An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, July 12, 2010
  • صفحات لغوية في التاريخ الطبيعي للجزيرة العربية
  • Published at:الدارة/ مجلة فصلية محكمة تصدر عن دارة الملك عبد العزيز بالرياض العدد الثالث، السنة الخامسة عشرة، ربيع الآخر، جمادى الأولى، جمادى الآخرة، 1410هـ، ص230 ـ 239
  •  

     

    تمثل اللغة، لغة أي شعب كان، جوانب شتى من تاريخ ذلك الشعب، وتكشف عن تطوره وازدهاره، من حقبة لحقبة، وتعكس مراحل ارتقائه في مدارج التقدم والنماء، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار اللغة بمفهومها الواسع، ممثلة في تراثها الأدبي من شعر ونثر، والفكري من مصنفات في مختلف مجالات العلوم.

     

            وقد يكون للغة دور أكبر من كل ما تقدم، كأن تكشف عن ملامح التاريخ الطبيعي للإقليم الذي يسكنه الناطقون بها، وعن غيرها من أوجه النشاط المختلفة، طبيعية كانت أم بشرية، مما لا يتسع المجال لذكره.

    ويتصدر اللسان العربي لغات الشعوب في هذه المجالات كلها، فهو أنهض من كل ما سواه في تقديم صور ناصعة لماضي البلاد والعباد، وهو أقد رمن كل اللغات على عرض ماضيه، وتقليبه في حاضره، ذلك بما يتسنى له من اتصال في الزمان، حيث يضرب تراثه بجذوره في أعماق التاريخ، ويحتفظ بسجلات القرون الخالية على أحسن ما تكون من حال، وهذا فضل لو لم يكن للغتنا من فضل غيره لكفاها، وأبرز عن مكانتها العالية، إلا أن للغتنا من المناقب وفيرا، ومن الفضل كثيرا، وقد نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

      أ ـ قدسية العربية ممثلة في أن الله عز وجل اختارها لكتابه الكريم ولدينه الذي ارتضاه لعباده.

    ب ـ التصاقها بالبيئة الطبيعية، واندماجها فيها على نحو لا نجده في لغة غير العربية، وقد يكون في مصنَّفَينا: الألفاظ الجغرافية في التراث العربي حتى القرن الهجري الثالث، ومعجم ألفاظ الجغرافية الطبيعية (1)، ما يوضح ذلك إلى حد بعيد.

            وقد يطول بنا المقام إن نحن مضينا في تتبع ما تمتاز به العربية عن سواها، وإن هذا الموضوع جدير بأن يفرد له بدلا من البحث بحوث كثيرة، ذلك لأهميته واتساعه ووفرة مادته.

            وفي بحثنا هذا،سنعرض جانبا مما تنفرد به العربية، أو قل: يزدان به سجلها، وهو ما يكشف عنه تراثها الأدبي من ملامح التاريخ الطبيعي للجزيرة العربية، التي هي الوطن الأم للغتنا العربية منذ أمد لا يُعرف أوله، وإلى يومنا الراهن، وستظل بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

            لقد تفاعلت اللغة في وطنها الأم مع جميع أجزائه، وواكبتها في جل مراحل تكوينها. فجاءت واعية للأحداث. تختزن في ذاكرتها كثيرا من مجريات التاريخ بمفهومه العريض، وعلى نحو ما سنكشف عنه في ما يأتي، بتبصر مستفيض في سجلاتها ودواوينها،قاصرين اهتمامنا في هذه الصفحات على جانب واحد من تاريخ الجزيرة الطبيعي، ممثلا فيما يحتفظ به سطحها من الآثار التي واكبت تكوينه مما نجد له شاهدا في كلام العرب.

            يلاحظ الجوّابة في جزيرة العرب، وكذلك الدارس في المصنفات الجغرافية قديمها وحديثها، أن لسطحها ملامح متباينة؛ فهناك الفلوات المتناصية، فمن بادية الشام في الشمال إلى صحراء النفوذ فصحراء الدهناء والصمان، فجنوبا إلى الربع الخالي بأبعاده المترامية وأهواله الكثيرة.

            وهناك الجبال من العقبة (أيله) إلى مكة المكرمة فصنعاء وعدن، وإلى الشرق من هذه السلسلة  (جبال السراة) هناك جبال طيء: مُواسل وأجأ وسلمى، وإلى الجنوب جبل طويق، وإلى الشرق على سيف عمان يقبع الجبل الأخضر، وهناك واحات كثيرة،ولا سيما في الأجزاء الشرقية من الجزيرة العربية، وفي مناطق الرياض، والمدينة المنورة ووادي الدواسر والبريمي وغيرها.

            وتزدان المناطق الجنوبية من سلسلة جبال السراة (من الطائف إلى عدن) بغطاء نباتي كثيف نسبيا، ويختلف المناخ إلى حد بعيد، وتسمى هذه المنطقة في بلاد عسير وما يليها من تهامة باسم \"ساق الغراب\" نظرا لسواد جبالها، إما على الحقيقة لأن صخورها بركانية محترقة، وإما لخضرتها، والأول أولى، نظرا لدقتها ووعورتها.

            وتغطي الحرّات مناطق شاسعة من أرجاء الجزية العربية، فهناك الحرّة الرجلاء وحرّة خيبر وحرّة ليلى، وحرّتا المدينة وحرّة لبن وغيرها مما نجده مفصلا في معجم البلدان لياقوت الحموي (2) والمعجم الجغرافي للشيخ حمد الجاسر(3)، وغيرهما من المصنفات القديمة والحديثة، وكان العرب يتجنبون السير في الحرات راجلين وراكبين، ذلك لوعورتها، غير أنهم كانوا يلوذون بها إذا دهمهم من العدو من لا طاقة لهم به.

            ولو نقبنا في المعاجم اللغوية عن الحرة ما هي، لوجدنا أنها تجمع على أن الحرة (4) \"هي الأرض المغطاة بحجارة سوداء ذات تخاريب كأنها أحرقت بالنار\" لكننا نتساءل:

    لماذا سميت بهذا الاسم، وما هي العلاقة بين دلالة الأصل اللغوي ( ح ر ر) الذي اشتق منه اسمها، وبين الأرض المغطاة بحجارة سوداء ... كأنها احرقت بالنار؟

            فهل سميت به لأن درجة الحرارة ترتفع فيها؟ لأن المواد السوداء تمتص كمية كبيرة من الحرارة؟ لكن أليس ذلك محصورا بأوقات بعينها، هي النهار دون الليل، والصيف دون الشتاء، مما يفسد الاستدلال بهذه العلة. إذاً هل سميت لعلاقة أخرى؟ أجل، فالحرة كلمة أطلقها العرب قديما على ما نعرفه اليوم باسم البركان، وقد كانوا يسمونه \"نارا\" أيضا، والنار الحرة (من الحرارة) متقاربتان جدا في دلالتيهما. من الأول قول عرعرة النميري في \"حرّة القوس\":                  رجز

    بحرة القوس وجنبي محفل                                               بين ذراه كالحريق المشعل (5)

    والمعنى: ببركان القوس وبجانبي جبل محفل حيث نرى أعاليه مستنيرة بمقذوفات البركان الملتهبة، فكأن فيها حريقا مشتعلا . وقال آخر في حرة لبن:                                              وافر

    بحرة لبن يبرق جانباها                                                   ركود ما تهد من الصباح (6)

            حيث الدلالة على البركان واضحة، والبركان في هذين الشاهدين ثائر تخرج منه النار  وهو حرة تتلظى، وتشع منه حرارة عالية، وتسيل على جوانبه الحمم ـ الصهير ـ فما تلبث حتى تبرد وتستحيل حجارة سوداء (قد) أحرقت بالنار حقيقة، وليس كأنما أحرقت، وإنما قال أصحاب المعاجم (كأنما) لأنهم لم  يشاهدوها في دور التشكل والتكون.

            ومن الجمع بين الحرة والنار على سبيل الإضافة قول النابغة الذبياني:               بسيط

    فإن غضبت فإني غير منفلت                                       مني اللصاف فجنبا حرة النار (7)

            كأن هذه التسمي هي التي كانت شائعة بادئ الأمر، فسقطت كلمة النار من باب التخفيف والإيجاز.

            إذاً، فتسمية الأرض ذات الحجارة السوداء المفترشة \"حرة\" ناتجة عن المعنى الأصلي للحرة، وهو \"البركان الثائر\" وما يصاحبه من نار وحرارة وصهير متدفق سرعان ما يصبح حجارة ..... فهي إذا من باب تسمية الشيء بأصله، وهو ما يعرف عند البلاغين بالمجاز المرسل المبني على ما كان من أمر الشيء قبل كينونته الحاضرة، كأن تسمي الإنسان طينا، والخبر برا، ونحو ذلك.

            وتسمية البركان \"نارا\" من المجاز علاقته الجزئية، ذلك أن النار جزء من البركان، وهي أظهر ما فيه، ومن المصادر التي ورد فيها ذكر النار في مقام البركان نص لأبي حنيفة الدينوري نقتبسه من كتابه \"الأخبار الطوال\" حيث قوله: \"كان لذي نواس بأرض اليمن نار يعبدها هو وقومه، وكان يخرج من تلك النار عنق يمتد فيبلغ ثلاثة فراسخ (8)، فترجع إلى مكانها(9) وذلك قبل اليهودية .

    ومن ذلك أيضا ما أورده المسعودي في خبر صروان حيث قال:

    \" وهي نار كانت تظهر ببعض الحرار بأقاصي بلاد اليمن\" (10) قلت: لعلها نفس النار التي ذكرها الدينوري، ولعلها أيضا بالمعجمة، ضروان، فهي زنة فعلان من الأصل اللغوي (ض ر و) وهو ينصرف لدلالة أصلية على معنى الاشتعال، على نحو قول زهير في معلقته وذكر نار الحرب:              

                                                                                                  من الطويل

                    .......................                    فتضر إلى ضريتموها فتضرم

    أي فتشتعل وتتقد.

            وكانت \"النار\" لا تزال ثائرة في إحدى الحرات إبان عهد عمر بن الخطاب (11) ـ رضي الله عنه ـ، كما كانت سحب الدخان تخرج في عهد الخليفة عثمان بن عفان من بعض الجبال القريبة من المدينة المنورة (12) أما عقب ذلك فلم نعلم أن أحدا ذكر شيئا من البراكين قد ثار في جزيرة العرب، كأنها خمدت بإشراقة الإسلام.

            وحدثني من أثق به من طلابي أيام كنت اعمل مدرسا (13) في تنومة ببلاد بني شهر من المملكة العربية السعودية أن دخانا يخرج من صدع في موضع تهامة يقال له \"أمثودة\" أي: الثودة مما يلي القرى السروية الفليتة والقذال وربوع قريش إلى الجنوب الغربي من تنومة.

            وقد طمحت إلى مشاهدة تلك الظاهرة ولكني لم أذهب.

            وفي تسمية العرب الحرة باسم \"الفَتِين\" دليل قاطع على أنهم كانوا يدركون العلاقة القائمة بين دلالة الأصل اللغوي ( ح ر ر) بمفهومها الجغرافي، ذلك أن (الفتين) في مبنى (فعيل) بمعنى المفعول من الأصل اللغوي (ف ت ن ) بمعنى أحرق بالنار، ومن ذلك قوله تعالى: \"إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق\" (14) حيث المعنى الذين حرقوهم. والحرة نار تحرق، وحجارتها كأنما أحرقت بالنار. ومن الفتين بمعنى الحرة قول الكميت بن زيد (15):                                                                                   وافر

    ظعائن من بني الحلّف تأوي                                    إلى خرس نواطق كالفتينا

            ولا ندري لماذا نصب، فلعله توهمها كالقلة والكرة وجمعها قلين وكرين، فهي إذا مجرورة بالكاف، وعلامة جرها الياء لإلحاقها بجمع المذكر السالم.

            ويتضح مما تقدم أن الجزيرة العربية كانت تشهد من حين لآخر ثورة بعض البراكين هنا وهناك، وإن عهدها بذلك قريب منا على نحو ما تكشف الروايات والأخبار السالفة الذكر. وتعود قصة تكون الجزيرة العربية وتشكل سطحها إلى الزمن الجيولوجي الثالث، عندما حدث خسف بين ما أصبح يعرف بقارتي آسية وإفريقية محدثا ما يعرف بحفرة الانهدام (16) أو الأخدود الإفريقي العظيم الذي يمتد من منابع النيل جنوبا إلى البحر الأسود شمالا، ونجم عنه الصدع العظيم الذي ملأه ما المحيط، وصار يعف من بعد باسم البحر الأحمر. ويمتد هذا الصدع في هيئة انخفاض شديد يتمثل إلى جانب البحر الأحمر في تهامة وغور الأردن وسهل البقاع بلبنان.

            وقد ظل سطح الجزيرة العربية يشهد ثورات متوالية من البراكين والانكسارات الأرضية حتى تشكل على النحو الذي هو عليه اليوم. وإن فيس همود البراكين (17) ابتداء من ظهور الإسلام لآية لأولي الأبصار، تدعوهم إلى التدبر والتأمل؛ لأن في ذلك مما يعضّد عظمة هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده أجمعين.

            ومن الأدلة التي توضح أن العرب كانوا يشهدون البراكين ومقذوفاتها، ما يصير إليه أمرها، حيث تكون بادئ الأمر سائلة ثم تشتد حتى تصبح حجارة وصخورا صلدة، ما أثر عن بعض الشعراء من أقوال نعتوا فيها الحجارة بالرطوبة واللين، وهذان من نعوت صهير البراكين قبل التصلد، ومن قبيل ذلك ما أنشده ابن الأعرابي وغيره من أقوال الراجز في امرأة:        رجز

    تسألني عن السنين كم لي                                   فقلت: لو عمت عمر الحسل

    أو عمر نوح زمن الفطحل                                          والصخر مبتل كطين الوحل

    حيث جاء في الخبر عن أبي علي القالي (18) أنه سأل أبا بكر ابن دريد ـ رحمهما الله ـ عن زمان الفطحل فقال::

    تزعم العرب أنه زمان كانت فيه الحجارة رطبة، أي لينة، والحسل هو ولد الضب، وبه يضرب المثل لطول العمر . وكذلك نوح عليه السلام، حيث لبث في قومه يدعوهم لدين الله تسعمائة وخمسين عاما، أي أنه عُمِّر فوق ذلك، والمقصود لو عشت طويلا أيام كانت الحجارة رطبة قبل أن تتصلب لكان كذا وكذا. وانظر إلى قوله \"والصخر مبتل كطين الوحل\" إنه تصوير دقيق لصهير البراكين أثناء انسيابه من حولها أثناء ثورانها.

            ومن الشواهد التي تقع بحكم ما نحن بصدده، قول الطرماح بن حكيم يفاخر بقبيلته طيء:                                                                                              طويل

    لنا الملك من عهد الحجارة رطبة                           وعهد الصفا باللين من أقدم العهد(19)

    فقبيلته عريقة في سيادتها التي تضرب في أعماق الزمان، حين كانت الحجارة ما تزال رطبة، ولعل المقصود هو عصر ما قبل الإسلام، حين كانت البراكين تثور من حين لآخر في بعض أنحاء الجزيرة العربية.

            وأن تكون الحجارة رطبة، وكطين الوحل، وتستمر على تلك الحال ... مستحيل، والمعقول هو أن تكون صهيرا، سرعان ما ييبس ويتصلب، فيكون العهد به مائعا أو سائلا، ومدة مشاهدته كذلك قصيرين (بضعة أيام) لكنهما كافيان للتحقق من التحول وإدراك العملية الطبيعية، ولوصفها ومعاينتها والحديث عنها. والطرماح ـ ولعل الراجز مثله ـ لم يشاهد البراكين ثائرة، كجيله كله، ولكنه ليس غريبا أن تتحدث الناس آنئذ عن الصهير والحجارة الرطبة، وتنسبها إلى قدم العهد.

            ومن الألفاظ التي تستخدمها العرب في معنى الحرة لدلالتها على الأرض المغطاة بالحجارة السوداء \"اللابة\"، وهي من الأصل اللغوي (ل و ب ) وهو فيما نرى وكما سنوضح ـ ينصرف لدلالة أصلية على معنى يؤكد ما كان يشاهده بعض العرب من صهير البراكين قبل أن يستحيل صخورا وحجارة صلبة، أي وهو بعد كطين الوحل، ورطب لين.

            ونجد في شواهد العربية ذكرا وفيرا لعدد من اللابات كلابة (أو لاب) ليلى، ولابتي المدينة المنورة وقد حرم الله ما بينهما (20)، ومن أشعارهم في استخدام للابة بمعنى الحرة والبركان الثائر قول قيس بن الخطيم:                                                                            طويل

    ترى اللابة السوداء يحمر لونها                         ويسهل منها كل ريع وفدفد (21)

    فهي إذا متقدة مضطرمة بركانها الثائر، ومما يؤكد ترادف اللابة والحرة أن المكان الواحد جاء في أشعارهم مسمى بهذين اللفظين مضافين إلى الاسم، فحرة ليلى في شعر القتّال الكلابي (22) هي لا ب ليلى عن الطرماح (23)، وحرّة ضرغد في شعر عبيد بن الأبرص (24) هي لابة ضرغد في شعر عامر بن الطفيل (25).

            ونجد في كتب علوم الأرض كلمة( لافا Lava) وهي ـ فيما يقال ـ يونانية ـ دخلت العربية، وهي بمعنى الصهير الذي تقذف به البراكين عاليا ثم يسيل على جوانب فوهاتها، وينساب ببطء مسافات قد تطول، فيبرد على نحو تدريجي. فأي الكلمتين هي الأصل، العربية أم اليونانية، وهل لنا بوسيلة للاستدلال غير الوسائل المعروفة من نظائر سامية ومبان أو ألفاظ مصاقبة؟ أجل، إن في استقراء اللغة وخبايا التراث ما يسعفنا إذا اشتدت بنا الفاقة.

            ولتوضيح ذلك نقول: إن اللابة هي الحرة، أي الغطاء الحجري الأسود ذو النخاريب الذي يغطي بعض البقاع، الذي كان من قبل مائعا سال على حافات فوهة بركان ما، فبرد واستحال حجارة كالحجارة الموصوفة، أي الفرق بين اللابة و Lava هو زمني وحسب، وهما في حقيقة الأمر شيء واحد تقريبا، إنهما كالرجل وهو شاب، ثم أصبح كهلا قد يبس عوده، أو كالماء برد فأصبح ثلجا قد تصلب، أما من حيث اللفظ فالكلمتان سواء، حيث تناظر الباء صوت (v) المستخدم في بعض اللغات.

            وننظر الآن في الأصل اللغوب (ل و ب ) الذي اشتق من اللفظ (اللابة) لنرى أنه ينصرف لدلالة تقع على معنى اللين والتلوي في اتصال، وهذه صفات الصهير (اللافا) قبل تصلبها واستحالتها حجارة سوداء، ومن هذا الأصل الملاب، وهو طيب وخلوق من مساحيق الأعشاب العطرية والدهون، وكثيرا ما يشبه به سلح الناقة على ألياطها، ومنه اللواب، لمرض يغشى البطن والأمعاء ( يتلوى المريض به من شدة الألم). وبمعنى اللعاب، ولا يكون إلا كثيفا لزجا نسبيا. واللولب، وهو مما ضعفت فيه الفاء (وهي اللام) وهو إلى لين واتصال والتواء.

            وقريب من هذا الأصل في لفظه ودلالة الأصل ( ر و ب ) ومنه روبة اللبن، واللبن الرائب، ولا يكون إلا كثيفا غليظا كاللافا، وقوم روبى إذا كانوا في سبات عميق، كأنما رابوا.

            وننظر في المعاجم الاشتقاقية اليونانية فنجد أن الأصل Lava (26) ينصرف لدلالة تقع بعيدا عن مدلول اللابة وLava التي تنصرف لمعنى الصهير، حيث تشير مشتقاته إلى ما له الغسل وأدواته فقط، الأمر الذي يؤكد، إلى جانب ما سبق من تصرف الأصل اللغوي (ل و ب ) في العربية لدلالته، أصالة كلمة لابة في العربية، وأنها دخيلة في اليونانية واللاتينية وفروعها من العربية.

            ويضاف إلى ما تقدم أن كلمة لابة قد وردت كثيرا في المصادر الأدبية قبل الإسلام وبعده، بينما تأخر استخدام كلمة من جنسها معربة إلى القرن الهجري الثالث، وأعني بذلك كلمة بركان المعربة من اللاتينية، وهي محرفة من Volcanas وتعني إله النار (27)، وبهذا يكون مسوغ تعريب الكلمة اتصال العرب بالأوروبيين عقب الفتح الإسلامي، حيث أضافوها (كلمة بركان) إلى النار والحرة واللابة.

            ونود أن نؤكد في ختام هذا البحث أن اللسان العربي بمفهومه الواسع، يمكّن الدارس في تراث العربية من الوقوف على كثير من حقائق الماضي، بربط ذلك التراث بوقائع الحاضر وما تعيه سجلاته من أحداث الزمان، فهو بهذا كشّاف أمين، يمكن المتبصر من استقراء الحقائق وإن تغطّت بالرمال والحجارة، تماما كما هي الحال في كثير من معالم السطح، حيث تشكل أدلة واضحة على ما كان من اضطرابات في القشرة الأرضية، تمخضت عن التضاريس الحالية لهذا العالم.

            ونستخلص من كل ما سلف أن اللغة خير قاموس يحيط بالأحداث ما كان طبيعيا منها أو حضاريا، ذلك أن حدثا ما لا يمكن أن يمر دون أن يترك أثرا على لسان، ولا سيما إذا كان ذلك الحدث من الأمور العظام.

            ولقد حفظت اللغة كل ذلك، وخلدته بألفاظ وعبارات قد تمر بأسماعنا فلا نعي ما وراءها، لأن ذلك كثيرا ما يحدث بطريقة آلية، ألا، فمزيدا من التبصر في أسرار اللغة وما يستكين وراءها.

     

    المراجع والهوامش:

    1.  الكتاب الأول هو أطروحة الباحث للدكتوراه سنة 1977 لم ينشرها بعد، أما الكتاب الثاني فهو مطبوع بعمان ـ بالتعاون بين دار عمار ودار الفيحاء سنة 1988م.

    2.    الحموي ـ ياقوت ـ معجم البلدان بعناية وستنفلد، ط لايبزج سنة 1867، 3/358 وما بعدها.

    3.    الجاسر ـ حمد، المعجم الجغرافي، منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر ط1 الرياض 1977م.

    4.    انظر لسان العرب وتاج العروس مادة (حرر).

    5.    الحموي 3/259.

    6.    المرجع نفسه 3/260.

    7.    النابغة الذبياني ـ ديوانه ص 83 وانظر اللابة في ما يلي:

    8.    تعادل نحوا من 18 ميلا.

    9.    الدينوري ـ أبو حنيفة، الأخبار الطوال. سلسلة تراثنا، ط القاهرة ص 61.

    الهمداني الحسن بن أحمد ـ الإكليلي ـ تحقيق محمد الأكوع، بغداد سنة 1977. 1/33.

    10.                       المسعودي ـ التنبيه والإشراف ص 202.

    11.                       ـ الحموي ـ 6/261. Moritz S.P13

    12.                       الطبري ـ تاريخه (ط أوروبة) 1/298.

    13.                       ـ عامي 1388، 1389هـ، وكانت تتبع تعليميا إدارة بيشة.

    14.                       سورة البروج ـ الآية 10.

    15.                       ديوانه 2/120.

    16.                       بروكلمان ـ تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة منير البعلبكي، بيروت 1/10.

    17.        خمد البركان إذا توقفت ثورته لتعود بعد حين، وهمد إذا توقفت ثورته إلى الأبد، أو على الأقل إلى أمد بعيد.

    18.                       القالي ـ أبو علي، الأمالي 1/231، 238.

    19.                       الطرماح بن حكيم ـ ديوانه ص190.

    20.                       انظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف 1/625.

    21.                       ابن الخطيم ص 21.

    22.                       القتال ص 33.

    23.                       الطرماح ص 37.

    24.                       عبيد بن الأبرص ص 29.

    25.                       ابن الأنباري ـ شرح المفضليات ص 363.

    26.                       Liddell and Scott. Intermediate Greek J English Lexicon, Oxford 1968 Page 898.

    27.                       Lewis and Dhorot, Latin J English dictionary, Oxford. 1951, Page 2004.

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me