدم الصوت الرتيب في التنويم، على نحو ما نعرفه من تربيت الم على طفلها، وما تحدثه بعض انواع الموسيقى في النفس.

    5.     التعبّد: ويتمثل في الصلوات والدعاء ونحو ذلك.

     

    وقد تتم هذه الوظائف بغير الصوت، كالإشارة، ويدخل فيها الابتسام والتلويح باليد، وهزّ الرأس، وتحريك العين والفم، والنظر المعبر، وحديث النفس الذي يقوم فيه الإنسان مقام السامع والمحدث في آن واحد، وذلك بأن يبعث في ذهنه أفكارا ما، فيكون كأن قد سمعها، ويروح يقلبها ويداخل بينها ويحللها، ويذهب بها في كل اتجاه حتى تستوي له، وتتمخض عن فكرة أضخم وأعظم، أو تنكشف عن سرّ أو دلالة، على نحو ما يتم من ذلك في حالات التفكر والتدبر والتأمل، حيث يقف الإنسان موقف السائل والمجيب، وذلك بإجراء العملية اللغوية عن طريق التوصيلات الداخلية بين أعصاب، التي يقوم عليها جهازا السمع والنطق، عبر المركز الدماغيّ المتحكم فيهما، وقد تشترك في هذه الحال أعصاب الحواس كلها من نظر ولمس وشم وذوق، لكن المعوّل عليه السمع والنظر لاتساع مجال إدراكهما وخطورة ما يدركان (53).

              وبعبارة موجزة، عن حديث النفس حديث على الحقيقة، ولكنه لا يخلص إلى الهواء، ولتدرك حقيقة ذلك، تصور أن رجلا كان يحدّث آخر بصوت عالٍ ثم راح يهمس في أذنه همسا، فتراجع وصار يحرك شفتيه بالحروف دون أن يحدث صوتا، فاستاء صاحبه وتساءل عما إذا صار يحدث نفسه، ثم توقف الرجل عن تحريك شفتيه وأطبق فمه، وربما راح يشير برأسه ويديه وعينيه ... أما ترى أن هناك في الحالين الأخريين إشارات عصبية تصدر من مركز الدماغ المسيطر على جهازي السمع والنطق إلى جهاز النطق، ولكنها تكون على شكل نبضات خفيّة؟ كتلك التي تتخلق في ما يعرف ب "OUT PUT" المذياع، الذي يحول التيار الكهربائي إلى كهرومغناطيسي، يمكن أن نحس بذبذباته باللمس، وقد نحسها بالسمع أحيانا حتى قبل تكبيرها بالسماعة.

              إن حديث النفس أشبه بنبضات القلب وإن كان أخفى منها، وهذه في الغالب لا تسمع إلا باستخدام سماعة الطبيب أو بوضع الأذن على الصدر ... ولكنها لا تُسمع من بعيد، بل إن الإنسان لا يستطيع سماع قلبه، فما بالك بصوت حديث النفس والتفكير ـ والسرّ والنجوى؟؟ إنما يسمعها الله سبحانه وتعالى وصدق الله العظيم حيث قال: "أم يحسبون أنّا لا نسمع سرّهم ونجواهم" (54)

     

                             *                  *                   *

    برمجة الدماغ:

     

              يقول العلماء بطبّ الأذن أنها تدرك "400000" صوت مختلف، وهذا العدد يتضمن الأصوات المفردة، كالصاد والسين والعين، والمركبة كالصوف والسيل والعسل، إلى جانب الأصوات التعبيرية التي لا تترجم إلى حروف، والأصوات التي تنجم عن احتكاك الأجسام المختلفة، ونحو ذلك. غير أن الأصوات اللغوية محدودة جدا، وذلك لأنها مصوغة من ثمانية وعشرين صوتا مفردا. وفي الكلمات تتراوح ما بين حرف واحد إلى سبعة. وجلها من ثلاثة إلى خمسة،وهذه التركيبات ضرورية حتمية، لأن عدد المرئيات أكثر من ذلك بكثير، فلابد من التركيب لتغطية جزء منها على الأقل. ولوضع مفردات لها تدل عليها، أضف إلى ذلك المعاني التي لا تُرى، وهي بحاجة إلى مفردات تعبّر عنها.

              وقد نشبه الجزء المتحكم باللغة من دماغ الإنسان، بخلاياه المنتشرة، بقرص من شمع العسل سعته       ( 400000) خلية، منها مئة ألف للأصوات اللغوية مفردة ومركبة، ولو قصرنا تصور البرمجة على هذا القدر من الخلايا ومثلنا للخلية الواحدة بالمربع التالي: (انظر الشكل في الأصل)

                           

    لكان بإمكاننا القول: إن كل خلية تحتوي على صورة صوتية (كلمة أسد) ويقبع من ورائها ما سجلته الحواس في تلك الخلية من مدركاتها المختلفة ما بلغته وأدركته، وهو أمر تتفاوت فيه الناس، كما تتفاوت فيه المدركات والصور الصوتية، ويقبع وراء ذلك المعنى العام، أو الصورة المعنوية المقترنة بالصورة الصوتية، وهذا المعنى متفاوّت فيه أيضا، لأنه يمثل ما يدركه الإنسان عن ذلك الكائن، فعندما يذكر "خلاصة" الأسد في مجلس ما، فإن واحد من الحضور، يفهم المقصود على نحو مختلف، يتحكم فيه مبلغ علمه عن الأسود، ومن هنا يبدأ الاختلاف والخلاف بين الناس، ولكن هناك مفردات لا يكون الاختلاف حول معانيها كبيرا. لأن معرفة الناس بها تكاد تكون متكافئة، كالحيوانات والنباتات والثمار وغيرها.

              وقد يقال: ماذا عن المعاني التي لا تمثل بأجسام، ولا بأصوات، ولا تدرَك بالحواس، كالجمال والبعد والحرية؟ فنقول إن هذه المعاني خيالات قائمة على الأحاسيس إياها، فالإحساس بالجمال يتم أصلا بالنظر، وعند الحديث عن الجمال تسبق إلى الذهن صورة جميلة رآها الإنسان وتركت في ذهنه انطباعات معينة، والإحساس بالبعد يتم أيضا بالنظر؛ لأن الإنسان يدرك بالنظر ما بين مكانين، أو يقطع المسافة سيرا، فيمر بنظره على أجزاء الطريق الواصل بينهما، والإحساس بالحرية يتم بالنظر إلى رجل أو طائر في قفص يحاول الخروج منه، وبسماع صوته متذمرا ... الخ.

              وهذا يعني أن أدمغة أهل اللغو الواحدة، تُبَرمَج بطرق مختلفة من إنسان لآخر، فإذا استخدم أحدهم كلمة ما في كلامه، فإنه يريد بها ما يقبع وراءها من مدركات حواسه عنها، أما المستمع، فإنه يفهم منها ما يقبع في الخلية التي تحملها من مدركات حواسه هو، وهي في الغالب مختلفة عن مدركات المتكلم إلى حد يتحكم في مداه البيئة العامة التي نشأ فيها كلاهما. ومن هنا كان أكثر الناس تفاهما هم أولئك الذين يعيشون في الدائرة الأولى من دوائر المجتمع، دائرة الأسرة الواحدة.

              وما من مفردة (صورة صوتية) إلا كان من ورائها حاسة ـ على الأقل ـ تلقي بالضوء على معناها، فالطول من ورائه البصر، والرنين من ورائه السمع، والمرّ يدرَك بالذوق، والعطر بالشم، واللين بالمس، ولكن حاسة السمع تمتاز عن هذه جميعا، بأنها تدرك الصور الصوتية التي تلقي الحواس الأخرى بأضوائها عليها، او بعبارة أخرى، عن اللغة في أصلها، سمع ونطق بصورة صوتية تعبر عن مدركات الحواس، يلتقيان ـ السمع والنطق ـ في جزء الدماغ المتحكم بجهازيهما، فيما يعدان أبرز نشاطين يحدثهما.

              ودلالة الأصوات على المعاني دلالة تقريبية، فكلمة الأسد عندي لا تعني نفس المعنى الذي عندك، كما أنها لا تعني نفس المعنى عند رجلين يشاهدان أسدا ويتحدثان عنه، وأن تقول لرجل زارك في بستانك: اجلس تحت هذه الشجرة، فإن "الشجرة" عند القائل غيرها عند المقول له، وهي عندهما غيرها عند من سمع الخبر أو قرأه في كتاب، ولكن الذي يهون هذه "الغيرية" ولا يجعلها ذات بال، هو أن دور الشجرة في الحديث غير ذي بال، لأنها واقعة في ما هو فضلة (ظرف)، والمعوّل عليه هو الفعل (الجلوس) ولكن هذه "الغيرية" في ما ليس بفضلة، وبذلك تكون التقريبية التي ذكرنا.

     

    دلالة اللفظ على المعنى:

    تتكون مفردات العربية من جذور ثلاثية في الغالب، ولكل من هذه الجذور دلالة مستقلة ينصرف لها، ولما كانت المعاني والمسميات أكثر من الجذور، فقد وجد الإنسان نفسه مضطرا لوضع مفردات جديدة، وذلك باستخدام الجذور التي تتولد من المشاركة بين الأصوات العربية الثمانية العشرين، فاهتدى إلى ما يُعرَف في الاصطلاح المتأخر باسم علم الصرف، ووضع صيغا للمفردات التي تدل على الأحداث في أزمانها، فكان الماضي والمضارع والأمر، واستعان بالحركات، فغير مواقعها، وأبدل بعضها من بعض، فكان المعلوم والمجهول والمصدر، وأضاف إليها حروفا بعينها في ذلك إضافة للمعاني على نحو ما يبدو في صيغ الأفعال المزيدة. ثم كانت الطفرة الواسعة باهتداء الإنسان إلى المباني، حيث صاغ أسماء للفاعل والمفعول والزمان والمكان والمرة والهيئة والآلة ونحو ذلك. وألصق حروفا أو غيّر في بناء المفرد على نحو ما، ليحصل من ذلك الجمع أو التصغير أو صيغ المبالغة ونحوها.

    ونعتقد أن في الطريقة التي يصوت بها الجذر، ما يترجم معناه، ويصور حركة حدوثه خارج الإنسان، وهذا هو الذي نعتقد انه توفيق من الله سبحانه وتعالى، وأن الأسماء التي علمها الله عز وجل آدم ـ عليه السلام ـ هي الجذور لدلالاتها، أما ما يجريه الإنسان على الجذور من قولبة وصياغة وزيادة يعقبها توليد لفظ جديد لمعنى جديد مرتبط بدلالة الجذر، فذلك ما تواضع الناس عليه من بعد، أو قل: اهتدوا إليه عبر القرون.

    وقد نشبه الجذر بقطع (الليجو) التي يتعلم بها الأطفال، أو بقطعة من طين، فهم يشكلونها بطرائق مختلفة؛  فيبنون بيتا أو سيارة أو حيوانا أو نحو ذلك. ولكن المادة هي نفسها في الأحوال كلها.

    ولكل صوت (حرف) من أصوات اللغة معنى يدل عليه، ولكنه معنى مبهم لا ينه بنفسه، وهو يشبه في ذلك ما يشير إليه بُعْدٌ واحد من جسم ما لم نعرف منه غير ذلك البعد "كالخط المستقيم" فهما لا يكفيان لإحداث المعنى، كما أن البعدين لا يكفيان لإحداث الجسم. وتمثيلا لذلك نأخذ من الكلام من، ما، بل، هم، هو وهي، ومن الأجسام خطين يشكلان زاوية، والآن قارن وتبصّر.

    فهذه المفردات وما يشبهها لا تقوم بذاتها، وغنما يدعمها السياق أو المقام، مع أننا نرى أن لهذه الثنائيات أصولا ثلاثية: مجهولة، أو أنها فقدت علاقتها بها، فلم تعد تُعرَف إلا بهذه الصورة، وعلى هذا الشكل من الإبهام، ومن الألفاظ التي يسهل ردها إلى أصولها الثلاثية (كاف التشبيه) حيث هي من "كيف" وما تزال "كيف" مستخدمة لدلالتها على التشبيه (بمعنى الكاف) في معظم لهجات المغرب العربي، ومن ذلك (لام الجر) حيث هي (إلى) في الأصل، وبل (بلى).

    وأقل ما تتضح به الأجسام وتتحدد هو ثلاثة أبعاد، وكذلك المعاني؛ حيث أن أقل ما تتحدد به هو ثلاثة أحرف نعتقد أنها حرف مفرد يليه حرف مضعّف، مثل: بتّ، شدّ، ثم ميل إلى استبدال الحرف الأخير بحرف آخر، فكانت الكلمات، مثل بتر، بتل، بتع، بتك ... وكلما زادت الإضافات التوضيحية في الجسم، أصبح مدركا أكثر، وكذلك حروف الزيادة والبناء، حيث تسهم هي الأخرى في توضيح المعنى المراد أكثر وأكثر. وكلما جعلت الجسم في مجموعة من الأجسام، فإنك تكون قد وظّفته لأداء مهمة، وما أشبه ذلك بالكلمة في الجملة.

    *                       *                        *

    وأخيرا، هذه معان توصلنا إليها، واجتهدنا فيها، تكشف عن دور الأذن في اللغة، فإن أصبنا، فبها ونعمت، وإن جانبنا الصواب، فالأمل في أن نصوب، وما نرى في ما قدمنا إلا بداية تصلح لأن يُرجَع فيها النظر كرة فكرّة، ويقلّب فيها السمع مرة فمرة، عسى أن يكون في ذلك ما يكشف عن جديد يعمق الإيمان، ويخطو بنا علة طريق العلم إلى الأمام.

     

    الهوامش والمراجع:

    1.     ابن خلدون ـ عبد الرحمن بن محمد الحضرمي.

     المقدمة، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ د.ت، ص546.

    2.     الداني، أبو عمرو عثمان بن سعيد.

     المحكم في نقط المصاحف، بتحقيق عزة حسن، دمشق ـ وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1960، ط3، ص3 وما بعدها عن أبي الأسود الدؤلي.

    3.     ابن فارس ـ أبو الحسين أحمد.

    معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية 1366 ـ 1371 هـ، مادة أذن.

    * ابن منظور ـ جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري.

    لسان العرب، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، 1300 ـ 1307 هـ، 16/249.

    4.     القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية رقم 61.

    5.     ابن منظور 6/103، 16/148، مصدر سبق ذكره.

    6.     ابن فارس ـ (أذن)، وابن منظور 16/249 مصدران سابقان.

    7.     الزوزني ـ أبو الحسن عبد الله بن الحسين.

    شرح المعلقات السبع، منشورات دار صادر، بيروت 1964 ص 108.

    8.     ابن منظور ـ 10/28 مصدر سابق.

    9.     القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية رقم 279.

    10.                        ابن منظور، 10/28، مصدر سابق.

    11.                        الزمخشري، جار الله محمود بن عمر.

    الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه اتلأويل، بيروت 1974، 1/204.

    12.                        القرآن الكريم، سورة الانشقاق، الآية رقم2.

    13.                        ابن منظور، 6/248 مصدر سابق.

    14.                        المرجع نفسه والصفحة نفسها.

    15.                        الجرجاني ـ أبو الحسن علي بن محمد بن علي، المعروف بالسيد الشريف.

    كتاب التعريفات، تحقيق جوستاف فلوجل، بيروت سنة 1969، ص15.

    16.                        القرآن الكريم، سورة الحاقة، الآية رقم 12.

    17.                        القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية رقم 11.

    18.                        القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية رقم 100.

    19.                        القرآن الكريم، سورة يونس، الآية 42.

    20.                        الزمخشري 1/204 مصدر سابق.

    21.                        المرجع نفسه والصفحة نفسها.

    22.                        الزوزني ص58 مصدر سابق.

    23.          انظر لاستيضاح ذلك مجلة الخليج العربي، العدد الرابع عشر السنة الخامسة، 1405هـ ، ص183 (ومنها اثنان ... إلى آخر الشعر) من مقالة للكاتب.

    24.                        الزوزني، ص58 مصدر سابق.

    25.                        ابن فارس، مادة (سمع) مصدر سابق.

    26.                        ابن منظور 10/26 مصدر سابق.

    27.                        الجرجاني، ص127، مصدر سابق.

    28.                        القرآن الكريم، سورة غافر، الآية 60.

    29.                        ابن ماجة ـ أبو عبد اله محمد بن يزيد القزويني.

    صحيح سنن ابن ماجة، تأليف محمد ناصر الألباني، بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج، بإشراف المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1407/1986، 2/326.

    * النسائي ـ أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب بن علي.

    سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي، منشورات مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب، ط2، (مصورة عن الطبعة الأولى، القاهرة، 1930)، بيروت 1406/1986، ج2، ص 255.

    30.                        ابن منظور، 10/27، مصدر سابق.

    31.                        القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 36.

    32.                        ابن منظور، 10/31، مصدر سابق.

    33.                        القرآن الكريم، سورة النمل، الآية 81.

                   القرآن الكريم، سورة الروم، الآية 53.

    34.                         القرآن الكريم، سورة يوسف، الآية 31.

    35.                        القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 6.

    36.                        القرآن الكريم، سورة السجدة، الآية 12.

    37.                        القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 186.

    38.                        الزمخشري، 1/486. مصدر سابق.

    39.                        القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 71.

    40.                        القرآن الكريم، سورة الملك، الآية 10.

    41.                        القرآن الكريم، سورة الفرقان، الآية 44، وانظر لمثله أيضا:

    سورة فاطر، الآية 14.

    سورة يونس، الآية 67.

    42.                        القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 179.

    43.                        الزوزني، ص27، مصدر سابق.

    44.                        ابن فارس، إعادة (حم) مصدر سابق.

    45.                        لا نرى أن هناك توقيفية في المباني والصيغ.

    46.                        الجرجاني ص140 مصدر سابق.

    47.                        المرجع نفسه، ص28، وانظر تعريفه للسمع فيما سبق.

    48.                        القرآن الكريم، سورة طه، الآية 46.

    49.                        لا نعني أشكال الخط، لأنها لا تؤثر في المعنى.

    50.                        القرآن الكريم، سورة هود، الآية 24.

    51.                        الزوزني، ص160، مصدر سابق.

    ـ الدر، إبراهيم فريد.

    اعرف دماغك، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط1، بيروت، 1983، ص65 ـ 66.

    ـ عثمان، عبد اللطيف موسى.

    أسرار المخ والأعصاب، نشر الزهراء الإعلام العربي، القاهرة 1985، ص33.

    ـ أزيموف إسحق.

    الدماغ البشري، طاقاته ووظائفه، ترجمة سعيد عبده، الأنجلو المصرية، القاهرة 1969، ص150، 15151، 160 وما بعدها (الاستيل كولين).

    52.                        القرآن الكريم، سورة الأحزاب، الآية4.

    53.                        انظر بين الأذن والعين ص50 والفقرة التي ورد فيها.

    54.                        القرآن الكريم، سورة الزخرف، الآية80.

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me