An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Tuesday, August 11, 2009
  • الأمن الثقافيّ
  • Published at:جريدة القدس 18/5/1997
  •           ينقسم الأمن الذي سعى إليه الإنسان، وما زال، واجتهد في سبيل تحقيقه قديما وحديثا، إلى: الأمن الشخصي، وهو أن يحقق الإنسان لنفسه السلامة في كل حال، ما وسعه الجهد، وما كان ذلك ممكنا، وفي حقيقة الأمر، فإن هذا النوع هو جماع صنوف الأمن، بل إن سلامة المجتمع وأمنه منه يبدأان، ذلك أن الفرد لبنة في البنيان، يؤدي اضطرابها إلى اضطراب البنيان كله ... وما كان من ذلك على نطاق المجتمع، فهو الأمن العام.

    والأمن عموما أنواع شتى، منها:

     

    الأمن الوقائي:

    ويقوم على أساس من الحكمة الطبية القائلة: "درهم وقاية خير من قنطار علاج" ويتحقق هذا النوع من الأمن، بتعقب الأسباب التي قد تضرّ الأمن عاما كان أو خاصا، قبل أن تتمكن من بث سمومها وإشاعة الفتنة، إن العملية تماما، كمكافحة الجراد قبل أن يصل إلى المناطق الخضراء، اتقاءً لشره.

     

    الأمن الصناعي:

    ويختص بمجال الصناعة، والأصل فيه سلامة الإنسان أولا، ولكن دائرته تتسمع، لتشمل سلامة المصنع والآلة، لن حياة الإنسان تستند عليهما، فهما بذلك جزء مكمل للإنسان، ومن وسائل تحقيقه، أجهزة الإنذار المبكر ضد الحرائق ونحوها، إلى جانب ما طوره الإنسان في سعيه الدائب لتأمين سلامته، من ملابس وأحذية وحزام أمان وغير ذلك كثير.

     

     

    الأمن الجنائي:

    ويختص بمكافحة الجرائم، كالقتل والسطو ونحو ذلك مما يؤدي إلى خلخلة البنية الاجتماعية، وإثارة الفتن والأحقاد بين الأفراد والجماعات، ومما ينعكس بدوره على المجتمع كله. وقد يطول بنا استعراض أنواع الأمن غير ما تقدم، ذلك أن أعداء الإنسان من الكثرة بمكان، مادية كانت عداوتهم؛ كالمرض والآفات الزراعية ونحوها، أم معنوية؛ كالجهل والتخلف، وإن كل شيء يضطر الإنسان إلى مكافحته فهو عدو له، وانتصاره يقود إلى تحقيق الأمن والأمان، ويكون الإنسان بذلك، قد سدّ ثغرة كانت تأتيه منها الريح. ومن قبيل ذلك .. مكافحة التدخين والمخدرات، ومكافحة الأوبئة والأمراض السارية، ويدخل في ذلك الآفات الزراعية والتصحر والفقر، وحوادث الطرق، وغيرها.

     

    الثقافة والأمن:

    يبدو أن أجهزة الأمن العربية لم تُعنَ بهذا النوع من الأمن، ذلك لن مفهوم المن في البلاد العربية، بمعناه الاصطلاحي، قد حُصر في نشاطات أجهزة الشرطة والمباحث والاستخبارات، وهذه النشاطات إما امتداد لوظيفة قديمة كانت في الدولة الإسلامية، كمهمة الشرطة والعسس، أو اقتباس من الأنظمة الأجنبية، لا سيما الغربية منها، كالمباحث والمخابرات ونحوها.

    وقديما، في الدولة الإسلامية، لم تكن هناك مخاطر ثقافية تحدق بالأمة، ولا محاولات للغزو والاختراق الثقافي، والغرب في هذا العصر، لم يواجه أخطار الغزو الثقافي، لأنه هو الذي يمارس دور الغازي، ولكن هذا لا يعني أن الشرق والغرب لم يحاولا غزو أحدهما الآخر ثقافيا، وهنا ينبغي أن نذكّر بالمقاومة العنيفة التي قادها كلا المعسكرين، احدهما في وجه الآخر، وما الصراع العسكري والاقتصادي، إلا صورة صادقة للصراع الثقافي بينهما، كما نذكّر هنا، بالإنفاق السخيّ في مقاومة الغزو الثقافي في الاتجاهين.

     

    العلامة الفارقة:

    وكانت بلادنا العربية، بل العالم الإسلامي بأسره ـ وما تزال ـ سوقا رابحة توج فيها السموم الثقافية المصنوعة خصيصا لشعوبنا، دون أن تجد منا القدر الكافي، ولا الأساليب المناسبة من المقاومة، ولا سيما أن تلك السموم، تسربت إلى مجتمعاتنا بأساليب خبيثة متقنة، حتى أصبحت الشخصية العربية الإسلامية مهددة بالذوبان، وتلك هي صلاتها بجذورها وتراثها أصبحت واهية، ويوما بعد يوم تزداد وهيا، وقد يستذكر أحدنا سلوكا كان يستهجنه قبل عشرين عاما، ولكنه اليوم، وبالرغم من تقدم السن به، يألفه ولا يستنكره، وقد نمثل لعادات جدّت علينا، كالتدخين، وبعض الأزياء، والاحتفال برأس السنة الميلادية، وغير ذلك كثير، من شيوع بعض القيم المظهرية الاستهلاكية والاتكالية ونحوها.

    ويتمثل الأمن الثقافي الذي ندعو العرب والمسلمين جميعا إلى تحقيقه، في الحفاظ على سلامة الدور الذي تؤديه صلة المجتمع وأفراده بالتراث العربي الإسلامي، في بناء شخصية الفرد والمجتمع، ليظلا متميزين عما سواهما، لا يذوبان فيه، بل يتأثران في حدود لا تُزيل العلامة المسجلة "أو" العلامة الفارقة عنهما.

    وهذا يعني أن تظل الصلة بالماضي وتراثه واضحة جليّة، وأن يكون نهجنا في أعمالنا كلها، انطلاقا من قاعدته، فنأمنَ بذلك مخاطر التهجين الثقافي، التي بدأت تستشري في جسد الأمة، متخذة مئات الوسائل والأشكال، وقد نذكر هنا، أن التغيير البطيء لا يشعر به الإنسان في زحمة الحياة، ووطأة متطلباتها .. وبذلك نخشى أن يكون هذا الجيل فاصلا بين حقبتين من تاريخ الأمة، لا جسرا بينهما، نظرا للتباين الشديد بين ما قبله وما بعده.

    إن المتأمل في المتغيرات الحياتية في البلاد العربية والإسلامية، مع مراعاة الفوارق من بلد لآخر، ليقف بسهولة ويسر على مداها، وأنها بلغت حدا يؤذن بانهيار الحضارة العربية الإسلامية، الأمر الذي يستدعي سرعة وجديّة في تداركه، وذلك قبل فوات الأوان، قبل أن ينظر احدنا في المرآة، فيستنكر عكسه.

    وقد يكون ضروريا أن نشير هنا إلى حرص الأعداء على تمزيق شمل امتنا، واستلابها من فَلَكها، وإلى أنهم يتابعون ذلك بتخطيط محكم، وإصرار حاقد، ويبذلون في سبل تحقيقه الأموال الطائلة، فما البرامج الإعلامية الموجهة وبعض المنشورات، إلا سموم في دسم، وإن بدا ظاهرها برّاقا يخلب الأنظار.

    إن الدعوات الهدامة، التي نشطت معولها في أوائل القرن الميلاديّ العشرين، من تبسيط العربية، والعلمانية، والدعوات الحزبية المختلقة، ونحو ذلك، وإن اختفت وراء شعارات أخّاذة، إلا أنها ما تزال تنفث سمومها في مجتمعاتنا، وقد أخذت من بعضها كل مأخذ، وذهبت فيها كل مذهب، وقد نذكّر هنا بالمأساة اللبنانية، وما يحدث في بعض الدول العربية والإسلامية، من قلاقل ونحوها، من حين لآخر.

    إن الواجب الأمني في مجال الثقافة، يستدعي أن يكون هناك خط احمر، لا يحلّ لأحد، أيا كان، أن يتجاوزه، هو حدّ الهوية العربية الإسلامية، فمن خرج عليه فقد خرج على أمته، واستحقّ العقوبة، ولئن عوقب المرحوم طه حسين على كتابه "في الشعر الجاهليّ" بالعزل، مما اضطره إلى سحبه من الأسواق، وإعادة صياغته بما يناسب المجتمع .. ولئن كان المجتمع العربيّ والإسلاميّ قديما يعاقب على الزندقة، فإن الخارجين في عصرنا هذا قد كثروا ولم يُعاقَبوا ـ إلا ما ندر ـ وإنهم يتمادون في ذلك، ويتفننون في أساليبهم، باسم الحرية حينا، وباسم التقدم حينا آخر، ويشيعون الفساد في المجتمع، ويحرمونه أمنه الثقافي، وهل الثقافة إلا إكسير شخصية الأحياء؟ إن السكوت عن هؤلاء الخارجين، وعن أفكارهم، ومواطئ أقدامهم، كالسكوت عن حريق صغير في مصنع، فهو يوشك أن يأتي عليه، والسكوت عن وباء يكاد يفتك بالأمة، فأين هو المن إذا؟

    وقد يحسن هنا أن أذكر للقارئ العزيز، حكاية تكشف عن اختراق خطير .. أحد الأجهزة الإعلامية الموجهة للمنطقة العربية، في مسلسل غربي مترجم بالكلمة المكتوبة، قدّم للمشاهدين الأطفال ريتشارد قلب الأسد، قائد إحدى الحملات الصليبية، على شرق البحر المتوسط الإسلامي، قدمه على أنه ذهب إلى هناك، ليحرر تلك البلاد من قُطّاع الطرق! هكذا .. والله جعل المسلمين في بلاهم قطاع طرق، فمن ذا يصدّق أطفالُنا؟ ما يقوله لهم مدرس التاريخ أم يصدقون ذلك الجهاز؟ نعم، ربما كان ذلك سهوا من المترجم أو الرقيب ـ هذا إذا أحسنا الظن ـ ولكن في الأمر خطورة تستدعي مزيدا من التيقظ.

    إن الأمن الثقافي .. جدير بأن يكون في طليعة صنوف الأمن التي ينبغي أن تُوَجه إليها عناية الدول العربية والإسلامية .. فلئن كانت أنواع الأمن المعتنى بها تحافظ على جسد الإنسان وراحته ومتعته في دنياه، فإن الأمن الثقافي يحافظ عليه كله، لا سيما روحه وفكره المتحكم في نمط حياته .. وفي مصيره في آخرته.

    فهل إلى تحقيق ذلك من سبيل؟ أو على الأقل ـ هل إلى عقد ندوة للبحث في ذلك من سبيل؟

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me