An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Wednesday, January 12, 2011
  • التخصص أصل في المشكلة
  • Published at:الشعب الأردنية 9/شباط/1985 بتصرف
  •      بداية نستفتح بعبارة لواحد من عمال الكوفة في العصر العباسي الأول، أوردها ابن الجوزي في كتابه عن الأذكياء ضمن نص طويل. توضح موقف السلف الصالح من التخصص. قال يخاطب عددا من العلماء: \"ما أقبح بالرجل يتعاطى بالعلم خمسين سنة لا يعرف إلا فنا واحدا، حتى إذا سئل من غيره لم يجل فيه، ولم يمر، لكن عالمنا بالكوفة الكسائي، لو سئل عن هذا كله لأجاب.\" (ص58).

            وقد كان سألهم عن أمر أراد أن يمتحنهم به، وهذا مما يصعب على المتخصص أحيانا، ذلك أن الإنسان وإن تخصص، فإنه لا يمكنه أن يلم بكل شاردة وواردة في موضوعه، فما بالك في المتأدبين الذين كانوا يأخذون من كل فن بطرف، وإن لم يرق ذلك عامل الكوفة، ولم يجد فيه ما يكفي .. فقط لأنهم عجزوا عن الإجابة عن سؤاله.

            وجدير بالذكر أن أجدادنا وإن اتسمت معارف أحدهم بالتخصص، فإنهم لم يكونوا يفهمون من ذلك ما نفهمه نحن اليوم، ويلاحظ القارئ في كتبهم أنها من التنوع وتعدد الموضوعات ما يجعلها موسوعية الطابع. ويكفي للتأكد من ذلك التعرف على مؤلفات رجلين ينتميان إلى عصرين بينهما حوالي سبعة قرون، وهما الجاحظ وجلال الدين السيوطي، اللذين تنوعت مؤلفاتهما، وتعددت موضوعاتها على نحو لا نكاد نظفر به إلا عند العقاد من الكتاب المحدثين.

            ومن أمثلة ذلك عمر الخيام الرياضي الكيميائي، الذي خلد شعره ذكره، ذلك الشعر الذي كان يقرضه في فترات راحته دون أن يلقي له بالا، وغيرهم كثير. إذا فإن أسلافنا كانوا يميلون في معارفهم ومؤلفاتهم إلى النزعة الموسوعية، والإلمام بقدر كاف من العلوم المختلفة، كيف لا وهم دائمو النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيهما من المعارف ما اختلفت ألوانه وتعددت أنواعه؟

            أجل، هكذا كانوا، لكن كيف أصبحت الأمور من بعد؟ مسألة لا تخفى على أحد، حتى ذلك الرجل الأمي يريد لابنه هذا أن يصبح طبيبا، ولابنه الآخر أن يصبح مهندسا، وللثالث أن يصبح محاسبا، وللرابع أن يصبح مترجما يتقن إحدى اللغات الحية المستخدمة في هذا البلد العربي أو ذاك، فهو، لذلك، يشدد النكير عليهم في الصف الثانوي الأول ليلتحقوا \"بالفرع العلمي\" الذي يبيح لطلابه حق دراسة ما يشاؤون من العلوم والآداب على حد سواء؛ إلى درجة أن الفرع الأدبي كان ـ وما يزال ـ دليلا على قصور الطلاب الدارسين فيه، وهذا، وأيم الله، أبرز أعراض مرض \"التخصص\" بمفهومه الشائع اليوم.

            قد لا يكون عجيبا والحال هذه أن ترد مقالة على كاتبها بحجة أنها تبحث في الطب وتاريخه، لأن كاتبها غير متخصص لا في الطب ولا في الصيدلة، وأن ترد أخرى تبحث في الأحجار الكريمة وطرق اختيار معدن الماس لأن الكاتب ليس جيولوجيا ولا فيزيائيا. ومن المناسب هنا أن اذكر أنني زرت الطبيب في بيروت عام 1969 طلبا للعلاج من حمى الملاريا التي أصابتني اثناء عملي في خيبر عام 1967، ما زلت اذكر اسمه (محمد عطوي) وفوجئت بما وجدته في الخزانة التي كانت وراء مكتبه من معاجم ودواوين، وبادرت إلى التصريح باندهاشي، ولكنه أسرع إلى القول: أنا شاعر، وأهتم باللغة والأدب. قلت: حبا وكرامة.

            وقد يهون ذلك وما يشبهه، ولكن العسير المؤلم أن يستغرب الرد من طبيب على سؤال في العقيدة أو اللغة وآدابها... عجيب أمر ذلك الطبيب، كيف عرف الجواب وهو متخصص في جراحة الدماغ؟! ولكن الصحيح  أن العجيب هو المتعجب من ذلك.. فذلك هو الأصل.. أما ما شاع وأصبح مرضا، وهو أن المتخصص يكفيه علمه بمجال تخصصه الذي قد يكون في علوم أو موضوعات لا علاقة لها بمجتمعاتنا، فإن ذلك هو المعول الأكثر هدما لما يمكن أن ينجزه المجتمع، وإنه، وإن أسهم في رقي جانب من الجوانب الحضارية للمجتمع، يكون قد أسهم إلى جانب ذلك في هدم جوانب أخرى... ليس شرطا أن يكون هدما حقيقيا، ولكن يكفي ألا يبنيها.. لا هو ولا غيره، لأنها تتعلق به شخصيا بالدرجة الأولى، وبأسرته بالدرجة الثانية.. ومن ثم بالمجتمع بأسره.

            نطالع في بعض الصحف والمجلات مقالات وأشعارا وقصصا لأطباء وصيادلة وعلماء في الطبيعة والكيمياء، نشعر إزاءها بالراحة والطمأنينة، ونجد لبعضهم دراسات في علوم الدين والتاريخ والأدب، فيثبتون بذلك أنهم ما يزالون على عهد مع أمتهم ودينهم ولغتهم وتراثهم، وأنهم بتخصصهم لم ينسوا حفظ ما يحفظ انتماءهم، ويحفظ لهم لونهم ورائحتهم، بل إن حفظ ذلك لا يجب أن يترك لمزاج الأفراد، فما أن يتوجه أحدهم للفرع العلمي حتى يلقي جانبا تاريخ أمته، وجغرافية وطنه، وفقه دينه، ولغته قبل أن يعلم أن من ترك حكما من أحكام الدين أحوجه الله إليه، بل إن ذلك كله ليتم قبل أن يشتد عوده الثقافي، وقبل أن تتبلور شخصيته الحضارية المتميزة. فما أن يتخرج حتى يصطدم بمتطلبات الحياة، فيشتغل بها ويظل هكذا دون أن تتبلور شخصيته الحضارية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، المحاطة بموروث ضخم من العلوم والآداب الأصيلة.. ويولد له؛ فلا يستطيع أن يقدم لولده شيئا من ذلك القبيل، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وإن الخطورة لتكون أكبر إذا ما توجه للدراسة في الخارج في أوروبا أو في روسيا أو في أمريكا، حيث سرعان ما يملأ فراغه بالشارد والوارد من الأفكار والسلوكيات، فيعود وقد هُجِّن فكره ـ وأنا هنا لا أعمم ـ ولكني أشير إلى ظاهرة تسترعي الانتباه، وهي تلمس في كل بلدان العالم الذي يجعلونه ثالثا، وهو في الحقيقة العالم الإسلامي، وبعض الدول الأخرى.

            إذا؛ فالتخصص سلاح ذو حدين، التخصص مفيد، ولكن بعد أن تتبلور الشخصية الحضارية للفرد، وبعد أن يشتد عوده الثقافي؛ فلا يكون عرضة للتأثر بما يعترضه من الأفكار والسلوكيات المغرية، وبعد أن نكون قد أمنا على التجانس الكافي بين جميع الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع، ذلك أن أبرز صفات المجتمع هي أن يكون هناك حد أدنى من التجانس بين أفراده.. ليس في اللسان ولا في الملبس، ولكن في نهج الحياة وطريقة التفكير. وهنا أذكّر بما قاله كرومر (المندوب البريطاني لدى مصر في عشرينات القرن الماضي) : إن بريطانيا سترحل عن مستعمراتها، ولكن عليها قبل الرحيل أن تخلق في مستعمراتها جيلا ينتمي لبلاده باسمه ولسانه، ولكنه ينتمي إلى أوروبا بمناهج تفكيره. قال ذلك في حفل افتتاح كلية الملكة فكتوريا بالإسكندرية حوالي 1926م. وهل فعلت بريطانيا غير ذلك؟

            والتخصص ضارّ إذا كان التوجه إليه قبل تحقيق ما تقدم، لأنه قد يحقق مكاسب فردية على حساب عام، نعم يستفيد المتخصص ولكن المجتمع يتضرر... وقد يقال: لكنه يخدم المجتمع في مجال تخصصه. فنقول إن العلاقة بين الفرد ومجتمعه ينبغي ألا تكون مادية وهو غير متجانس  مع المجتمع أصلا. ولئن خدم المجتمع في ناحية، فإن المجتمع ملزم بخدمته في نواح كثيرة ليحفظ لأبنائه بما يرابط بينهم ويجانسهم.

            إن ربط العلم، تعليما وتعلما، بالمنفعة المادية للفرد ينبغي أن يكون ثانيا، وليس أولا كما هي الحال عليه الآن، وقد أدى ذلك إلى القعود بالمجتمع عن التقدم الحقيقي، ذلك أن العطاء مقترن بالمردود المادي، ولما كان هذا المردود قليلا نسبيا، فإن العطاء سيكون قليلا أيضا، وهذا ما يفسر الهجرة العقلية إلى حيث يكثر المال.( راجع مقالتنا في يمجلة الأمة القطرية: هجرة الأدمغة العربية) نعم؛ قد تبرر الهجرة بالعسف والطغيان الذي تمارسه الأنظمة العربي على شعوبها، نعم، ولكن...

            إن التخصص يكون في فرع.. والشجرة لا ترسل الفروع إلا بعد أن تكون لها جذور، ومن فوق الجذور جذع.. ثم تأتي الفروع. فهل نعيد النظر في مرحلة التخصص.. وهل نركز، حتى في الدراسات الجامعية على المواد التي توثق ارتباط الفرد بذاته الحضارية، فنأمن على مجتمعنا من الذوبان، ولا نعود نجد من يكره لغته أو يستخف بتراثها.. بحجة أنه مصاب بمرض التخصص؟!

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me