An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Wednesday, February 4, 2009
  • عندما يتزلزل الزمن
  • Published at:Not Found
  • عندما يتزلزل الزمن

     

                                                            أ.د. يحيى جبر

    رئيس قسم اللغة العربية بجامعة النجاح الوطنية

           

            الزمان والمكان وجهان لعملة واحدة، لا وجود لأحدهما دون الآخر، ولا زمان إلا حيث كان مكان، ولا مكان إلا كان له زمان، ومن هنا كان اختلاف الأزمنة باختلاف الأمكنة، والعكس، فسنة المريخ غير سنة الأرض، وسنة عطارد وغيره كذلك.

            واشتقاق المكان من \" ك.و.ن\" (كان) بمعنى حدث، ولعل كثيرا ممن يستخدمون اللفظين\" كان، ومكان \" لا يعرفون أن هذا من ذاك، واشتقاق الزمن من \" ز. م. ن\" الذي اشتقت منه الزمانة، وهي المرض المزمن، لمراوحته في موضعه من المريض.

     وقد أصاب العرب عندما أسمَوا \" الزمان والمكان\" في باب اللغة والأفعال باسم الظرف أو المفعول فيه، فهما ظَرف من الظَرف بمعنى القربة يوضع فيها السمن، ومنها ظَرفك الذي تضع فيه الرسالة ترسلها بالبريد ونحوه، والثاني لما يُفعل الفعل في حيّزه، فهو كالوعاء يستوعب الحدث الذي هو الفعل. فقولنا: جلست تحت الشجرة عصرا؛ يفيد أن كنف الشجرة كان هو المكان الذي فُعل فيه الجلوس، أو الظرف الذي وُضع فيه، ووقت العصر هو الوعاء الزمني الذي استوعب الفعل وحدث فيه.

    وإذا كان لنا أن نشبّه الزمان والمكان لقرّبناهما من الأذهان بالروح والبدن الذي هو مكانها، ونذهب إلى أبعد من ذلك لنقول: بل إنهما ليتجسدان في الإنسان من طريق آخر، فهو ثابت في شخصه متغير في أحواله تبعا لما يتعاقب عليه من زمن. ولو نظر كل منا في صورة له قديمة، ونظر في المرآة لتبيّن له ما نريد من تشبيه، إذ تنعكس آثار الزمن على ملامح البدن الثابت فيتغضّن وتحتله التجاعيد.

     ومن ذلك بشكل أعمق وأدق؛ ما قد يقترفه الإنسان في ساعة غضب من ثورة تفضي إلى الهلكة، ذلك لما تراكم عليه من ضغوط كدّرت زمنه النفسي؛ فانفجر بركانا، وزلزل المحيط من حوله، فبدلا من أن يُخرج مكنونه بالتدريج على مهل،؛ إذا به يقذفه دفعة واحدة، إنه زلزال من نوع آخر.

     

            قال تعالى \" إذا زُلزِلت الأرضُ زَِلزالها* وأخرجت الأرض أثقالها* وقال الإنسان مالها* يومئذ تحدث أخبارها* بأن ربك أوحى لها* يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليُرَوا أعمالهم* فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره\" صدق الله العلي العظيم.

     

    ذلك شأن الأرض عندما يحين حينها، هكذا برمجها الله عز وجل ساعة خلقها، لها ظاهر تدرج الخلائق فوقه، وباطن يخفي بداخله من الأسرار ما يخفي، ومن الكنوز والحقائق ما لا سبيل إلى حصره، لكنها، في لحظة واحدة ، تبوح بكثير من تلك الأسرار، وتخرج كثيرا من تلك الأثقال، نفطا يتحلّب على سطح الأرض دون حفارات أمريكا وأوروبة، على نحو ما كان يحدث قديما فوق مياه الخليج، أو ذهبا يتلألأ على وجه الأرض( جِنِي) كما هي الحال في غانة وغرب افريقية( ومن هذه الكلمة التي تعني بالغانية شذرة الذهب جاءت كلمة جنيه التي تقابل الدينار) إذ يجدون قطعه الصغار في ظاهر التربة، أو سمكا على شواطئ البحار غداة الجزر، أو غير ذلك مما تخرجه الأرض أو يخرجه الإنسان بفضل ما آتاه الله من العلوم والمعارف.

     

            وهذه المخرجات كانت مستودعة في باطن الأرض من يوم تأرّضت الأرض، أو تخلّقت على مر الأحقاب بقوة فاعلة أودعها الله فيها. يتعرّض باطن الأرض لحركة ما فينجم عنها صعود وهبوط يؤديان إلى ظهور بعض خبايا الأرض، أو أن الإنسان يحفر في باطنها فيتوصل إلى بعض مكنوناتها مما استُودع فيها من قبل على حالته الأولى، أو مما نتج عن بعض التفاعلات المتلاحقة على نحو ما يقال في النفط؛ ومن يدري فقد يكتشف الناس بعد أحقاب من الزمن عناصر ومواد تتخلق الآن،  ولم تعرف من قبل. تماما كالنجوم البعيدة التي يقال في بعضها إن نورها لم يصل بعد إلى الأرض، مما يعني أنها منذ خلقت، من بداية الخلق، أو تخلّقت من بعد، ظل نورها يسير في اتجاه الأرض ولم يصل إليها إلى اليوم، أو أنه وصل حديثا.

     

            أما الزمن؛ الحد الثاني للكينونة، فإنه منذ كان، يمثل وعاء ينتهي إليه كل ما تشهده الأرض ومحيطها من تطورات، سواء في ذلك ما كان منها بين الجمادات وما كان بين الأحياء على اختلاف درجاتها مما يمتد بين أدنى الحشرات من البعوضة فما فوقها إلى الإنسان.

     

    هل يتزلزل الزمن؟

            اعتاد الناس أن يفهموا من كلمة زلزال تغيرّ ملامح القشرة الأرضية جراء تحركات معينة في باطن الأرض، أي اقتران الزلزلة بالمكان وحسب، وهم بذلك يستطيعون أن يشكلوا تصورا ما عن ما يصاحب ذلك من ظهور أشياء واختفاء أخرى، ولكن كيف يمكن أن نقرّب للناس زلزلة الزمن؟.

            ذهب الماركسيون إلى أن طبائع الأشياء وأنواعها يمكن أن تتغير جراء بعض العوامل العميقة الثر، على نحو ما توحي به نظرية البدائل المتكاملة، ومقولتهم المشهورة\" التغيرات الكمية تؤدي إلى تغيرات نوعية\" ومن هذا ما يجسده اليورانيوم في عالم المادة عندما يتحول إلى رصاص جراء تواتر إشعاعاته، ويأتي هذا خلافا لما ألفناه في تراثنا من قولهم \" الحمار حمار ولو بين الخيول ربا\" مما يعني استقرار الكائنات على ما أودع فيها من طبائع، وما جبلت عليه من سلوك. غير أننا نلاحظ، وبالدليل الملموس أن\" تم\" و \"جيري \" يتصافحان ويتآمران معا خلافا لما ثبت في عرف الإنسان عنهما عبر القرون، نعم ربما قيل: إن هذا حاصل في عقول من ألف تلك المشاهد وصورها، ولكنني أؤكد أن ذلك ممكن وحاصل بالمشاهدة، فلم تعد القطط تعادي الفئران، ولا الكلاب القطط إلا نادرا، وتبعا لاختلاف البيئات.

            ويخلف القوم البائدون أثرا على وجه الأرض، ولكنه مع تراخي الزمن، يصبح عرضة لعواديه، تتراكم عليه التربة، ويندثر حتى تذهب به الأيام في باطن الأرض؛ ليجيء المنقبون عن الآثار يزيلون عنه الأنقاض،  ويمسحون عنه التراب، ويرممونه، ويكتشفون مما يحمله من دلالات، تاريخ القوم الذين تركوه وذهبوا.... أجل، هكذا يكون البحث في طبقات المكان، فكيف يكون ذلك في طبقات الزمن؟.

            يذهب أهل اللغة إلى أن اللفظ يكتسب دلالته على نحو مطرد متجدد، ويخضع في ذلك كله لعوامل كثيرة تتحكم في التغيرات التي تطرأ عليه، أو قل التطورات، وإن البحث في هذا الموضوع يعد، بالتوازي، بحثا في كتاب الزمن، وطبقاته، تماما مثل حركة التاريخ في تعاقبها والعوامل الفاعلة فيها، وكالأحداث التي تندثر لتستقر آثارها في النفوس، أو في ذاكرة الزمن أحقادا ومواقف سلبية أو إيجابية.

            وكما أن هناك نبشا للقبور، وتنقيبا عما في باطن الأرض من ركاز وكنوز، فإن هناك نبشا للزمن، وبحثا في أغواره، إذ قد نخرج بما نحب من الحقائق، أو بما يسوءنا وينوءنا، وللتنقيب في الأرض أدواته، وكذلك هناك في طبقات الزمن، إذ أن لكل عملية أدواتها، ومناهجها.

            وإذا كانت الزلازل كفيلة بأن تخرج الأرض بعض أثقالها، فإن زلزال الزمن كفيل بإخراج بعض الحقائق مما كان خافيا على الناس مع أنه ربما كان أقرب إليهم من حبل الوتين، ؛ فكلنا سمع بذلك الشاعر الإنجليزي الذي عبر عن هذا المعنى وهو يبحث عن نظارته ليجدها آخر الأمر على منخاره؛ أو تلك العجوز التي همّت بفرم الملوخية وراحت تسأل بناتها عن السكين وهي في يدها، مصداقا للمقولة المشهورة \" شدة القرب حجاب\". فما أكثر الحقائق القريبة منا التي لا نراها إلا عندما يتزلزل الزمان من حولنا، لينكشف عنا الغطاء، ويصبح حديدا.

    وقد يغشى العقول من صدأ القرون شيء يتفاوت في حجمه وكمّه، فتخبو طاقتها، ويصيبها شيء من التحجر، وتفقد مقدرتها على التوصيل، مما قد يصيب الأفراد والجماعات على حد سواء، ولعل أمتنا اليوم مصابة بهذه العاهة فأدمنتها حتى غدت مشلولة أو تكاد.

    وإذا كانت المتحركات لا تبدأ حركتها بسرعة ثابتة، بل تتدرج في ذلك ما لم يعترضها عارض، فنهر النيل يبدأ نُهيرا، ثم يتعاظم، والنهار يبدأ نُهيرا من ضياء عمود الفجر؛ فلا يزال يتعاظم حتى يصبح نهارا يملأ الفضاء. والشجرة والإنسان وكل ما كان من ذلك ونحوه؛ فهو يبدأ صغيرا ثم يأخذ في النمو. وهذا كله في المكان حتى لو كان جسم آدمي، فماذا عما ينمو في الزمن؛ الأفكار، الأحقاد، المواقف؟ وغيرها من المعاني والقيم والمشاعر كثير جدا.

    فالدولة لا تدول إلا بعد تمهيد يفضي إلى زوال ما قبلها، ويرسي قواعدها وأساساتها، ومن هنا كانت كلمة\" دولة\" من الأضداد، إذ تنصرف لمعنى القائمة والساقطة على حد سواء، والحزب يتشكل يكون، ابتداء، فكرة في دماغ مؤسسه، والسيارة كذلك، حتى يبدأ صاحبها في تطبيقها، والتيار الفكري من التيارات، بغضّ النظر عن طبيعته، يتولد عبر الزمن جراء تراكمات معينة تؤدي إليه، حتى إذا قام قائمة استثار وجوده كل العلاقات التي صاحبت نشأته عبر الزمن، وحرّكتها في اتجاه معاكس، مما يؤدي في الأعم الأغلب إلى نشوب الصراعات، على نحو ما نشهده في بعض أنحاء العالم الإسلامي من صراعات مذهبية؛ عرف أعداء الأمة كيف يبعثونها؛ مستعينين بالمغفلين من أبنائها. وفي أوروبة على نحو ما كان في الحربين العالميتين، وما جرى في البوسنة والهرسك وقوصوة مؤخرا، حين ثارت الأحقاد الدفينة مرة واحدة، فدمرت ما دمرت، وأعادت تشكيل الكيانات على أسس مختلفة، فكأن العملية هدم وإعادة بناء من جديد. وهذا، لعمري، شكل من أشكال زلزلة الزمن؛ لأنه يصيب، أكثر ما يصيب، الكيانات الاجتماعية.

    وكما يطرأ على الأشياء الأرضية عوارض تحد من حركتها، أو تعجل بها، فإن الأحداث التي تسير في قنوات الزمن تتعرض بدورها إلى ما قد يعجل دورتها ويسارع في تعاظمها، أو على العكس من ذلك، يؤدي إلى تراجعها، وانخفاض وتيرتها حتى تتوقف أو تكاد، تماما، كدورة العلاج، قد يؤتي ثماره على عجل، نتيجة لعوامل بعينها، أو يفقد مفعوله فكأنه لم يكن.

    فالصراع بين قبيلين لا يبدأ من فوره، وإنما يأتي نتيجة لتفاعلات سابقة، تتضافر جميعا في توجيهه وتحديد سرعته،  تماما مثلما قال أحد المفكرين المحدَثين: إن الحروب تبدأ في العقول قبل أن تبدأ على الأرض، وتماما كالظاهرة الجيولوجية أو التضاريسية، إذ لا تتشكل، بحسب نواميس الكون، إلا عبر مدة من الزمن، وما سوى ذلك فهو من شأن الزلازل. وما أكثر ما فوجئ الناس بصراع بين شخصين أو قبيلين ينشب فجأة، وبشكل مدمر، فيستغرب الناس آمره؛ لأنهم يجهلون الحقائق الكامنة من ورائه، تلك الحقائق التي حبلت به حتى أنتجته على هذه الشاكلة.

    باختصار:

            فإن الأمة والعالم يعيشون ظروفا تشبه، أكثر ما تشبه، الظروف التي تسبق الزلزال، فها قد أوشكت الأرض تقذف حممها، وبدأت الفتن تطل برأسها على أبشع ما تكون من منظر، وها هي محكمة التاريخ تستعد لجلستها الأولى، لتتزلزل الأرض، والزمان؛ فيخرج أثقاله، بعد أن يوضع الحد الفاصل بين الحق والباطل، وينتهي زمن الألوان الرمادية، وينقطع دابر الشر ودابر من كان في نفسه مثقال ذرة منه أو من كبر.

            أما الزلزلة التي تصيب الأرض والزمان معا فتلك يوم القيامة، حين تُخرج الأرض ما فيها وتتخلى عنه، وتُفتح الدفاتر من أولها الذي خط فيه آدم. سيخرج قابيل يحمل بين يديه ما ارتكب من الإثم بقتله هابيل، سيخرج أحمر عاد، وقوم لوط، وفرعون، سيخرج المنافقون الذين آذوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تناسخوا منهم عبر الأجيال إلى يومنا هذا، فراحوا يكيدون للأمة، ويوقدون نار الفتن. سيخرج كل من حكم الأمة باسم من الأسماء فلم ينهض بحقها منه،  سيخرج كل عاد وباغ، وستعرض عليهم أفعالهم، وستنجلي الحقائق على أنصع ما تكون. فانظروا إلى صفحة الزمن ها قد بدأت تموج تمهيدا لساعة الزلزلة، وإذا كانت الأرض تطوى على رأي توبة بن الحُمَيِّر، فإن الزمان بدوره يطوى، على نحو ما ورد من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأوضاع في آخر الزمان: \"يتقارب الزمان\" ويا له من تقارب يشهده الزمان في هذه الحقبة، إنه ليتسارع حتى لا نكاد نشعر به، كأني قرأت أن العجلة إذا تجاوزت سرعة دورانها حدا معينا تحطمت... تزلزلت...

            عندما يتزلزل الزمن لا ينفع نفسَا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل.

     

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me