An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Tuesday, February 3, 2009
  • العولمة وأثرها على الشعب الفلسطيني
  • Published at:Not Found
  • العولمة وأثرها على الشعب الفلسطيني

    نشر في رؤى تربوية

    أ.د. يحيى جبر  -  أ. عبير حمد

     

    تمهيد

     

    العولمة مصطلح أخذ يغزو الأوساط كافة، بكل ما يحمله من أشواك مدمية وورود مغرية، وبكل ما يثيره من رغبة فيه ورهبة منه، بكل الاختلافات في تعريفه؛ فهذا تعريف من منظور سياسي، وثانٍ اقتصادي، وآخر اجتماعي، ورابع ثقافي، وهذا تعريف مؤيد، وآخر معارض، وثالث يقف بين بين.  ويمكن القول \"إن أول إشكاليات العولمة تبدأ من تعريفها ذاته؛ لأن الذين يستهدفون ترويجها يضعون لها التعريفات التي تقرن بينها وبين العالمية حتى تبدو وكأنها شيء مفروض لا مجال للخيار فيه\".

     

    ويذهب الرافضون إلى أنها تعبير دعائي لما انتهت إليه الليبرالية المتأخرة، وكما يقول المفكر المصري السيد ياسين:1 \"إن صياغة تعريف دقيق تبدو مسألة شاقة؛ نظراً لتعدد تعريفاتها التي تتأثر أساساً بانحيازات الباحثين الأيديولوجية واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضاً أو قبولاً.  وهناك عقبة أخرى تقف في وجه تعريف محدد للعولمة وهي اتساع ميدانها حتى شملت نواحي الحياة المختلفة\"، فالمرحلة التي تعيشها البشرية اليوم \"لا تنحصر في الشأن الاتصالي والإعلامي والتقني فحسب، بل تتعدى ذلك وتصل إلى حقول التكنولوجيا والاقتصاد والتجارة والمال والسياسة والثقافة والاجتماع؛ فهي باختصار منعطف بشري ضخم أحدث تحولات كبرى وما زال على صعد الحياة المختلفة\".2  ولا نكاد نجافي الحقيقة إذا قلنا إن تعريفات العولمة تتعدد بتعدد الذين كتبوا في هذا الموضوع، تماماً كما يقول سيار جميل \"لم تزل العولمة مصطلحاً ومضموناً في طور من الغرابة ولم تعرف بعد الاستقرار\".3  أما إذا كان لا بد مما ليس منه بد، فإننا نبدأ بالتعرف إلى المعنى اللغوي للعولمة.

     

    \"تعود لفظة عولمة في أصلها إلى الكلمة الإنجليزية (Global) التي تعني: عالمي أو كروي، وترتبط في أحيان كثيرة بالقرية، ويصبح معنى المصطلح: القرية العالمية (Global village) أي أن العالم عبارة عن قرية كونية واحدة؛ أما المصطلح الإنجليزي (Globalization)، فيترجم إلى الكوكبة أو الكونية أو العولمة\".4

     

    أما اصطلاحاً، فإن تعريفات العولمة تتعدد بتعدد من كتبوا في هذا الموضوع، ومن أراد الاطلاع على تلك التعريفات المختلفة - التي تصل أحياناً إلى حد التناقض- فيمكنه ذلك من خلال مراجعة الكتب والمجلات التي تناولت هذا الموضوع؛ إذ لا مجال لذكرها هنا.  ويمكن فهم مصطلح العولمة على أنه \"تعميم وفرض نمط حياة واحد على البشر كافة، يخدم القوي ويزيد من سيطرته على الكون، بما فيه من أحياء وجمادات، ما يحقق له مزيداً من الربح المادي\"، وهو أيضاً، \"جملة من التغيرات والتطورات الحاصلة في مجالات الحياة المختلفة، وهي ظاهرة شاملة تشمل الاقتصاد، والتجارة، والمال، والسياسة، والثقافة، ومجال الاتصالات والإعلام، وأنماط الحياة المختلفة، وتروم هذه الظاهرة تنميط المجتمعات الإنسانية وفق نموذج حضاري محدد\".5

     

    ولكن ما سر هذه الموجة الكاسحة من الحديث عن العولمة؛ حتى لا يكاد يخلو منها خطاب سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، علما بأن الأمر لم يكن كذلك قبل قرن مثلاً، هل يعني هذا أن العولمة ظاهرة جديدة مرتبطة بالقرن العشرين؟

     

    لقد تعددت آراء الباحثين في هذا المجال؛ ففي حين يرى بعضهم أن العولمة وليدة القرن العشرين؛ لما طرأ فيه من تقدم في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، يعتقد آخرون أن للعولمة تاريخاً قديماً.  يقول السيد ياسين \"يمكن القول إن للعولمة تاريخاً قديماً، وبالتالي فهي ليست نتاج العقود الماضية التي ازدهر فيها مفهوم العولمة وذاع وانتشر، وأصبح أحد المفاهيم الرئيسة لتحليل الظواهر العديدة التي تنطوي عليها العولمة\".6  فيما يرى آخرون أن لكل عصر عولمته، حيث \"إن الطباعة والبارود والبوصلة قد غيرت صورة العالم كله وحالته، فمن المؤكد أن المطبعة قد وفرت للمدفعية ما ساعد على حشد الصفوف وتخطيطها في حرب دينية بين الأفكار لم يكن لها مثيل من قبل\"،7 \"فمنذ أن تعلم الإنسان بناء السفن التي تستطيع أن تمخر عباب البحار العميقة وتتحمل أنواء الطبيعة، حتى بدأ يجوب آفاق الكرة الأرضية، وكانت هذه الرحلات في بلاد الإغريق القديمة مكرسة للغزو\"،8 فهل يعني كل ذلك أن ظاهرة العولمة لم تكن موجودة، وأننا نبالغ في الوصف ونفترض ما كان موجوداً دائماً وأبداً في تاريخنا على أنه شيء جديد كلية ولا مثيل له؟

     

    إن من يراقب كيفية استخدام ظاهرة العولمة في النقاش الدائر في الوقت الراهن كتبرير يرمي إلى دعم المتطلبات النفعية الخاصة، لا بد له من النزوع إلى إنكار أن العولمة إجمالاً شيء يمنحه عصرنا شخصية خاطئة أيضاً؛ فقد رأينا أن كل عناصر العولمة الخاصة غير جديدة؛ و\"الجديد أنها مرتبطة بدرجة مع التقدم التكنولوجي والتنظيمي الذي له في الواقع صفة جديدة تماماً مقابل الأمثلة التاريخية\".9  فإذا سلمنا بأن العولمة ليست ظاهرة حديثة، فكيف نفسر شيوع هذا المصطلح حديثاً؟

     

    يفسر جلال أمين هذه الظاهرة بقوله: \"إذن فكثرة الكلام عن العولمة في السنوات العشر الأخيرة لا بد من أن يكون سببها ليس نشأة الظاهرة، بل نموها بمعدل متسارع، (فضلا عن وجود مصلحة لبعض الناس، في الإلحاح على إسماعنا بأن شيئاً جديداً وطيباً للغاية اسمه العولمة، آخذ في اكتساح الكون)\".10

     

    ويمكن تقسيم العولمة على أساس المجال الذي تركز عليه إلى ثلاثة أقسام هي: العولمة السياسية، والعولمة الاقتصادية، والعولمة الثقافية، وإن كانت جميعها مترابطة وذات علاقات متبادلة، ولكن لا بد من التقسيم لغرض تسهيل الدراسة وتركيزها، نظراً لاتساع ميدان العولمة الذي يكاد يكون بلا حدود.

     

    ثم إنه لا بد من تحديد المقصود بالثقافة.  فمن الشائع في ميدان العلوم الإنسانية تحديداً، أنه من الصعب الاتفاق على تعريف واحد للظاهرة، لأن هذا الميدان يتناول ظواهر معنوية غير حسية، ولكن يمكن الاصطلاح على تعريف الثقافة على أنها \"مجموعة الأفكار، والقيم، والمعتقدات، والتقاليد، والعادات، والأخلاق، والنظم، والمهارات، وطرق التفكير، وأسلوب الحياة، والعرف، والفن، والنحت، والتصوير، والرقص الشعبي، والآداب، والرواية، والأساطير، والفلسفة، والتاريخ، ووسائل الاتصال والانتقال، وكل ما صنعته يد الإنسان وأنتجه عقله من أشياء مادية ومعنوية (غير مادية) أو متوارثة من الأجيال السابقة أو أضافها إلى تراثه نتيجة عيشه في مجتمع معين\"، إضافة إلى أن هناك من يعرِّفها بأنها \"المعرفة التي تؤخذ عن طريق الإخبار والتلقي والاستنباط\"، كما أنها \"كل ما يخص أمة معينة من عادات وتقاليد وفنون وأنماط تعامل مع الأمور ونظرة خاصة إلى الكون وما فيه\".11  وإذا كان المقصود بالهوية الثقافية \"التفرد الثقافي بكل ما يتضمنه معنى الثقافة من عادات وأنماط سلوك ومثل وقيم ونظرة للكون والحياة\"،12 فإن العولمة لا تعترف بالهوية أصلاً؛ لأنها تسعى إلى فرض نمط ثقافي موحد على البشر؛ يقول جلال أمين \"فالغزو الثقافي الذي يتم في ظل التكنولوجيا الحديثة يمكن أن يعتبر حقاً غزو ثقافة لثقافة، ولكن فيه أيضاً سمة \"نفي الثقافة أصلاً\"، ذلك أن الثقافة الغازية هذه المرة تتسم بعدائها المستحكم؛ أي بعدائها لأية هوية\".13

     

    ونشير هنا إلى أن المعطيات الراهنة تؤكّد أنه \"ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، ولا يمكن أن تكون، وإنما وجدت وتوجد وستوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها - بصورة تلقائية أو بتدخل إرادي من أهلها - على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة\".14

     

    الفرق بين العولمة والعالمية

     

    لا بد من الإشارة إلى أن العولمة شيء، والعالمية شيء آخر؛ ففي حين أن العالمية تعني الانفتاح على الآخر مع الاحتفاظ بالاختلاف الأيديولوجي، فإن العولمة نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل التنوع الفكري الذي يساهم في إغناء الحضارات البشرية.  يقول الجابري \"نشدان العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع ورغبة في الأخذ والعطاء في التعارف والحوار والتلاقح، إنها طريق \"الأنا\" في التعامل مع الآخر بوصفه \"أنا ثانية\"، طريق إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة، أما العولمة فهي طموح، بل إرادة لاختراق \"الآخر\" وسلبه خصوصيته، وبالتالي نفيه من \"العالم\"، العالمية إغناء للهوية الثقافية، أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع\".15

     

    الفرق بين التثاقف المتبادل والعنف الثقافي من جانب واحد

     

    وهنا تجدر الإشارة إلى الفرق بين التثاقف المتبادل، والعنف الثقافي من جانب واحد؛ حيث يشير الأول إلى التبادل الثقافي على قاعدة الندية والمساواة واحترام الآخر، ما يولد علاقات إنسانية سامية تساهم في رقي البشرية جمعاء.  أما الثاني، فإنه يشير إلى نفي ثقافة الآخر والنظر إليها نظرة دونية، وهذا ما لا نعتقد أن أحداً يقبل به، ما يولد الكراهية والحقد والصراعات المختلفة\".  يعني الأول الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات بعضها إلى بعضها الآخر، كما يعني الاعتراف المتبادل بينها، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف، وهو من أقدس حقوق الإنسان، فيما لا ينطوي الثاني سوى على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، وعلى الاستعلاء والمركزية الذاتية في رؤية ثقافته.  يرادف الأول معنى الحوار والتفاهم، بينما يتلازم الثاني مع الإكراه والعدوان، أما الأهم في الأمر أن التثاقف يجري بين الثقافات على قاعدة الندية، وهو ما يستلزم الاعتراف بأن لكل ثقافة شخصيتها وحرمتها الرمزية، فيما لا يعبر فعل الاختراق والتجاوب معه سوى عن دونية يأباها أي انفتاح وأي حوار\".16  فالثقافة الغربية \"فرضت نفسها بالقوة على الرغم من أنها ليست الأقوى؛17 أي أنها استخدمت منطق القوة لا قوة المنطق\".  فالعولمة الثقافية لا تشكل خطراً إذا هي اعترفت بتنوع الثقافات الإنسانية واحترمت الهويات القومية الوطنية وخصوصيات الشعوب، وابتعدت عن التنميط القسري\".18

     

    واليوم \"يحتل الاعتراض الثقافي ضد عولمة مدمرة مكاناً مركزياً، ولكن يبقى خطر الوقوع في الثقافوية أو الإثنية ماثلاً للعيان، وبخاصة في المجتمعات التي خضعت مؤخراً لنتائج العولمة الرأسمالية، ويجب أن تشمل المقاومات أبعاداً متعددة، منها البعد الثقافي دون أن يحتل منه المرجع الوحيد\".19  \"فإذا اعتبرنا الثقافة العامة في طرف، والثقافة الخاصة في طرف آخر، وما بينهما مسافة ثقافية أو براح ثقافي يحتوي على عناصر ثقافية بين الخصوصية والعمومية، فيصبح عندنا مسار ثقافي بين القطبين، ففي الطرف الأول الثقافة الخاصة، وبالاتصال والتواصل والاكتساب أو الاستعارة الثقافية، ومن ثم الممارسة، نصل إلى القطب الآخر، وهو الثقافة العامة\".20

     

    وربما يكون مفيداً - قبل الانتقال إلى مناقشة بعض الآثار الثقافية للعولمة على الصعيدين العبري والفلسطيني- أن ننبه إلى أهمية الثقافة في حياة الشعوب، حيث تشكل جدار الحماية وخط الدفاع الأهم عن مكتسبات الأمة على المستويات كافة؛ سياسية، واقتصادية، وعلمية، وهذا أمر بدهي، فإذا راجعنا تعريفات الثقافة وجدناها تضم كل نواحي الحياة، وبناء على ما سبق \"فالثقافة العربية تمتلك إمكانيات وطاقات وتأثير في الحياة الاجتماعية العربية وتتحمل مسؤولية جسيمة لإعادة اللحمة إلى الواقع العربي وتجاوز المحن الداخلية التي يعيشها هذا الواقع، سواء من مؤامرات الأعداء أو أمراض الداخل المزمنة\".21

     

    ومهما اختلفنا في تعريف العولمة وتاريخها وأنواعها، فلا أظننا نختلف في أنها تركت العديد من الآثار في مناحي الحياة المختلفة إيجابية وسلبية، وفيما يلي سوف نتناول بعض آثار العولمة الثقافية على الشعب العربي عموماً، والفلسطيني تحديداً لما له من خصوصية.

     

    العربية ... بين التغريب والاغتراب

     

    نردد كثيراً مقولة \"اللغة وعاء الفكر\"، فما دمت تغرف أفكارك من وعاء نظيف ونبع صافٍ، فلا بد من أن ينعكس ذلك على أفكارك صفاء ونقاء والعكس صحيح، ولذلك فلا نستغرب الأفكار والأطروحات الملوثة التي تطل علينا بين الفينة والأخرى برؤوسها الشيطانية، فإذا بحثت عن أصحابها وجدتهم من أولئك الذين إذا ما ألقي إليهم \"بالعلف الثقافي\" تسابقوا إليه يلوكونه دون تحليل محتواه، وقد أصبنا بالعديد من حالات التسمم - وللأسف - دون أن نتعلم بعد، ولا نجد تفسيراً لذلك سوى مقولة ابن خلدون \"ولع المغلوب بتقليد الغالب\" حتى باتت مقولة \"كل إفرنجي برنجي\" هي التي تحكم عموم الشارع.

     

    وعلى صعيد اللغة، أصبحنا نسمع العجب العجاب، ويمكن تتبع تلك الأخطاء في الكتب التي تعالج هذا الموضوع؛ فمن الأساليب التعبيرية الركيكة والمصطلحات الفظة؛ إلى الترجمة الحرفية غير السليمة التي توصل المعنى مشوهاً، إلى استعارة أساليب الإنجليزية في التعبير وتطبيقها على العربية؛ بالإضافة إلى دس كلمات دخيلة في سياقات فصيحة مع وجود البديل العربي أو المعرب، فإذا به كالثوب المرقع.  \"يبدو أن لذلك ما يبرره لاسيما أن ترقيع الثياب الجديدة أصبح تقليداً مقبولاً؛ فالجنون - كما يقولون- فنون\".22

     

    وقد أثبتت الدراسات والأبحاث \"أن مستوى الطلاب في الكليات العلمية وما يتلقونه بالإنجليزية أو الفرنسية ضعيف، وهو أضعف قطعاً مما لو تلقوا موادهم باللغة العربية على أيدي أساتذة يحسنونها\".23  ومن المؤسف القول إن معرفة أكثر المشتغلين في حقول العلوم باللغة الإنجليزية لا ترقى إلى مستوى معرفة أهلها بها، ومع ذلك فهم يستخدمون لغة لا يتقنونها ويهملون لغتهم الأم التي يمكن أن يحققوا بها مستوى أداء أفضل؛ فيبوءون بغم على غم.  ولذلك، فمن الحق الإشارة إلى أن قسماً كبيراً من مشاكل العربية يعود إلى أسباب ذاتية، ونقصد بها ضعف همة أبناء الضاد وقصورهم في القيام بواجبهم اتجاه لغتهم -التي هي لسان دينهم وعنوان هويتهم الثقافية ورمز سيادتهم الحضارية- وتفريطهم في مسؤوليتهم التاريخية في الحفاظ على تراثهم ووجودهم المعنوي.

     

    إن الجزع مما يحدث للغة العربية والتراث المجيد لا ينطوي بالضرورة على موقف رجعي متخلف يدعو إلى التقوقع على الذات ورفض كل وارد جديد من المصطلحات وغيرها، فظاهرة الاقتراض اللغوي موجودة في كل اللغات، والثابت علمياً وتاريخياً أن العربية أقرضت أكثر بكثير مما اقترضت، ولكن يجب أن يكون الأخذ بقدر الحاجة والضرورة فقط، ويمكن القول إن محنة العربية لا تتمثل في جيوش الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة إلى عالمها النامي فحسب، بل إن محنتها الحقيقية تتمثل في انهزام أبنائها نفسياً أمام الزحف اللغوي الداهم واستسلامهم -في مجال العلوم بالذات- للغات الأجنبية، بحيث تكونت في العالم العربي جبهة عنيدة تجاهد للإبقاء على العربية بمعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا، فما دامت \"صفوة\" المشتغلين في العلوم تعرف الإنجليزية فلا بأس من عزل العربية بل قتلها!

     

    ولكن إذا \"كانت العربية أداة صالحة لكتابة العلوم أكثر من عشرة قرون، وكانت لغة الحضارة في كل هذه المدة، فما بالها تعجز عن هذه المهمات اليوم؟! إنها ليست عاجزة، ولكن أبناءها عاجزون، وإنها ليست قاصرة ولكن أبناءها أكثرهم قاصرون\".24

     

    وقد أقر المؤتمر الرابع للتعريب في الفقرة الرابعة من توصياته \"أن التعليم باللغة العربية ليس استجابة للمشاعر القومية ولا زلفى لها، ولكنه استجابة للحقائق التربوية التي أثبتت أن تعليم الإنسان بلغته أوفر مردوداً وأبعد أثراً، وأنه أحفل بالنتائج الخيرة من الوجهتين الكمية والنوعية\".25  وإذا \"كان تعلم اللغات الأجنبية ضرورة لا مناص منها لمواكبة مستجدات عصر التقانة الحديثة، فإن إتقان اللغة العربية شرط أساسي للإبداع في مختلف المجالات، والإسهام في رقي أمتنا العربية الإسلامية واستعادة مجدها واستئناف ريادتها الحضارية\".26

     

    إذا كان هذا هو حال اللغة العربية في مجمل الوطن العربي فهي في فلسطين أسوأ حالاً؛ فهي واقعة بين مطرقة الإنجليزية وسندان العبرية في ظل الاحتلال البغيض الذي يحاول طمس كل معالم العروبة في هذا القطر الصامد.  ومما يعقد الأمر ويجعل مهمة الحفاظ على العربية عسيرة هنا، ذلك الاعتماد المقيت على الدولة العبرية في كثير من متطلبات الحياة اليومية، ومنها العمل والمنتجات، سيما التي يكثر من شرائها الأطفال الذين هم في طور البناء ومنه البناء اللغوي.  ومن الكلمات العبرية التي تشيع على ألسن العامة والخاصة \"مخصوم\" ومقابلها العربي حاجز و\"سيجر\" ومقابلها العربي منطقة مغلقة و\"منوف\" ومقابلها العربي رافعة\"،27 وهذا غيض من فيض، فلسنا هنا بصدد البحث في الكلمات العبرية التي دخلت العربية.

     

    وبعد كل ما قدمنا ألا نتساءل عن مستقبل اللغة العربية؟ إن\"مستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن في مجموع الأمم التي تتكلم العربية، فإن كان ذلك الفكر موجوداً كان مستقبل اللغة عظيماً كماضيها، وإن كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتيها السريانية والعبرانية\".28

     

    وأخيراً فلا أجد ما أنهي به هذا الموضوع خيراً مما أنهى به يحيى جبر مقالة بعنوان \"العربية في خطر\"، حيث يقول: \"وبعد، فإن الاعتزاز باللسان القومي يمثل ركناً من أركان الشخصية الحرة، وأحد مقوماتها الرئيسة، وإن جهل أحدنا بلغة أجنبية لا يمثل عيباً يستوجب الخجل، وإن استخدام اللغة الأجنبية لا يجوز أن يكون على حساب اللغة الأصلية\"؛29 ذلك ما لم نكن كالفراش حين يغرق في النور فيحترق بالنار، وأي نار! إنها نار العولمة التي تأتي على ما تبقّى لدى الشعوب المقهورة من مقومات لتحل مكانها ما ينسجم مع إرادة القوى الاستكبارية.

     

    الثقافة الاستهلاكية في ظل العولمة

     

    صحيح أن الاستهلاك موضوع اقتصادي، ولكن لا أحد ينكر صلته الوثيقة بالثقافة، فأنت عندما تقرر شراء سلعة معينة تستند إلى مجموعة من القناعات التي تدفعك لانتقائها دون غيرها، وفي عصر العولمة تكاد تتحول المجتمعات ومنها النامية الغارقة في الديون، إلى مجتمعات استهلاكية ليس بمحض المصادفة، ولكن نتيجة مخططات مدروسة بعناية ودقة.  \"فقد ارتبطت معالم الظاهرة الاستعمارية أو \"عولمة القرنين السابع عشر والثامن عشر\" بالظروف التاريخية لهذين القرنين، وبخاصة الثورة التجارية، وقصة البحث عن المعادن النفيسة إلى حد كبير، كما ارتبطت \"عولمة القرن التاسع عشر\" بظروف هذا القرن التاريخية، وبخاصة بالثورة الصناعية، حيث سعت الدول القومية الوطنية الحديثة إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المواد الأولية اللازمة لصناعاتها، وكذلك إلى أوسع الأسواق لتصريف منتجاتها\".30

     

    وقد رافقت ذلك سيول الدعاية والإعلان للمنتجات الأجنبية، دعاية مبرمجة شرسة في شتى وسائل الإعلام، وانجرف أصحاب \"عقدة النقص\" وراء التيار الذي يعتقد أنه كلما أكثر الشخص من المشتريات الأجنبية، يكون قد حاز أكبر كمية من الحضارة والرقي، \"فإن المنطق التاريخي والحضاري يؤكد لنا أن الاستهلاك الترفي حالة مرضية وليس مؤشراً على سلامة المسيرة الاقتصادية للمجتمع والأفراد\".31  ولمواجهة هذا الطوفان من المنتجات -في عصر العولمة الذي لم يعد فيه للبعد المكاني أثر في حجب جزء من السلع- من الضروري أخلاقياً ومادياً الالتزام بضوابط معينة تحكم عاداتنا الاستهلاكية، ويمكن إيجاز أهم معيارين في:

     

    < مراعاة الضوابط الشرعية.

    < مراعاة متطلبات الاستقلال والتحديات الحضارية.

     

    ويمكن القول إن العولمة تخلو من الإيجابيات في الجانب الاقتصادي، وتحديداً فيما يخص الدول النامية، حيث \"تعتبر الدول النامية وبخاصة الدول الأقل نمواً وبعض الدول الأخرى التي تعاني من ضعف هيكل الاقتصاد -مثل الدول الإفريقية- غير قادرة على الاستفادة من العولمة، ويظهر ذلك نتيجة العوامل التالية:

     

    < معوقات جانب العرض.

    < التبعية السلعية.

    < صعوبات جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.

    < انخفاض مساعدات التنمية الرسمية.   

    < الصعوبات المستمرة المصاحبة للدَّين الخارجي.

     

    فإذا كان هذا الكلام ينطبق على دول العالم النامية بشكل عام، فإن الشعب الفلسطيني يعاني الأزمة مضاعفة، وذلك بحكم القيود التي تكبله بعدوه، فهو يعمل في المصانع التي يملكها صهاينة في المغتصبات الإسرائيلية بأجر زهيد، وقد يضطر أحياناً لدفع حياته ثمن لقمة العيش، ثم بعد ذلك يعود ليشتري تلك المنتجات التي ساهم في تصنيعها بأثمان باهظة، ومما يضاعف المأساة توفر البديل المحلي أو العربي لتلك السلعة وبمستوى جودة منافسة؛ والأخطر في الأمر أننا من خلال هذه الممارسات نهدم ما نبني من حيث ندري أو لا ندري في صراع الوجود مع الصهيونية العالمية\".

     

    فالكيان الصهيوني -باعتباره مشكلة يعاني منها العرب منذ عدة عقود- ليس مشكلة سياسية أو عسكرية فحسب، وإنما مشكلة حضارية شاملة، وقد ارتكب بعض العرب الخطيئة التاريخية الكبرى حينما اعتبروا أن مجابهة الكيان الصهيوني تتطلب فقط بناء مؤسسة عسكرية ضخمة، وامتلاك ترسانة عسكرية متطورة حتى لو تم هذا البناء على أنقاض الناس وضرورات حياتهم المادية والحضارية\".32

     

    وأختم حديثي في هذا الموضوع بتطبيق المثل العربي \"من فمك أدينك\"، فقد تمت مهاجمة العولمة في مهدها وفي عقر دارها، وشهد شاهد من أهلها وقال \"حال العولمة اليوم سيئة، إنها سيئة بالنسبة إلى فقراء العالم، وسيئة بالنسبة إلى البيئة، وسيئة بالنسبة إلى استقرار الاقتصاد العالمي\".33

     

    إعلام العولمة ... بين الواقع والطموح

     

    للإعلام دور فعال في حركة المجتمع في الميادين كافة، فكثيراً ما نسمع مقولة \"الحرب دعايات\" في إشارة إلى أهمية الإعلام في مجريات الأحداث.  فإذا كان الإعلام يتمتع بهذه الدرجة من الأهمية منذ القدم، حين كان يتطلب وصول الخبر من مكان أضعاف الوقت الذي يتطلبه الآن، فيمكن تصور الدور الذي يضطلع به الإعلام إيجاباً أو سلباً في عصر العولمة.

     

    وحتى يؤدي الإعلام دوره بإيجابية، فلا بد من مواكبة قضايا الأمة والدفع باتجاه تحقيق الأهداف الوطنية بشكل مدروس ودقيق، فعلى سبيل المثال، يمكن للمراقب لمجريات الأحداث على الساحة الفلسطينية أن يلحظ مدى التأثير الإعلامي في إلهاب عواطف الجماهير الفلسطينية وحتى العربية أو تهدئة الوتيرة الحماسية وفقاً لمزاج الأنظمة الحاكمة \"فلو قيض لمؤرخ منصف أن يدرس واقع الإعلام العربي لما وجد أفضل من عبارة آلة السلطان تعبيراً يشير إلى هذا الإعلام\".34

     

    color: #000000;\">وبما أن الشعوب العربية أكثر تأثراً بالإعلام من سواها؛ نظراً لما تتميز به من عواطف جياشة، وحماس مفرط، وقدرة على التهدئة أيضاً \"بكبسة زر\" -كما يقولون- فإن \"هذه الإمبراطوريات الإعلامية التي تبث صوت سيدها وتحاول فرض آرائها وأفكارها تشكل خطراً على ثقافات العالم الثالث وهويتها القومية\".35

     

    فعلى سبيل المثال، تستخدم هذه الوسيلة الإعلامية مصطلح \"عملية استشهادية\"، وأخرى \"عملية انتحارية\"، وثالثة \"عملية إرهابية\"، وقد سمعنا من قبل \"عملية تخريبية\"، وتلك تبارك هذه العمليات، وأخرى تشجب وتستنكر وتدين، ومرة يكون الاستنكار شديد اللهجة، وقد يكون لطيفها، وربما ابتكروا لهجة متوسطة إذا أمروا بذلك.

     

    نسلم بأن العولمة أصابت الإعلام فتعولم هو الآخر، ولكن كيف عولمنا إعلامنا العربي؟ لقد طبقنا تصاميم البناء وأحضرنا الأجهزة المتطورة واستخدمنا تقنيات البث الحديثة، ولكن بقيت الهوة واسعة بين تقنيات العرض والمادة المعروضة، ففي حين تنتمي الأولى إلى عصر العولمة نجد الثانية تنتمي إلى قرون خلت.

     

    إن من يحلل معظم المادة الإعلامية التي تبثها القنوات الفضائية يخرج باستنتاج مفاده أن بعضها لا يصلح إلا \"قنوات للصرف الصحي\" وليس للإعلام، فهل يعتقدون أن بيوتنا \"بالوعات\" أو \"مكبات نفايات\"؟ نفايات عقدية، ونفايات سلوكية، ونفايات سلعية ... وكل ما يمكن أن يخطر لك على بال وما لا يمكن أن يخطر.

     

    إن معظم المادة الإعلامية هي \"علف ثقافي فاسد\"، وقد أصبنا بعدة  \"حالات تسمم\" ولم نتعلم بعد، وهنا أريد أن أتطرق إلى مصطلح واحد فقط هو \"الإرهاب\"، ذاك المصطلح الرهيب الذي أصبح يستخدم كشتيمة وينظر إليه على أنه قنبلة موقوتة كل يخاف أن ينفجر بين يديه، وننسى أن القرآن الكريم استخدمه، بل حث عليه في ظرف محدد؛ قال تعالى \"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم\".36  فإذا كان محظوراً علينا أن نرهب عدونا فما المطلوب منا إذن؟ هل ندعوه إلى وليمة شرقية دسمة، أم نهديه أكاليل الورود وأغصان الزيتون الذي تقتلعه جرافاته كل يوم؟!

     

    أما إذا حاولنا النظر إلى النصف المملوء من الكأس -ولو أنه لا يتجاوز الواحد في المائة- ولو حاولنا التنقيب عن إيجابيات عولمة الإعلام، فيمكن القول إنه \"على الرغم من كل التحفظات التي يثيرها المفكرون والكتاب حول العولمة؛ فإن واحدة من حسناتها التي لا تقدر بثمن أنها ستجعل قوانين المطبوعات العربية مادة تدعو للتندر والسخرية؛ فلن يكون في وسع الرقيب العربي أن يشطب -مثلاً- أي خبر يمجد الحريات وحقوق الإنسان\".37  \"لقد عززت الفضائيات (المحترمة) الهوية القومية ورسختها، وعززت التفاعل بين الشعوب العربية؛ فعلى الرغم من التحفظ على مستوى ما تقدمه الفضائيات العربية، وعلى أسلوب بعضها الآخر ومضامينها، فإنها تصنع الآن مناخاً مناسباً للحوار والتفاعل العربي العربي، ومجالاً يسهم فيه الجمهور ويبدي رأيه فيه؛ ما يشكل تياراً يشق طريقه بين الناس بصمت، ويعزز وجود قبيلتنا العربية في إطار القرية العلمية الصغيرة\".38  وجميل أن نختم حديثنا في هذا الموضوع بالمثل العربي القائل: \"أم لسان غلبت كل النسوان\".

     

    القضية الفلسطينية في مهب رياح العولمة

     

    تجاوز عمر القضية الفلسطينية نصف القرن، وقد شاعت مقولة عولمة الصراعات وتدويلها، فهل المقصود بالعولمة والتدويل نقل القضية إلى المحافل الدولية لإسماع صوت الحق وكسب التأييد وتحقيق الانتصارات؛ أم هو تمييع للقضية وتهميش لها في ظل كثرة المشاغل الدولية؟ ما يعني أن نجد أنفسنا عالقين بين الإخطبوط الأمريكي الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة والسرطان الصهيوني الذي لا يكف عن نهش الأرض والشجر والبشر وحتى الحجر.

     

    إن المتتبع للمحافل الدولية التي أثيرت فيها القضية الفلسطينية يمكنه أن يخرج بنتيجة مفادها أننا لم نخرج إلا بمزيد من الخسائر، خسائر الأرض ... والدماء ... والكرامة.  وإن كان من الواجب أن نشير إلى أنه “لا يمكن أن تعتبر العولمة المسؤولة عن جميع أمراضنا الراهنة، فالأسباب الأكثر أهمية للبؤس والفقر في عالم اليوم تعود إلى حد بعيد إلى النزاعات المسلحة والأنظمة القمعية الفاسدة والدول الضعيفة، ولا يمكن لوم العولمة بسبب الحكومات السيئة”.39

     

    فالواقع العربي المأزوم منذ عقود، حتى قبل أن تجتاح العولمة العالم وتغرقه عن طريق الفضائيات وشبكات المعلومات، ينبئ بما وصلنا إليه، ما دفع النخب العربية إلى التساؤل: هل العولمة فرصة للإنقاذ والتغيير أم تكريس للأزمة؟ “لقد أدى هذا التقدم الديمقراطي الواسع ما كان يمكن عَدّه عولمة للديمقراطية من حيث الانتشار الكوني الشامل لمطالبة الجماهير بالحرية السياسية، وبالتمثيل، وبالمشاركة، وبالمحاسبة، إلى إغراق الديمقراطيين في بحر من الفرح والبهجة، غير أن الأرقام الإجمالية الكبيرة والتطورات التي تكاد تكون أشبه بالمعجزات تخفي وراءها صورة أكثر تعقيداً وأغنى بالألوان، وكان عنصر مهم من عناصر التعقيد متمثلاً بالاهتراء الأشد مراوغة ومكراً لجملة المؤسسات والمعايير الديمقراطية في العديد من البلدان النامية في السنوات الأخيرة”.40

     

    لقد فتحت العولمة الباب على مصراعيه أمام التدخلات الأجنبية في كل صغيرة وكبيرة بحجة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط حباً وكرامة! “فإذا كانت العولمة حقيقية فلا بد أن تكون أمريكا أيضاً منقوصة السيادة؛ وكما يضعون أسطولاً في الخليج يجب أن يكون لنا أساطيل هناك، فلماذا تكون سيادتنا نحن فقط المنقوصة ونسمي ذلك عولمة؟! الأصح أن نسميها هيمنة، فالعولمة كما قلنا إن كان المقصود منها العالمية فلا بد أن تكون حقوقنا جميعاً متساوية؛ ولكن المقصود الحقيقي من العولمة أن تكون سيادتنا نحن فقط المنقوصة”،41 ما أدى إلى ظهور سمات جديدة للدولة لا تخلو من مظاهر كوميدية، “دولة لها كل المظاهر الخارجية لدولة ذات سيادة وتباشر صورياً كل المهام التي كانت تباشرها من قبل، ولكنها في الحقيقة تقوم بوظيفة تكاد تنحصر في وظيفة “الإجلاء والتسليم”؛ أي سحب يدها من كل ما كانت تضع يدها فيه من قبل وتسليمه للأجانب .... هذه المهمة تحتاج إلى دولة من نوع خاص، فهي دولة تفكك ولا تبني، وإنما تترك مهمة البناء لغيرها، وهي تسلم أهلها للأجنبي ليفعل بهم ما يشاء، وكل هذا يتطلب سمات قد يعبر عنها اسم “الدولة الرخوة” ... فهذه السمات سمات الدولة الرخوة تنطبق -للأسف- على كثير من دول منطقتنا العربية، ولكن هناك مع ذلك دولة واحدة في هذه المنطقة تبدي السمات العكسية تماماً، وأقصد بهذه الدولة بالطبع الدولة الصهيونية، فهذه الدولة ليست أقل رخاوة بكثير من الدول المجاورة لها؛ ولكنها لا تبدو وكأنها تنصاع لتيار العولمة الذي يطغى على بقية العالم، فالدولة الصهيونية ما زالت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الاقتصاد والمجتمع، وبينما تسرح دول أخرى الجيوش أو تخفض إنفاقها على السلاح تتمسك هي بجيشها وتزيده قوة، وهي لا تتلقى التوجيهات من صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي، أو لا تلقي لهذه التوجيهات اعتباراً”.42

     

    فهم “يكذبون عندما يقولون إن وسائل الاتصال جعلت العالم قرية واحدة.  صحيح أننا أمام ثورة كبيرة في عالم الاتصال، لكن هذه القرية الواحدة بيوتها ليست سواء، وسكانها ليسوا سواء؛ أي أن هذه القرية بها الظالم والمظلوم، بها القاتل والمقتول، بها من يتأجج بأسلحة الدمار الشامل ومن ينتزع سلاحه وتنتزع أظافره”.43

     

    ومن مخاطر العولمة أنها “بدلاً من الحدود الثقافية الوطنية والقومية تقترح حدوداً أخرى غير مرئية ترسمها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك”.44  “وما على الأقطار إلا ركوب القطار المتجه إلى مركز العولمة الذي يحدد بدوره اتجاه القطار وسرعته ونوع حمولته وقائده ووقوده ومحطاته التي يتوقف فيها وتلك التي يتجاوزها”.45  وهكذا يصبح الوطن أوطاناً شتى لا تلبث أن تتلاشى معالمها ويتمزق المواطن بينها، ولا يحصل منها على شيء، ولا يستطيع أن يقدم لها شيئاً.  ويطيب لنا أن نختتم كلامنا بمقولة إميل حبيبي على لسان “متشائله” في السبعينيات من القرن المنصرم: “أصبح القمر أقرب علينا من تينتنا القمراء”،46 فهل نصر على الوصول إلى “تينتنا” أم نرضى “بالقمر” بديلاً؟

     

    ما العمل؟ رؤى مستقبلية

     

    سمعنا كثيراً من الاقتراحات إزاء التعاطي مع ظاهرة العولمة؛ إذ لا خلاف في أنه لا مفر من مواجهة العولمة ولكن كيف؟ يقول حسن حنفي “الدفاع عن الهوية الثقافية ضد مخاطر العولمة لا يتأتى عن طريق الانغلاق على الذات ورفض الآخر، فهذا تصحيح خطأ بخطأ، ومجموع خطأين لا يكون صواباً، وإنما يتأتى ذلك أولاً بإعادة الموروث الثقافي القديم المكون الرئيس للثقافة الوطنية، وثانياً كسر حدة الانبهار بالغرب، وذلك برده إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، ويمكن التخفيف من غلوائها ثالثاً عن طريق قدرة الأنا على الإبداع في التعامل مع ماضيها وحاضرها بين ثقافتها وثقافة العصر”.47

     

    أما محمد محفوظ، فيقول: “وبكلمة: إننا لا نتمكن من رفض موجة العولمة؛ وإنما نستطيع تحسين وضعنا وموقفنا في هذه المعمورة”.48  ولا يبتعد كثيراً محمد المبروك حين يدعو إلى “تعلم السباحة وعدم محاولة منع الفيضان”.49  أما محمد عابد الجابري فيقول “هناك موقفان سهلان وهما السائدان: موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي وما يتبع ذلك من ردود فعل سلبية محاربة ... وموقف القبول التام للعولمة وما تمارسه من اختراق ثقافي واستتباع حضاري شعاره الانفتاح على العصر والمراهنة على الحداثة”.

     

    لا مفر من تصنيف هذين الموقفين ضمن المواقف اللاتاريخية التي تواجه المشاكل لا بعقل واثق من نفسه متمكن من قدراته، وإنما تستقبلها بعقل “مستقبل” لا يرى صاحبه مخرجاً من المشاكل إلا بالهروب منها، إما إلى الوراء، وإما إلى الأمام، كل سلاحه رؤية سحرية للعالم تقفز على الواقع إلى اللاواقع.  ثم يقول “أما نحن فنرى أن الجواب الصحيح عن سؤال “ما العمل؟” سواء إزاء الثنائية والانشطار اللذين تعانيهما الثقافة العربية أم إزاء الاختراق الثقافي وأيديولوجية العولمة، يجب أن ينطلق وقبل كل شيء من داخل الثقافة العربية نفسها؛ ذلك لأنه سواء تعلق الأمر بالمجال الثقافي أم بغيره، فمن المؤكد أنه لولا الضعف الداخلي لما استطاع الفعل الخارجي أن يمارس تأثيره بالصورة التي تجعل منه خطراً على الكيان والهوية”.50

     

    ولذلك، فإن الدعوة إلى تجديد الثقافة العربية وضخ دماء جديدة في عروقها، يجب أن تستند إلى تجديد القضايا الثقافية العربية حتى تمس وجدان العربي وينجذب إليها بدلاً من الترهات والسخافات التي تغرق عالمنا وتكاد تقضي عليه.

     

    وهنا أود أن أشير إلى ما أسميه “مثلث الأمن الثقافي”،51 والمتمثل في البيت والأسرة والإعلام، حيث يقضي المواطن حياته متنقلاً بينها، فهي المؤثرات الأقوى في قناعاته، وبالتالي في سلوكاته، وفيما يخص البيت والأسرة -ولا أحب الفصل بينهما لما بين أدائهما من تداخل وتكامل- “فيبدو اليوم أن الإعياء دبّ في أداء هاتين المؤسستين ونال من وظائفهما التربوية والتكوينية، ومن قدرتهما على الاستمرار في أداء أدوارهما التقليدية الفعالة في إنتاج وإعادة إنتاج منظومات القيم الاجتماعية ورصيد الوعي المدني، اللذين يؤسسان البنى التحتية للثقافة الوطنية والسيادة الثقافية.  وفي زعمنا أن هذا الخلل -الطارئ على العمل الوظيفي “الطبيعي” للأسرة والمدرسة- إنما كان ثمرة مرة لحقيقتين تقوم على وجودهما ورسوخهما أوفر الدلائل هما: إخفاق النظام التعليمي، وتفكك بنية الأسرة في امتداد الانهيار الكامل والشامل لنظام القيم”.52

     

    أما فيما يتعلّق بالضلع الثالث في مثلث الأمن الثقافي -الإعلام- فقد تناولناه بتفصيل في مكان سابق من البحث، ويكفي أن نشير هنا إلى أنه “تعتمد عولمة الإعلام الحالية على أسلوب الدعاية القائم على استمالة النزعات المثالية لدى الرأي العام الخارجي ... وغالباً ما يوجه هذا الأسلوب إلى قطاعات الشباب والطلبة، وبخاصة الذين هم في المرحلتين الثانوية والجامعية والذين يسهل جذبهم بهذا الأسلوب إلى حيث تريد هذه العولمة”.53

     

    وننهي بحثنا بالمقولة المشهورة أن الأصل في الفكر إذا جرى مجراه الطبيعي أن يكون حواراً بين “نعم ولا”، وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكراً، ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكراً، ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد.54  غير أن المعطيات التي يترجمها الواقع على الصعيدين العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً تشير إلى مزيد من الضبابية، وتنذر بأخطار توشك أن تحدق بالأمة من كل أوب وصوب؛ نظراً لتخلف أنظمتها عن مواكبة المستجدات، حتى الأطر الحزبية التي يُفترض فيها أن تقود الأمة فقد سبقتها الجماهير في رؤاها وتطلّعاتها، بل لم تعد تُقنع الجماهير بأطروحاتها الفكرية والسياسية،... لقد تجاوزها الزمن، لولا أنها تُصرّ على أن تظل في مواقعها رغم أنف الشعوب، فهل بعد ذّلك من حديث عن العولمة، وما يمكن أن نسهم به في ميادينها؟ أو مقاومة الخطر الداهم في طوفانها؟

     

    إن الحديث عن العولمة على الصعيدين العربي والفلسطيني، اقتصادية كانت أم ثقافية أم سياسية، يستدعي تغييراً جذرياً في مختلف أوجه الحياة، ويتجاوز السطح إلى العمق، بحيث يطال نسيج المجتمع العربي كله، وكي نتمكّن من ذلك لا بد من حرق المراحل، والدخول في الزمن الثوري، ومن يدري؟ فقد نتقدم ركب الحضارة البشرية من جديد، وهذا أوان الشد، ولنبدأ من فلسطين.

     

    د. يحيى جبر

    محاضر في جامعة النجاح الوطنية - نابلس

    أ. عبير حمد

    باحثة في اللغويات

     

    الهوامش

     

    1   مبروك، محمد إبراهيم.  الإسلام والعولمة، ط1، الدار القومية العربية، ص101.

    2   محفوظ، محمد (2004).  العولمة وتحولات العالم، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، بيروت - لبنان، ص5.

    3   جميل، سيار.  العرب والعولمة.  مركز دراسات الوحدة العربية، ص35.

    4   العولمة وتداعياتها على العالم العربي.  مركز دراسات الوحدة العربية، ص12.

    5   العولمة وتحولات العالم.  مرجع سابق، ص 13.

    6   العرب والعولمة.  مرجع سابق، ص 29.

    7   تايلور، فيليب (2004).  قصف العقول، ترجمة سامي خشبة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص 134.

    8   الحسين، مازن.  العولمة الفوقية وحركة مقاومتها، ترجمة وتقديم المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية، ص 18.

    9   شربينبرغ، نورمان فان.  فرص العولمة، تعريب حسن عمران، ط1، مكتبة العبيكان، ص14ـ15.

    10 العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، مرجع سابق، ص 215.

    11 ناصر، إبراهيم (1994).  التربية المدنية، ط1، عمان ـ الأردن: مكتبة الرائد العلمية، ص19.

    12 العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، مرجع سابق، ص 217.

    13 المرجع السابق نفسه، ص 220.

    14 العرب والعولمة.  مرجع سابق، ص 298.

    15 المرجع السابق نفسه، ص 318.

    16 المرجع السابق نفسه، ص 318.

    17www.albayan.edu.co.ae/albayan/alarbea2003/issue204/dealougue/htm_24k.

    18 2003jaz/nov/5/ar4.htm_16kwww.suhuf.net.sa.

    19 أمين، سمير (وزميله فرانسو أوتار، محرران) (2004).  مناهضة العولمة، ترجمة: سعد الطويل، القاهرة: مكتبة مدبولي، ص293.

    20 التربية المدنية.  مرجع سابق، ص27.

    21 العولمة وتحولات العالم.  مرجع سابق ص70.

    22 جبر، يحيى عبد الرؤوف.  نحو دراسات وأبعاد لغوية جديدة، نابلس، ط1، ص223.

    23 شاهين، عبد الصبور (1986).  العربية لغة العلوم والتقنية، ط2، القاهرة: دار الاعتصام، ص366.

    24 مركز دراسات الوحدة العربية.  اللغة العربية والوعي القومي، ص178.

    25 مركز دراسات الوحدة العربية.  التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، ص 201.

    26 www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/arabe/p5.htm_48k.

    27 www.najah.edu/arabic/articles/main.htm_129k.

    28www.schodarabia_net/arabic/jubran/future1.htm_24k.

    29 جبر.  مصدر سابق، ص 234.

    30 الكعكي، يحيى أحمد (2000).  الشرق الأوسط وصراع العولمة، ط1، بيروت ـ لبنان: دار النهضة العربية، ص 73.

    31 العولمة وتحولات العالم.  مرجع سابق، ص 57.

    32 المرجع السابق نفسه، ص 77.

    33 إ. ستيغليتيز، جوزيف (2003).  ترجمة ميشيل كرم، خيبات العولمة، ط1، بيروت- لبنان: دار الفارابي، ص 255.

    34 العولمة والهوية.  ص374 ”.

    35 المرجع السابق.  مرجع سابق، ص369.

    36 سورة الأنفال.  آية 60.

    37 العولمة والهوية.  ص367، مرجع سابق.

    38 المرجع السابق نفسه، ص 372.

    39 سوروس، جورج.  جورج سوروس والعولمة، تعريب هشام الدجاني، ط1، ص40، مكتبة العبيكان.

    40 فرانك جي ـ لتشنر وجون بولي (2004).  ترجمة فاضل جكتر، العولمة الطوفان أم الإنقاذ، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، آذار، ص340.

    41 الإسلام والعولمة.  ص 127، مرجع سابق.

    42 العولمة وتداعياتها على الوطن العربي.  ص 163، مرجع سابق.

    43 الإسلام والعولمة.  ص 119، مرجع سابق.

    44 العرب والعولمة.  ص 300، مرجع سابق.

    45 العولمة والهوية.  ص 34، مرجع سابق.

    46 حبيبي، إميل (1974).  الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل، ط1، حيفا: مطبعة الاتحاد التعاونية، ص 15.  والقمراء هي التي لا ينضج ثمرها في أوانه.

    47 العولمة والهوية.  ص 36- 38، مرجع سابق.

    48 العولمة وتحولات العالم.  ص 26، مرجع سابق.

    49 الإسلام والعولمة.  ص133 مرجع سابق.

    50 العرب والعولمة.  ص 305 - 306.

    51 انظر مقالة بعنوان “الأمن الثقافي” ليحيى جبر، مجلة الأمن والحياة، الرياض، 1987، ص45.

    52 المرجع السابق، ص 312 - 313.

    53 الشرق الأوسط وصراع العولمة.  ص 108 مرجع سابق.

    54 العرب والعولمة.  مصدر سابق، ص102.

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me