An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Wednesday, February 4, 2009
  • المعاني المتقابلة
  • Published at:Not Found
  • المعاني المتقابلة

     

                                                            أ.د. يحيى جبر

    رئيس قسم اللغة العربية

    جامعة النجاح الوطنية

     

    المعاني كائنات تتفاوت في طبائعها ودلالاتها، ولكنها تكون دائما على حال واحدة من الامتداد والاستدارة حتى يكون لها أول وآخر، كالساعة، وآخرها هو أولها، تماما كرقم 12 من الساعة، وكأي نقطة على محيط الدائرة، أو الكرة (وهي عدد غير محدود من الدوائر) تصلح لأن تكون بداية ونهاية في الوقت الواحد، وكذلك المعاني المتقابلة، تمام أحدهما لا يتحقق إلا بتمام الآخر، على نحو ما يتجلى في قول دوقلة المنبجي قديما:

    والضدُّ يُظهٍِرُ حُسنَه الضدُّ

    وقول الفلاسفة شعرا:

           وبضدها تتميز الأشياء

    أي أن الشيء يتميز عن غيره بمواصفات معينة، غير أنه يكون أبلغ ما يكون في امتيازه وتفرّده بمواصفاته عندما يوضع قُبالة ما يناقضه ويضادّه، بمعنى انك إذا أردت أن تبين طول طويل، فاجعله إزاء قصير، وإذا أردت أن تبين بياض أبيض فاجعله إزاء أسود، غير ما بين الأبيض والأسود ألوان كثيرة، وما بين الطويل والقصير أطوال كثيرة جدا تتراوح بينهما، مما قد تختلف النظرة إليه باختلاف الظروف أو المعطيات، وهذا كله خاضع للنسبية؛ فما هو طويل في نظرك قد يكون قصيرا في نظر غيرك وهكذا، زمن هنا تتولد الغرائب، إذ ربما اعتاد قوم على معرفة الناس بأطوال متقاربة، حتى إذا رأوا أقواما آخرين، طوال جدا قياسا بمألوفهم، استغربوا وعدوا ذلك من العجائب.

    وليل ونهار، يتداخلان صباحا ومساء، ثم يستقل هذا بالظلام طوال الليل ما لم يبدد القمر في أطواره بعضا منها، ويستقل ذلك بالضياء طوال النهار؛ ما لم يحل الغيم دون الشمس؛ فيغشى الأرض ظل يتفاوت بين الماصح والكثيف، ولعل في كلمة السُّدفة ما يجمع بين الحالين المتوسطتين: الظلمة المشوبة بنور القمر ليلا، والضياء المحجوبة بالغيوم نهارا، وفي وقتي المساء لدى الغروب، والصبح لدى الشروق ما يمثّل حالا وسطا بين الليل والنهار؛ ولذلك يوردها اللغويون في باب الأضداد، أنها تأتي بمعنى الضوء وبمعنى العتمة.

    لكن؛ أهناك انقطاع لليل والنهار عن الأرض، أم أنهما موجودان دائما؟ هذه هي الحقيقة، وقبل المضي قدما نتساءل عن حقيقة الليل، أليس هو ظل الأرض؟ هذا الظل الذي يتبأّر كلما ارتفع إلى أعلى مشكّلا مخروطا قاعدته نصف الكرة الأرضية الذي لا يكون قبالة الشمس، حتى يتلاشى في الفضاء عند رأس المخروط؟ بدليل أن ما يقع خارجه يكون ضاحيا مشرقا، وخير دليل على ذلك القمر الذي يثرى ليلا مستمدا نره من أشعة الشمس الساقطة عليه.

    وبهذا فإن الليل والنهار موجودان على الأرض ما دامت الشمس، أي دائما. وهما في حركة دائمة؛ ينتقلان من هذا الأفق لما يليه، في رحلة تستغرق سحابة نصف اليوم، بمعدل يتراوح بين 9 و 15 ساعة، بحسب موقع الأرض من الشمس في الفصول المختلفة. وما كان ذلك ليكون لولا استدارة الأرض، إذ لو كانت الحركة على سطح مستقيم لما كان ليل ولا نهار.

    وفي القرآن الكريم إشارة إلى تكوير الليل والنهار، والتكوير إلى استدارة، كما أشار إلى الإيلاج وهو الدخول على نحو متدرج، والتدرج إلى استدارة، وأشار على الاختلاف، بمعنى التناوب في الذهاب والمجيء، وهذا إلى استدارة أيضا، لأنه لا يكون مفاجئا، بل يتدرج في حركته مقبلا ومدبرا، وكذلك الإغشاء من قوله تعالى" يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا" في إشارة إلى تداخلهما صباحا ومساء، وذلك إلى تدرج، وهو كما أسلفت إلى استدارة؛ يضاف إلى ذلك ما في قوله" يطلبه" بمعنى "يلحق به" من معنى التدرج؛ لأن اللحاق لا يكون دفعة واحدة، ولكن بالتدريج.

    ولو نظرنا في حالي الليل والنهار، العتمة والظلام من ناحية، والنهار والضياء من ناحية أخرى لوجدنا أنهما لا يكونان على حال واحدة، فهما يتدرجان في نسبتهما وكثافتهما وشدتهما، فهناك ما هو الأحلك، وفي المقابل هناك ما هو الأضوأ، هذا في منتصف الليل وذلك في منتصف النهار، ولو وقّعنا المشهدين على خارطة اليوم لوجدناهما تحتلان موقعين متقابلين، تماما كما تتقابل حالاهما. وفي الوقت نفسه نجد بينهما ممتدا من الأحوال التي تتفاوت في طبيعتها بمقدار قربها أو بعدها من الموقعين المذكورين، مما يعني أن الليل والنهار يجسدان شيئا واحدا لكنه من شقين متناقضين، لا وجد لأحدهما دون الآخر.

    ولو أخذنا لفظين آخرين يتقابل معنياهما، كالأسود والأبيض؛ لوجدنا أنهما يجسدان دائرة تمتد بين حدي البياض والسواد، اللذين يتوسطهما مزيج منها يتراوح في انتسابه لأحدهما بمقدار ما يقترب منه، ويبتعد عن الآخر، مما يعني أن المعنيين يشكلان دائرة تنضوي على عدة معان، تترجم عدة ألوان، منها السكني أو الرمادي، الذي يقابل في موقعه من الأبيض والأسود موقع الصباح والغروب من الليل والنهار.

    والحلال والحرام يتقابلان، وهما متناقضان، غير أن بينهما" أمورا متشابهات"  كاللون الرمادي الذي يتدرج بنسب متفاوتة بين البيض والسود، ونُذكّر هنا باللم من الذنوب وما تدرج فوقها من الصغائر فما هو أكبر من ذلك وأعظم، من الفواحش والكبائر والموبقات.

      والحق والباطل، والخطأ والصواب، وما هو صحيح كله، أو خطأ كله، وما فيه دخن وشبهة باطل، أو حق. وما يحتمل وجهين ، وما هو راجح أو مرجوح، مما يذكرنا بقضايا علم المنطق ومربع أرسطو، فقضية صادقة وأخرى كاذبة، وثالثة كاذبة صادقة ورابعة صادقة كاذبة، مما يعبر عنه بالدخول تحت التضاد. ومن قبيل ذلك ما قسم إليه ابن جعفر الشعر فمن نوع حسن لفظه ومعناه، إلى آخر يناقضه ساء لفظه وساء معناه، وما يمتد بينهما مما ساء لفظه وحسن معناه، وما حسن لفظه وساء معناه.

     

    وليس غريبا ، والحال هذه، أن نجد من الشعوب من اعتنق ديانة تقوم على المتقابلات، كالفرس قديما في اتباعهم الزرادشتية، التي تقوم على التثنية؛ ممثلة في وجود إلهين، إله الخير وإله الشر، وهما أهريمان وأهورا مزدا.

    وفي القرآن الكريم يكثر المتقابلات إلى حد بعيد، يُذكر المعنى ومقابل في الأعم الأغلب، حتى لو لم يُذكر فإن السياق يغني عن ذكره لتحقق العلم به ضمنا، ومن ذلك" الله ولي الذين آمنوا؛ يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات" " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" " أمات وأحيا" يحيي ويميت " وقل جاء الحق وزهق الباطل" الظاهر والباطن، المعز المذل، الأول والآخر، إلى غير ذلك مما هو كثير.

           ولعل في اسمي الله عز وجل" الأول والآخر"، والظاهر والباطن  وهو يُبدئ ويعيد، والمعز المذلّ،  ما يؤكد ما نحن بصدده، لأن دلالتهما واحدة، إذ يدلان على الله عز وجل، وهو واحد لا شريك له، لكن بين الأول والآخر من كل ما هو قابل للعد ما لا يحصى من المعدودات المتفاوتة المتدرجة في تباينها كالذي نجده بين الأبيض والأسود من درجات اللون، وكذلك الحال بين كل اسمين أو صفتين متقابلتين له عز وجل.

    ويبدو أن لدى العقل البشري قابلية لإدراك ما يقع بين الأول والآخر، والحد الأدنى والحد الأعلى من كل متقابلين، أما المطلق منهما فلا سبيل إلى إدراكه، بل كأن الإنسان لا يستطيع أن يتوصل إليه في معظم الأحوال  لانتفاء وجود تصور دقيق له في العقل.

    ويتراوح النشاط العقلي للإنسان بين حد أعلى من كل شيء، وحد أقصى منه، مما يتفاوت من إنسان لآخر، استنادا إلى مبلغه من العلم، فالألف عند فقير عدد ضخم جدا، بينما هو تافه عند مليونير. وللتحقق من ذلك يقينا فلننظر في تركيب الأشياء، إذ نظل نراكمها حتى تبلغ حدا لا سبيل إلى تصور ما هو فوقه، لأن العقل البشري لا يعود قادرا على التصور، تماما كما لو امتلأ وعاء، فهو لا يتسع لمزيد مطلقا، وكذلك عند تحليل الأشياء وتقسيمها إلى أجزاء، إذ نظل نجزّئ حتى نبلغ حدا لا نستطيع تجاوزه، بأن نصل إلى الذرّة وأجزائها وحينئذ يكل الدماغ عن تصور ماذا يمكن أن يكون بعد ذلك، وهذا يعني محدودية العقل البشري، ومراوحة نشاطاته بين حد أعلى لا يتجاوزه، وحد أدني لا يستطيع أن يتصور ما هو دونه، ولنا في مفهوم الذرة قديما وحديثا ما يوضح التطور الذي نجم جراء اتساع دائرة الأفق البشري، ( من النملة إلى ذات النواة والكتروناتها و..) مما يذكّرنا بما ضرب الله، عز وجل، من مثل بالبعوضة فما فوقها، أي ما هو دونها في الحجم. ما أشبه الأمر بما يعرف في عالم الكهرومغناطيسية بال (frequency range)، مما يفسر خطاب الله ، عز وجل، للإنسان: أين المفر؟ لا سلّم إلى ولا نفق في الأرض ينجيانك من طلب الله تبارك وتعالى.

    وتتفاوت المعاني بين المعنيين الرئيسيين المتقابلين، وتتدرج، بعضها يقترب من هذا ويبتعد عن المعنى الآخر، وفي العصر الحديث توصل الإنسان إلى تصورات دقيقة عن المتدرجات، معاني كانت أم مواد، وأظهر ما يكون ذلك في عالم الألوان، فبين الأبيض والأسود ما لا يحصى من الألوان مما ندرك درجته وما لا ندرك، ولذلك ، وهنا بيت القصيد، راحت الشركات التي تصنع الدهانات تميز بين الألوان المتقاربة بالأرقام، فاللون الناتج عن خلط ما نسبته 20% من البياض مع 80% من السواد، يقابل جزئيا ( دخول تحت التضاد) ما يتشكل من خلط 20% من السواد مع 80% من البياض، وشانهما قياسا  بعالم الكواكب والنجوم بالنجم البروج ورقيبه، كالثريا ورقيبها العيّوق، ما أن تغرب حتى يطل برأسه من وراء الأفق.

    وقد أحسن الجاحظ حين عبّر عن هذه الظاهرة بما أسماه بالمعاني المتدرّجة، وضرب لذلك مثلا بدرجات الجنون، وقد نمثّل لذلك بدرجات النعاس والنوم، أو بفيء شجرة؛ يبدأ من الصفر عند الاعتدال ظهرا، ويظل يتدرج حتى يتّحد آخر النهار مع ظل الأرض.

    وتتفاوت الناس في فهمها للمعاني، بقدر تحصيلها وما تتزوّد به من تجاربها التي تخلف اختلافا لا سبيل إلى حصره، ومن هنا يختلفون فيما بينهم، وهذا منشأ الخلاف وإن كانوا يتكلمون لغة واحة، فالطول مختلف من إنسان لآخر، والقرب والبعد، وكذلك كل ما قد يخطر ببالك، نظرا للخلفية الثقافية ومستوى التحصيل الذي يتمتع به كل منا؛ تعطي هذا قرشا فيقنع، وتعطي ذلك ألفا فلا يبالي بها. فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

    ومن هنا كان الظن، ولا يكون إلا مع فطنة، ولذلك قال الفيلسوف أنا أشك فأنا موجود، ومن قبل قالت العرب: ألظن احد العقلين، والظن عصمة، والظن من الفطنة، ولهذا جعلوا الظانّ الذي يصيب ظنه ألمعيَا، على نحو ما نجده في قول أوس بن حجر يمدح فضالة بن شريك:

    الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا

    ومن هنا كانت أفعال الظن تأخذ مفعولين، لأن العقل يتردد بين المفعول الأول والثاني، نظرا لقرب هذا من ذاك في الصورة والهيئة أو غير ذلك مما يخيل على الإنسان، كأن نقول ظننت القادم زيدا، فعقلك يتردد بين الشخص القادم وبين زيد لما بينهما من تشابه، تماما كالميزان في تأرجحه حتى يستقر. ونظرا للتداخل بين المعاني فقد يقع الإنسان نفسه في حيرة من أمره في بعض الأحوال، لكثرة ما تتشابه عليه الأمور.

           ولهذا كله لا يصح في العقل أن تسند أمور الناس إلى الناس، لكن قد نسند أمر جهاز إلى صانعه، لأنه أدرى الناس به، كيف لا وهو الذي صنعه، مما يعني أنه هو الذي خطط له، ووضع نظريته والتصورات اللازمة لإنتاجه، ومن هنا، كان من يصنع الجهاز هو الذي يضع دليل تشغيله ( the manual )؛ مما يقطع بأن الأولى بوضع دليل تشغيل الإنسان هو الله العلي العظيم الذي خلقه؛ فهو أدرى به وأعلم، وليس المشرّعين من دونه، مهما أوتوا من العلم.

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me