An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, February 9, 2009
  • الدخول تحت التضاد
  • Published at:Not Found
  • الدخول تحت التضاد([1])

     

              لكل مقولة خبرية عند الفلاسفة وجهان تحتملهما هما الصدق أو الكذب، وبهذين الاحتمالين يحدد اللغويون الجملة الخبرية، ويفرقون بينها وبين الجملة الإنشائية أو الطلبية. ويعبر المناطقة عن التي تحتمل الصدق والكذب معاً بالدخول تحت التضاد، وهذا النوع من المقولات ملبس مضلل، ولا يؤدي إلى وضوح في الرؤية، على العكس من النوع الآخر حتى لو كان لا يحتمل إلا الكذب.

              وتشكل حياة الإنسان الفرد… والإنسان المجتمع، من خلال اصطباغها بما ينسجم مع ذاتهما الممتدة - تشكل مقولة تحتمل الوجوه الثلاثة. وقد تشهد حياة امرئ تقلباً في مصداقيتها من حيث ما تتصف به، فتكون مرة هكذا ومرة هكذا، وربما احتدم صراع عنيف بين المرء ونفسه، كأن يكون سوياً ونفسه أمارة بالسوء، أو فاسداً ونفسه لوامة، ويستبد به " الانفصام " حتى تتمخض معركة النفس مع ذاتها عن وجهة إلى " الصدق " أو إلى " الكذب "، وربما تمكن من التوصل إلى صيغة للتعايش مع نفسه تقوم على خلط الأوراق بين الظاهر والباطن، وبذلك يكون " كالداخل تحت التضاد"، وهذا هو النفاق بعينه… إنه منافقة النفس.

              ولئن كانت هذه هي حال الفرد، فإنها كذلك حال المجتمع أيضاً، وبصورة أعمق وأوسع وأوضح: فلكل مجتمع، ولا نقصد هنا المجتمعات الصغيرة التي ظهرت بقيام الدول الحديثة، بل المجتمع الذي كان قبل ذلك، محتوى، تماماً كالألفاظ لكل منها معنى، وما أشبه تطور بعضها بتبدل أحوال المجتمعات حيث تتم العملية بهدوء، ولكن على نحو محكم، قد يكون مدركاً… ولكن الغالب أن يتم ذلك بعيداً عن وعي الإنسان وانتباهه، ودون قصد منه.

              إن اللفظ لينصرف لمعنى جديد في قرن من الزمان تقريباً… ولكن المجتمع، لكي يلبس ثوباً آخر، وتغير جيناته وكرموسوماته، لا بد له من وقت أطول… وبكثير.

              ويقف الناظر في " مقولة " المجتمع الإسلامي، حيث إن الحال في المساوئ والمحاسن، يقف على أنها، واعتباراً منذ نحو من قرنين مضيا أو أكثر، بدأت تعبر طريق التبدل والدخول في منطقة الظل بين الصبح والظلام داخله بذلك، تحت التضاد نظراً لما راح يعتري صبغة المجتمع الأصلية من شحوب، وتشربها لألوان أخرى بعد حملات معادية، مختلفة المصادر والأشكال.

     

              ففي الداخل كان التخلف العقلي قد بلغ حداً مزرياً، ولئن كان لذلك من تعليل فهو سوء الإدارة واستبداد بعض الأفكار التي من شأنها إعاقة النمو الاقتصادي بمعناه الواسع، كنظرة كثير من المسلمين - وحتى اليوم - إلى شيوع بعض العادات والتقاليد الضارة، والتسطح في الحياة، وغياب الوازع الديني، وإلصاق بعض المفاهيم الفاسدة بالإسلام وانتشارها على أنها تمثله وتأخذ منه.

              ومن الخارج، كانت أوروبا قد اهتدت إلى أسلوب جديد في التعامل مع هذا المجتمع، غير الحرب الصليبية المباشرة التي ظلت تشنها ابتداء من القرن العاشر من ميلاد عبد الله المسيح عليه السلام، وإلى فترة قريبة، ذلكم هو أسلوب تقويض البناء من الداخل، ولذا كان لزاماً عليها أن تعرف كنه المجتمع وكيف يفكر، وبذلك يتحقق لها ما تريد، فأرسلت قناصلها التجاريين، وجندت أعداداً من ضخمة من الرحالة والمستكشفين، وأرسلت بعثات " التبشير‍!"، وسرقت كنوز الشرق من مخطوطات وآثار ونحوها، وعكفت على دراستها، فتمكنت بذلك كله من سبر غور نفس أهل الشرق، وتمكنت من تحديد مصدر القوة أو " الداء إن شئت، ومن عرف الداء أمكنه وصف الدواء، وتحديد مصدر القوة، أو"الداء" إن شئت، ومن عرف الداء أمكنه وصف الدواء، وتحديد شكل آلة الهدم، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت المعركة تأخذ بعدا جديدًا، واستراتيجية على طريق تغير مجرى نهر النور والإشراق، وسلب المجتمع مصداقيته، وإدخاله تحت التضاد، ليعيش من الصراع ألواناً ويذوق منه أشكالاً، وبذلك " يخلو الميدان لحميدان" وقد كان لهم ما كان….

              فبادرت أوروبا- وأمريكا حضارياً أوروبية، وكذلك الاتحاد السوفيتي، وإن بدوا متناقضين، لأن الفعل ورد الفعل، وإن كانا متناقضين إلا أنهما متكافئان يكمل أحدهما الآخر، ذلك أنهما من جنس واحد، حيث الصبغة المادية هي السائدة في كلا المعسكرين – بادرت إلى استخدام السلاح حيث يحسن أن  يستخدم السلاح، وإلى استخدام الندا حيث يحسن الندا، كأنها تلقت درساً من المتنبي. ولم تبدأ بأطراف المجتمع لتنتهي إلى وسطه، بل هاجمته من كل حدب وصوب، ولم يقتصر بذلك على المكان والإنسان، بل تعداه إلى عقل الإنسان وهواه، وأقامت لذلك المعاهد والمدارس التي ما يزال بعضها أو امتدادها – وللأسف – قائماً يمارس نفس الدور، دور تقديم السم في الدسم، لو كان الأطفال لا يحبون الحلوى.

              وبالسلاح تارة، وبالإغراء أخرى، وبشكل مباشر على أيدي " المبشرين " الغربيين مرة، وغير مباشر على أيدي المروجين للثقافة الأوروبية – ولا نقول العلم الأوروبي – من أبناء المسلمين مرة أخرى، تمكنت أوروبا من بسط نفوذها على المجتمع الكبير، وتغلغلت في أعماقه، ويوماً عن يوم لم تعد تجد من الصعوبة والعنت مثلما بدأت به، حيث راح وجودها في يجذب إليه كثيراً من الفراش، كان هو أول من باشر بتغيير المجرى.

              وبدأ المجتمع بفقد بريقه على نحو متسارع، وانتقلت بؤرة الجذب من أماكن " الوجود " الأوروبي في الشرق إلى أوروبا نفسها حيث بدأ المشارقة يتقاطرون إليها بعد أن " ضبعتهم " طلباً لـ " علم " أو " متعة " أو غير ذلك مما يصعب حصره.

              وهكذا ازداد العنصر فقداً لمقوماته، تماماً كما يفقد اليورانيوم مقوماته بالإشعاع .. فيتحول إلى رصاص .. ويتغير نتيجة لذلك رمزه الكيماوي .. واسمه، وحق على من تغير جوهره أن يتغير اسمه وما يرمز به إليه.

              وقد شهد المجتمع الإسلامي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حملة مضادة على أيدي جماعة هبت من هنا وهناك تدافع عن " المجتمع " بالكلمة مرة، وبالسلاح " القاصر " مرة أخرى، ولكنها، وللأسف، لم تتمكن من تحقيق أهدافها .. لأنها كانت تجذف عكس " التيار " وبخشب قد نخره، ولأن سلامة النية وصحة الفكرة لا يكفيان لتحقيق الهدف، إذ لا بد لتحقيق ذلك من مقومات أخرى.

              وقد نذكر من هؤلاء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الله النديم والكواكبي وغيرهم بغض النظر عما يقال في بعضهم مما لم يقم عليه دليل قاطع ينافي ما أثر عنهم في الظاهر، وقد كانوا عظاماً لأنهم أجهدوا أنفسهم في الدفاع عن جوهر المجتمع، وإيقاظ الرقود.

              فخلف من بعدهم خلف لم يبلغوا مبلغهم على مستوى المسؤولية، لأن كثيراً منهم ولدوا وتربوا في مناخ متأثر – ولو إلى حد بسيط – بقوة السلب الحضاري الذي نجحت أوروبا في تحقيقه، وتبدو آثار ذلك اشد وأوضح فيمن جاء بعدهم حتى نصل إلى يومنا هذا، حيث قليلاً ما نجد في الكتاب والأدباء من يشغل نفسه، بل من يجد في نفسه ما يكتبه في ضرورة إعادة النهر إلى مجراه، والمجتمع إلى امتداده الصحيح، لأنه ولد وعاش وترعرع وتكوَّن فكره في زمن السلب، فكانت النتيجة أن سُلب كثير من الكتاب التفكير الصحيح، ولا عجب إذاً، أن رأينا بعضهم يفكرون بطريقة تنسجم مع ما آل إليه المجتمع من تبدل في جوهره، وتألقه، لأن من شب على شيء شاب عليه، ومن وجد أباه على حال تحلى بها وألفها، وهنا يكمن الخطر، لأن تراكمات كثيرة أطبقت فوق حقيقة المعضلة التي يعاني منها " المجتمع " وعلا النفوس كثير من الصدأ، فلم تعد تقوى على تشخيص الداء … وبالتالي وصف الدواء.

              وبعبارة أخرى فقد تبلورت مناهج التفكير في إطار التغيرات التي أحدثها " الوجود " الأوروبي، فإذا بكثير من الكتاب والمفكرين يرون ويسمعون ويفكرون بطريقة يتشبهون فيها بالطريقة الأوروبية، ومن هنا تخلّقت العاهة البدنية بعد النفسية وكان العرج في الغراب، والإقامة على العجز.

              ولعل أخطر ما انتهت إليه الأمور في " دار الإسلام " هو فقد الاستجابة، التي هي رد الفعل. لقد فقد المسلمون القدرة على الفعل والمبادرة منذ زمن، وهم اليوم يفقدون عنصر الاستجابة المتمثل في الرد على التحديات الخطيرة التي باتت تهدد دم الحياة منهم لو كانوا يشعرون، وتلكم، وأيم الله، هي الحقيقة التي تفوق الموت، وما أشبه الواقع بقول الشاعر:

    لقد أسـمعت لو ناديت  حيا

    ولكن لا حياة لمــن تنادي

    ولو ناراً نفخت بهـا أضاءت

    ولكن أنت تنفخ في  رِّماد

              ويقع اللوم الأكبر على الكتاب والأدباء الذين أشبه بالمشيعين، ذلك أنهم – وهم قادة الفكر والعقل الموجه!- لا يهتمون بالموضوع الأساس في قضية المجتمع الرئيسة، بل إن منهم من راح يدافع عن " فكر أوروبا، رأسمالياً أو شيوعياً، ويحمل على جذور مجتمعه بعد أن غذي بلبن الواقع الثقافي الذي وُلد فيه، مما كان لأوروبا في صبْغه الفُرشة واليد والطلاء.

             

    وقد نعرض لبعض مظاهر الدخول تحت التضاد في واقع الحياة الإسلامية بإيجاز شديد، حيث طغت هذه الظاهرة على جميع جوانب الحياة بأبعادها المختلفة، ففي مجال الأدب والفكر، تم برز تيار قوي مناهض للأصالة، وفي المقابل قامت حركة نقدية نشطة تتناول الأدب بعيداً عن الحياة والكيان الاجتماعي بحدوده التاريخية، فإذا بالالتزام كلمة جوفاء، وإن كان لها عند بعضهم معنى فهو لعلاقة بجزئية فرعية. وكأنما سد الباب دون المعضلة الحقيقية، وأقيمت المعركة دونها حتى لا تمتد إليها، وقل مثل ذلك في حقيقة الصراعات الدموية التي يشهدها المجتمع، حيث هي صراعات مفتعلة للحؤول دون أخذ الصراع للونه واتجاهه الصحيحين.

             

    ومن ذلك أن أوروبا بمعناها الذي قدمنا، قد نجحت في كسر الطوق النفسي الذي كان الشرقيون عموماً والمسلمون خصوصاً، يتسلحون به ضدها، ونجحت، بالرغم مما فعلته وما زالت تفعله، في تطبيع العلاقات معها، وأنستنا ما كان من جرائمها، وذلك بعد أن تمكنت من خلق جيل – كما ورد في مذكرات اللورد كرومر – ينتمي إلى الشرق بلسانه ولونه، ولكنه ينتمي إلى أوروبا بطريقة تفكيره.

              ومن مظاهر ذلك التناقض الزي الذي هو إطار صورة الشرقي، وهل تكمل الصورة إلا بإطارها، ويلاحظ اليوم، بوضوح تام، أن معركة الزي ما تزال قائمة بالرغم من مرور وقت طويل على ابتدائها، يعود إلى نحو من قرن عندما خرجت هدى شعراوي تطالب بارتداء الأزياء الأوروبية.

              ومن ذلك اختلاف مناهج التربية والتعليم وتوسيعها لتتضمن معارف يتم تحصيلها علي حساب المعارف الأصلية، إلى جانب السلوكيات الأوروبية التي أخذت طريقها إلى مجتمعنا على نحو يتفاوت من بلد لآخر، ومن أسرة لأخرى، وتتمثل خطورة ذلك في تحمس بعض الناس، لهذه السلوكيات، واتخاذها علامة على التطور والرفعة الاجتماعية!.

     



    ([1])  مجلة كلية الدعوة الإسلامية ( ليبيا ). العدد السابع ص 358-364.

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me