An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Sunday, December 20, 2009
  • اصطلاحات الصوفية، أبعاد جديدة في التطور الدلالي
  • Published at:مجلة المخطوطات/ جاممعة الدول العربية، 1998
  • تمثل اصطلاحات الصوفية ثروة أدبية كبيرة؛ إذ إن لهم معجمهم الخاص وتعابيرهم الخاصة،وطرقهم الخاصة. وهذه التعابير تمثل مذهبهم في الأدب.

    وقد رأى غيرهم أن ذلك من قبيل "الرمز"، ولكن الحقيقة تجانب ذلك،فهم يقصدون إلى الإغراب قصدا، ولذلك لجأوا إلى استخدام ألفاظ معقدة ومعان مغلقة، فهم لم يكونوا يكتبون للعامة، بل للخاصة العارفين، ولقد صدقوا في تجربتهم،فإن من ذاق عرف.

    نحاول في هذا البحث أن نغوص في بحر التصوف، لمعرفة العلاقة بين اصطلاحات المتصوفة ودلالاتها، ولما كانت هذه الألفاظ من المعجم اللغوي، وكانت تستخدم لغير دلالاتها الأصلية لعلاقات غير مجازية، بل لا مجال فيها للنظر العقلي،فإن البحث فيها عسير، ورصد أوجه التطور الدلالي يكاد يكون كذلك، غير أننا تمكنا من الإشارة إلى بعض الحقائق التي من شأنها أن تمهد الطريق لبحث أعمق، حبذا لو يتم على يد رجل من المتصوفة، نظرا للخصوصية التي يمتاز بها عالم التصوف عن عالم الإدراك الحسي والعقلي.

     

    مصادر الألفاظ الصوفية

    يقف المطالع في ألفاظ المتصوفة واصطلاحاتهم، على أنها مستمدة من عدة مصادر، ثم صرفت لدلالات جديدة خاصة بهم، ويصعب فهمها فهما دقيقا من قبل غيرهم؛ ذلك لأنها تعتمد على التجربة والمعرفة الذوقية، وهما أمران لا سبيل إلى "تأطيرهما" وفقا لمعايير وأقيسة علمية منطقية.

    ونستطيع رد اصطلاحات الصوفية إلى الفقه والتوحيد من علوم الديانة الإسلامية، وأكثرها مستمد من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فلو تأملنا في اصطلاحات البدايات ومقاماتها من عناصر ودعامات المنازل العشرة عند الهروي(1): اليقظة، التوبة، المحاسبة، الإنابة، التفكر، التذكر، والاعتصام، والفرار، والرياضة والسماع ـ لوجدنا أنها مما ورد في القرآن الكريم بلفظه أو بفعله عدا الرياضة، ونظير ذلك في الأبواب: الحزن، الخوف، الإشفاق، والخشوع، والإخبات، والزهد، والورع، والتبتل، والرجاء والرغبة. إذ إن معظم هذه الألفاظ قرآنية لمعانيها، لولا أن القوم أضفوا عليها أبعادا، واختصوا بها دون غيرهم. وقد يطول بنا الحديث في استعراض الاصطلاحات التي استمدها المتصوفة من القرآن الكريم والحديث الشريف، وقد يكون خير مثال يوضح مذهب القوم في التصوف في الألفاظ وتوليدها ما يعرف في اصطلاحاتهم باسم "العلم اللدني"، من كلمة "لدن" الواردة في قوله تعالى: "وعلمناه من لدنا علما" (2)، وهو العلم الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من الخارج.

    ومن مصادر ألفاظ الصوفية المعجم الشيعي، لا سيما أن كثيرا من الباحثين والمتصوفة يرتدون بأصل المذهب إلى الإمام علي (مصباح التوحيد ومفتاح التغريد)، على ما لقبه العز بن عبد السلام (3) ونجد كثيرا من المفردات مستمدة مما عرف بفقه الباطن مقارنا بفقه الظاهر، ومن ذلك اصطلاحات كالقطب والولاية والأبدال.

    وجدير بالذكر هنا أن نشبر إلى أن "نظرية الحلول" التي قال بها بعض الشيعة (الفاطيمة والدروز منهم) هي نفسها التي كان يقول بها الحلاج وبعض المتصوفة. ومن يطالع أشعار تميم بن المعز لدين الله الفاطمي وأشعار العز بن عبد السلام، يجد تشابها كبيرا في الألفاظ لدلالاتها.

    كما يستخدم المتصوفة اصطلاحات مستمدة من معجم اللغة العام، كالحرية والحزن (4)، ولكنها لا تستخدم للدلالة على المعنى المألوف، فالحرية والعبودية عندهم لعلاقة بالشهوات والنفس والشيطان، فمن تولاها فهو عبد لها، ومن أفلت من سطوتها فهو الحر. والحزن عند عامة الناس إنما يكون على الدنيا وما فيها، ونادرا ما يمون على شيء آخر، بينما شرطه عندهم ألا يكون على الدنيا وما فيها. والحزن هو زاد الصوفي وراحلته، والقلب الطروب في نظرهم هو قلب فارغ خرب، والقلب الحزين قلب مملوء بالإيمان والخشية والرجاء. (5)

    بإجمال، فإن التصوف العلاقة بالنفس وأحوالها، وبالمعرفة وسبيلها، وهو عندهم القلب والذوق، ومن هنا كانت اصطلاحاتهم مستمدة من معجم النفس، وأكثر ذلك من القرآن الكريم، كتاب النفس ودليلها الذي وضعه صانعها ـ عزَّ وجل ـ وهو أدرى بها. وقد ذهب القوم بعيدا في التحليل، وتعمقوا، فوصلوا آفاقا لم يصل إليها سواهم، فعرفوا من الحقائق ما لم يعرفه غيرهم، وبالتالي فإنهم وإن استخدموا ألفاظنا، إلا أنهم يحلقون بمعانيها في أجواء أرحب من اجواء معانينا، وأكثر إشراقا، فلا عجب إن نحن حمنا حول معانيهم دون ان ندركها مثل ما يدركونها هم.

    وكي نتمكن من سبر العلاقة بين ألفاظ المتصوفة ودلالاتها، فغنه لا بد لنا بداية من استعراض نظرية المعرفة عندهم، وسبيلهم إلى تحقيقها وإدراكهاـ وهل هم سواء وغيرهم في ذلك، أم انهم مختلفون، وهل يخضع الاختلاف إلى أقيسة ومعايير تمكنا من التحقق مما يعرض لنا ويكتشف منه؟ وتوجيه ذلك كله، ان نظرية المعرفة تضبط العلاقة بين المدركات والإنسان، وتوجها وتتحكم في مسار دلالة الألفاظ والاصطلاحات في رحلة التطور، وتمكننا من رصد الأبعاد الجديدة التي بلغتها رموز الصوفية ألفاظا ومعانيَ.

     

    نظرية المعرفة عند المتصوفة

    تناول ابن خلدون في الفصل الثاني من كتابه "شفاء السائل لتهذيب المسائل" (6) النظرية المفسرة لإمكان الكشف الصوفي، وفسره بنظريتي النفس والمعرفة، وتستند نظرية النفس عنده إلى فكرتين تتعلق أولاهما بالنظرية الثنائية، قال: "اعلم أن الله خلق هذا الإنسان مركبا من جثمان طاهر وهيكل محسوس وهو الجسد، ومن لطيفة ربانية وأركبها مطية بدنه، وهذه اللطيفة مع البدن بمنزلة الفارس مع الفرس، والسلطان مع الرعية"(7).

    وتتعلق الثانية بشروط اكتمال النفس، وهي شروط متناقضة كما سنرى، فالنفس بحاجة إلى البدن لاكتساب المعرفة، ولكن البدن عائق دونها، والمعرفة المباشرة لما هو من طبعها، وما تكتسبه النفس من العلوم والأخلاق بوساطة البدن، بعضها يرفعه نحو الكمال، وبعضها يحطها.

    ولم يتعرض ابن خلدون إلى نظرية العقل عند الإنسان، لأن هذه النظرية تقتضي الوصول إلى إدراك العالم الروحاني بتوسط المعرفة الكسبية في معناها الفلسفي القائم على المعرفة الحسية المنطقية، التي يعدها ابن خلدون عوائق أمام المعرفة الذوقية والوجدان؛ "فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير وساطة وحصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنهما، وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم، وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة ..."

    فأما قولهم ـ يعني الفلاسفة ـ : إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه، فباطل كما رأيته، إذ البراهين والأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر، ونحن نقول: إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك (هو) إماتة هذه القوى الدماغية كلها، لأنها منازعة له، قادحة فيه" (8).

    كما ناقش ابن خلدون، عقب ذلك، شرط تحقق المعرفة الكشفية، وأنها لا تكون بتوسط البدن، بل بالقطع معه وإماتته حتى لا يحول دون النفس وعالمها الذي منه ذاتها.

    والسبيل الأولى المؤدية إلى المعرفة الكشفية منهجها الطريقة الصوفية "الرافعة للعوائق البدنية والماحية للصفات البشرية" (9)

    ويمكن أن نوجز نظرية ابن خلدون في هذا المجال، بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لما فطر اللطيفة الربانية (الروح) المودعة في الإنسان على الاستكمال بالمعرفة والعلم بحقائق الموجودات وصفات موجدها، جعل لها جانبين:

     ـ جانب تجاه الوجود الحسي يعتمد العقل.

    ـ وجانب تجاه ما كتب في اللوح المحفوظ، فإذا ارتفع الحجاب بالتصفية والتخلص من الأكدار، وقع الإدراك بالجانب الآخر، لا بالحس ولا بالفكر ولا بالخيال، ولكن باللطيفة الربانية، إذ تنطبع الصور في ذاتها لأن لها من ذاتها، وتحصيل ما لها من ذاتها بذاتها أوثق من تحصيله بغيرها.

    ومن هنا لم ير أفلاطون في العلم الكسبي برهانا قطعيا على العالم الروحاني، ويرى نسبة الكسبي إلى الإلهامي كنسبة الظن إلى العلم، وهكذا فالمعرفة الكشفية ممكنة، وشروط وجودها موجودة في النفس قابلة للتحقيق بفضل السلوك الصوفي المزيل للعوائق البدنية.

    ويفوق ابن خلدون أيضا بين هذين النوعين من العلم وبين العلم الروحاني (10) فيجمل رأيه فيها على النحو التالي:

    1. العلم الكسبي: وجهته الحياة الدنيا والعالم الأسفل، يكتسب منها العلوم والمعارف، ببسط الحواس الظاهرة على المدركات بانتزاع صورها من الخيال، ثم تجريد المعاني المعقولة منها، ثم تصرف الفكر فيها بالتركيب والتحليل، ونظم الأقيسة حتى يحصل مطلوبها الذي تتوجه إليه، وهذا العلم ظاهر بالحس.

    2. العلم الإلهامي: وهو الوحي ينزل على النفس الصافية خلقة وجبلة بالعصمة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.

    3. العلم الروحاني: وهو ما كان نتيجة للتصفية والتخليص بالمجاهدة من غير عصمة، وإنما بالاكتساب والتكلف، والعلم المستفاد هنا لا نشعر بسببه ولا بمورده، وإنما يكون نفثا في الروح، وهو ذوق العلم، والعلم اللدني من قوله تعالى: "وآتيناه من لدنا علما"، وهو العلم الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من الخارج. وهذا ما يعرف عند بعضهم بعقل الاختصاص أو العقل الحادث أو العقل الباصر الكاشف ... سبيل المتصوفة إلى المعرفة الذوقية أو الوجدانية التي هي أعلى درجات المعرفة الصحيحة، ولا يمكن الإفصاح عنها بأية وسيلة من وسائل التعبير الإنساني، ولا يمكن بالضرورة نقلها أو توصيها للآخرين إلا بوصولهم أنفسهم إليها(11).

    وهذا يعني أننا بصدد معارف خاصة، لا يدرك دلالاتها إلا من ذاقها، ولكن حاجة القوم إلى التعبير عنها ووصفها نضطرهم إلى استخدام لغة "العامة"، فجاءت عباراتهم رموزا مستغلقة إلى حد ما. وقد يصح أن نترجم ذلك بقصور اللغة عن التعبير عن معانيهم، ليس لقصور طبعي فيها، وإنما لأن معاني المتصوفة تقع خارج إطار معاني اللغة، ويتم التوصل إليها بغير الأساليب التي يتمم التوصل بها إلى معانيها، ولا يعرف الشوقَ إلا من يكابده ... والمكابدة درجات، وأنّى للغة أن تعبر عن ذلك كله، بل أنّى لامرئ أن يقدر على التعبير لآخر عن شيء يجده بألفاظ يستخدمها الآخرون للتعبير عن شيء مختلف يجدونه.

     

    قصور اللغة

    يرى ابن عربي أن العلم الروحاني، أو ما أسماه بالعلوم الإلهية الذوقية، تختلف عن سائر العلوم، وذلك في أنها لا تخضع لمعايير، ولا تعترف بالعقل، "فلا يقدر عاقل على أن يحدها، ولا يقيم على معرفتها دليلا، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق، وما شاكل هذا النوع من العلوم، فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إلا بأن يتصف بها ويذوقها، وبالذوق تتميز الأشياء عند العارفين، والكلام على الأحوال لا يحتمل البسط، وتكفي فيه الإشارة إلى المقصود، ومهما بسطت القول فيه أفسدته، فعلوم الأحوال لا تنقال ولا تنحكي ولا يعرفها إلا من ذاقها، وليس في الإمكان أن يُبلغها من ذاقها إلى من لم يذقها، وبينهم من ذلك تفاضل لا يعرف"(12).

    إذا فنحن بصدد معان لا تتحصل في النفس، وتعجز اللغة عن التعبير عنها؛ لأن اللغة إنما تستخدم في مجال التعبير عن شيء مألوف عند كل من الملقي والمتلقي، أو عند أحدهما، فهذا يحاول بسطه للآخر بألفاظ من لغتهما، أما ألفاظ المتصوفة فهي من ألفاظ اللغة من حيث هي أصوات، ولكنها من حيث المعنى تختلف عن سائر ألفاظ اللغة، لأن معانيها ليست متداولة بين عامة الناس، ليس لجدتها، فهي لم تستقر لها بعد في معاجمهم وعقولهم، ولكن لطبيعتها وللطريقة التي تدرك بها، إذ هي متفاونة من متصوف لآخر، ونادرا ما يستطيع غير المتصوفة إدراكها وإن اجتهدوا في ذلك، ولأنها لا تخضع في تحصيلها لمعايير مصطلح عليها ومعايير متفق عليها، بل تتحصل في النفس عن طريق الحلول دون كيف تحدده الألفاظ.

    يقول ابن خلدون في هذا الصدد: (13)"إن التعبير عن تلك المدارك والمعاني المنكشفة من علم الملكوت متعذرة، لا بل مفقودة؛ لن ألفاظ التخاطب في كل لغة من اللغات، إنما وضعت لمعان متعارفة من محسوس أو متخيل أو معقول تعرفه الكافة، وإذ اللغات تواضع واصطلاح؛ فلا توضع إلا للمعروف المتعاهد، فأما ما ينفرد بإدراكه الواحد في الأعصار والأجيال فلم توضع له، ولا يصح التجوز بهذه الألفاظ على طريق المجاز؛ إذ التجوز إنما يكون بعد مراعاة معنى مشترك أو نسبة، ولا نسبة بوجه عام بين عالم الملكوت وعالم الملك، بل هي متعذرة أو مفقودة، فكيف يتكلم بما لا يفهم فضلا عن أن يودع الكتب؟ وإن صاروا إلى ضرب المثال والقنوع بالإجمال فسبيل مبهم".

    ومن هنا لجأ المتصوفة مضطرين، إلى الإشارة والتلميح، فالسامع من غيرهم يحوم حول معانيهم دون أن يكون قادرا على الوقوع عليها، ولذلك رأيناهم يفرقون بين معرفة العقل ومعرفة القلب، وتجعل استحالة التعبير الحقيقي والمجازي عن هذه المعاني المنكشفة أمام مفارقة تتمثل في كيف نوفق بين هذا وبين ما يقال من تحقيق علم المكاشفة أو علم الباطن "إن القلب عند تطهيره وتزكيته من الصفات المذمومة، ثم إخماد القوى البشرية ، ومحاذاة جانب الحق ...  يرتفع عنه الحجاب ويتجلى فيه النور الإلهي، فتنكشف له بذلك أسرار الوجود؛ علوه وسفله، وملكوت السماوات والأرض، فتتضح له معاني العلوم والصنائع، وتنحل جميع الشكوك والشبه، ويطلع على ضمائر القلوب وأسرار الوجود، وتنكشف له معاني المتشابهات الواردة في الشرع حتى تحصل له المعرفة بحقائق الوجود كلها على ما هي عليه." (14)

    وكما ذكرنا قبل قليل، وإزاء عجز اللغة عن التعبير عن الحقائق التي يدركها المتصوفة في تجلياتهم، فقد وجدوا في الإشارة والتلميح سبيلا يمكنهم من تقريب تلك المكاشفات بعضهم إلى بعض، وإلى من يدرس آدابهم محاولا فهمها، ونذكر في هذا المجال ما قاله بعض المتكلمين لأبي العباس ابن عطاء: ما بالكم أيها المتصوفة قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين وخرجت عن اللسان المعتاد، هل هذا إلا طلبا للتمويه وسترا لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه لعزته علينا، كي لا يشربها غير طائفتنا، ثم اندفع يقول:

    أحسن ما أظهره ونظهره                           بادئ حق القلوب نشعره

    يخبرني عنه وعنه اخبره                              أكسوه من رونقه ما يستره

    عن جاهل لا يستطيع ينشره                         يفسد معناه إذ ما يعبره

    لا يطيق اللفظ بل لات يعشره                     ثم يوافي غيره فيخبره

    إذا اهل العبارة ساءلونا                            أجبناهم بإعلام الإشارة

    نشير بها فنجعلها غموضا                          تقصر عن ترجمة العبارة

    ترى الأقوال في الأفعال أسرى                    كأسر العارفين ذوي الخسارة (15)

    وفي هذه الحكاية ما يقفنا على حقيقة العلاقة بين اصطلاحات الصوفية ومعانيها، فالمتكلمة يركبون مطية المنطق والألفاظ المتداولة، أما هؤلاء فإن لهم سبيلا آخر، فعلومهم غير العلوم، إنها "علوم الخواطر، علوم المشاهدات والمكاشفات، وهي التي تختص بعلم الإشارة، وهو العلم الذي تفردت به الصوفيه .....، وإنما قيل: علم الإشارة، لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق .." (16) ولذلك فإن علومهم مستورة عن عامة الناس، مفتوحة لهذه الطائفة دون غيرهم.

    وتوجيه ذلك أن هذه الطائفة اصطلحت على ألفاظ في علومها تعارفوها بينهم ورمزوا بها، فأدركها صاحبهم، وخفيت على غيره. ومن هنا خف عدد كبير من المصنفين قديما وحديثا إلى وضع معاجم لشرح اصطلاحات الصوفية وتقريبها من الأفهام، كالقاشاني والكاشاني وابن عربي وغيرهم.

    جاء في مقدمة اصطلاحات الصوفية لابن عربي، المطبوع في هامش كتاب التعريفات للجرجاني (17): "أما بعد، فإنك أشرت إلينا بشرح الألفاظ التي تداولها الصوفية المحققون من أهل الله بينهم، لما رأيت كثيرا من علماء الرسوم وقد سألونا في مطالعة مصنفاتنا، ومصنفات أهل طريقتنا، مع عدم معرفتهم بما تواطأنا عليه من الألفاظ التي يفهم بها بعضنا عن بعض، كما جرت عادة أهل كل فن من العلوم....."

    وتعد اصطلاحات الصوفية ثروة أدبية كبيرة، ذلك بما تمثله من الحياة الروحية العميقة التي يحياها المتصوفة. "ونكاد نقول: إن لهم معجمهم الخاص، وتعبيرهم الخاص، وطرقهم الخاصة، وهذه التعابير تمثل مذهبهم في الأدب والرمز، والمذهب الذي عيب عليهم سلوكه، حتى إن الثعالبي حين أخذ على المتنبي قال: "أمثال ألفاظ المتصوفة واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم المغلقة". وأعتقد أن الصوفية أرادوا هذا الغموض والرمز، وعمدوا إليه باختيارهم، لأنهم لا يقولون الشعر أو النثر لعامة الناس، وإنما يقولون لفئة خاصة من أصحاب القلوب وذوي الأبصار." (18)

    ومن هنا كان "كل ما نعرفه حتى يومنا هذا عن الصوفية ضئيلا ومحدودا بالمقارنة بما ذكرة علماء الصوفية وفقهائهم في كتبهم، وحتى هذا الجزء الضئيل من المعرفة الصوفية غير معروف إلا بفئة قليلة متخصصة في جامعاتنا، ويرجع ذلك إلى عدم الإلمام بمعاني الألفاظ الصوفية لدى الكثير من المتعلمين والمثقفين." (19)

    ونستطلع شيئا من طبيعة معاني المتصوفة يؤكده أقطابهم في آثارهم. فهذا هو العز بن عبد السلام يقول في قصيدة تدور حول فكرة أن الكون نسخة من الإنسان:

    إذا كنت تقرأ علم الحروف                               فشخصك لوح به أسطر

    وتمثال ذلك أنموذج                                       لكل الوجود لمن يبصر

         حروف معانيك لا تنقري                                لذي الجهل كلا ولا تنقري (20)

    فالإنسان لوح عليه سطور، وسطور معانيه لا تنقري لذي الجهل، يقصد غير العارف بالله، من غير المتصوفة، لأنه حتى من ادعى المعرفة بالله، قد لا يكون كذلك:

                يا أيها المدعي لله عرفانا                              وقد تفوه بالتوحيد إعلانا

    وتطلب الحق بالعقل الضعيف                       وبالقياس والرأي تحقيقا وتبيانا (21)

    فالعقل ضعيف، وكل أدواته من قياس ورأي وغيرهما لا تستطيع اختراق الحجب، وإنما السبيل إلى ذلك بالمجاهدات والذوق وعلم القلوب.

     

    دلالات الاصطلاحات الصوفية

    تتراوح أبعاد التطور الدلالي المرصودة في جل اللغات ما بين المادي والمعنوي استجابة لما تقتضيه العلاقات المجازية والعلل التوليدية في ضوء ما ينعكس من تباين وتواصل بين الحواس والعقل، اللذين يمثلان السبيل الرئيس لمعرفة الإنسان لما يقع خارجه. وقد كان اعتماد الإنسان على حواسه أكثر من اعتماده على عقله بادئ الأمر، ثم راح ينظم معارفه الحسية ويحللها ويعللها على نحو ما ينشط به العقل، ونبرهن على ذلك بما تعكسه مفردات اللغة التي تطلق على "الشهر" في جل لغات العالم، إذ نجدها مشتقة من اللفظ الذي يطلق على الهلال والقمر (22)، ذلك أن الإنسان علّم بدورة القمر ـ وهي مما يدرك بحاسة البصر ـ على حدود الزمان، بينما نجد أن التقويم الشمسي قد تأخر؛ ذلك لأنه يعتمد على الحساب، وهو عقلي لا حسيّ.

    ومن ذلك أيضا سبق الألفاظ التي يعبر بها عن المشرق والمغرب، تلك التي يعبر بها عن الشمال والجنوب، ذلك أن الأولين يعلم عليهما بشروق الشمس وغروبها، وهما مما يدرك بالحس، بينما لا يعلم على الآخرين بمثل ذلك، بل يعرفان بالعقل.

    وينقلنا الصوفيون إلى أبعاد جديدة في معارفهم، ذلك أنهم يتجاوزون دائرتي المحسوس والمعقول إلى دائرة المذوق، ويجعلون الذوق كالحس والعقل، بوابة للمعرفة على نحو ما يتجلى في قولهم: "من ذاق عرف، ومن لم يذق لم يعرف". ذلك أن الذين لم يعرفوا طعم الوجد والشوق الصوفي لا يعرفون ماهية الوجد والشوق الحقيقي. (23). وتحرير ذلك أن التصوف تجربة ذوقية، وليس علما يدرس، وهو تجربة روحية بعيدة من المادة، مما يعني أنه لا شأن للعلم الحديث بالتصوف، لأن العلم مجاله المادة، والتصوف روحاني ولا يدرك حقيقته إلا من مارسه وعاشه. ومن هنا فإنه إذا دخل شخص عادي أحد مجالس الصوفية، صعب عليه فهم ألفاظهم وإشاراتهم، أما إذا دخل صوفي مجلسا من مجالسهم فإنه يندمج بينهم ويتفهم أقوالهم، وكأنه يعرفهم من زمن بعيد، ويعتبر هذا بالنسبة له جوا عاديا وطبيعيا ومألوفا." (24)

    واصطلاحات الصوفية ليست كغيرها من الاصطلاحات؛ تخضع لمنطق العقل والنظر، ولكنها "تفهم عن طريق الذوق والكشف. ولا يتأتى ذلك إلا لسالك يداوم على مخالفة الأهواء وتجنب الآثام والبعد عن الشهوات، وإخلاص العبادات والسير في طريق الله بالرياضات والمجاهدات في الطاعات، حتى تنكشف لهذا المريد الصادق غوامضها وتتجلى له معانيها، فيتحلى بها كالجواهر الفريدة لا ينازعه في فهمها إلا من وصل إلى درجته أو تجاوزها من أقرانه وأساتذته في الطريق." (25)

    وهذا يعني أن المتصوفة في رياضاتهم ومجاهداتهم يتجاوزون حدي الحس والعقل ويبلغون حد الفناء الذي يمثل الوجه الآخر للاتحاد، ويستقلون عن سائر العباد بعالم فريد، يختلف عن عالم الناس العاديين في معالمه وأبعاده، "ويعتبرون السبيل إليه أن يفنى الإنسان عن ما يدرك بالحس، وعن ما يخطر بالعقل، وعن كل فعل وكل شعور، وأن يكون في حالة تأمل تصل به إلى حد تعطيل الحياة العقلية الواعية." (26) ويترتب على ذلك أن تكون معاني المفردات التي يعبرون بها عن مشاهداتهم ومعانيهم ـ وإن كانت هذه المفردات مما يتداوله عامة الناس ـ مختلفة عن معاني العامة، ولا تخضع لمعايير العقل والمنطق، في أبعادها وتطورها والعلاقات التي تربط بينها، والعلل التي توجهها.

    إن الأبعاد الجديدة في التطور الدلالي التي تعكسها اصطلاحات الصوفية، تتجلى في منهجهم في الكشف واكتساب المعرفة، على نحو ما يوضحه الإمام الغزالي من ذلك إذ يقول: " علمت أن طريقهم تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله ..... وكان العلم أيسر علي من العمل .... فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعليم، بل بالذوق والحال تبدل الصفات. وكم من الفرق أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطها، وبين أن تكون صحيحا وشبعان، فعلمت يقينا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال." (27).

    فالفرق بين معرفة الصوفي ومعرفة العالم والمتكلم، أن هذين يقفان عند الحدود والتعريفات والمنطق والقياس، بينما يعيش الصوفي حقيقة ما يقاس وما يعرّف. "فحقيقة التصوف أن تغني حالك عن مقالك .... والمتصوفة هم الذين لا يشهد سوى الله أسرارهم (28) ... ولهم استعداد سامٍ وإحساس مرهف، ولهم وراء الاستعداد والإحساس عقل راجح، ومن وراء العقل بصيرة نفاذة، وعزم قوي وهداية موهوبة وإلهام لدني" (29). ويجد المتصوفة في الآيات المتشابهة منهلا يسعفهم في توليد اصطلاحاتهم، ويغريهم بالتوسع في مدلولاتها إلى حد بعيد، إذ نجد ألفاظا في القرآن الكريم قد صرفت لمعان "باطنية" لا يصح بحال أن تفسَّر بالمعنى الظاهري، فما معنى وجه الله في قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله"؟ وما معنى الجوارح الواردة في الحديث القدسي: "ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها ...." وجدير بالذكر أن الصوفية وجدوا في هذا الحديث مجالا رحبا لمعاني الفناء؛ فناء المخلوق في الخالق، والمحب في المحبوب" (30) فالسمع والبصر واللسان واليد وأفعالها هي مما يدرك بالحس والعقل في حال نسبتها للإنسان، أما إسنادها إلى الله عز وجل، فذلك شأو بعيد، تكلّ في إدراكه الأفهام، وتضنى في بلوغه الأجسام، فهو القريب البعيد، والمألوف الغريب، كالسهل الممتنع من الأساليب.

    إن الشفافية الصوفية ورقة الحجب التي تفصل ما بين الصوفي والحقيقة الكبرى التي تغنيانه عن حسه وعقله في إدراك ما حوله، ذلك أن الإنسان يكون في حاجة إليهما لإدراك ما خفي من الأمور، واستشعار ما وراء الحجب، أما إذا لم يكن بينه وبين حقائق الأشياء حجاب، أو كان هذا الحجاب غلالة تشف عما وراءها، فإنه يستغني عن العقل والحس.

    وقد نقرّب الصورة أكثر، ولكن دون تكافؤ، فنشبه المسألة بمن عرف الغابة درسا في كتاب أو حديثا ألقي إليه، ومن عرفها مشاهدة على شاشة الإذاعة المرئية، ومن شاهدها عيانا وتجول في أرجائها. فالأول استخدم اللفظ مقروءا أو مسموعا لإدراك المعنى، والثاني أدركه ألوانا متحركة، أما الثالث فقد اتصل به دون وسيط من رمز أو تمثيل.

    وكلما اعتلى الصوفي مقاما توسعت إدراكاته، وتفهم الأشياء بطريقة أشمل وأهم، حتى إن تصرفاته لتبدو للشخص العادي شاذة وغريبة عما هو مألوف لنا جميعا، وعما اعتدنا عليه، وربما ننسب ذلك إلى الهذيان والجنون." (31)

    ومن هنا نستطيع أن نقول إن أبعاد التطور الدلالي التي تعكسها اصطلاحات الصوفية هي نمط جديد من الرمزية ما أشبهها بالسريالية التي لا يفهمها إلا صاحبها، ولا يدرك حقيقتها إلا من تجرد من حسه، وتجاوز عقله إلى مراق أعلى وأسمى، تتصل فيها النفس عبر شفافية الروح بحقائق الكون، تاركة وراءها إدراك واقعه ومحسوسه إلى عقل العلماء وإحساس العامة، وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نفلسف اصطلاحاتهم، ولا أن نخضعها لمقاييس التطور اللغوي المعروفة، بل تقتضي أن نبحث لها جميعا عن مواصفات ومقاييس جديدة، وذلك لأنها ليست نتاج عقل وحس، بقدر ما هي حصاد روح وتجليات نفس مشرقة.

    ونستعرض فيما يلي طائفة من الاصطلاحات لمعانيها في عرف المتصوفة وعند عامة الناس (المعنى اللغوي)، لنعرف مدى الفرق بينهما، فالسهر في اللغة هو عدم النوم، ولكن عندهم عدم الغفلة، أي انه يكون في كل وقت، بينما لا يكون السهر إلا ليلا، والمقصود بالغفلة أن تكون عن ذكر الله. والصمت في اللغة: ترك الكلام، أما المعنى الصوفي فهو صمت الضمير عن جميع التفاصيل." (32)

    والذهاب هو ما نعرفه، بمعنى الانطلاق إلى جهة ما، أو الموت على نحو ما نجده في قول أبي فراس عندما حضرته الوفاة: "كل الأنام إلى ذهاب". ولكنه عند المتصوفة بمعنى المحبة الخالصة لله تعالى، والفناء في ذاته نتيجة الانشغال، وهو ثمرة من ثمرات العشق الإلهي، وتحرر من المدركات الحسية." (33) والحزن عند الصوفية حافز ييسر انتقال المريد الحزين من مقام إلى مقام أثناء رحلة المجاهدات والرياضات أسرع من المريد الذي فقد حزنه، ويقال: إن ما يقطعه الحزين في شهر، يقطعه غير الحزين في سنة." (34) وهو أنين من القلب يمنع النفس من طلب السرور والطرب، فهو إذن هم يجعل الصوفي دائم التفكير في حاله ... لا من أجل طلب من طلبات الدنيا ابتغاه ولم يتحقق، ولا بسبب ابتلاء أو مصيبة دنيوية أو لفقد مال أو أهل أو جاه." (35)، كما هي الحال عند عامة الناس، وعلى نحو ما نجده في المعاجم اللغوية.

    ونقف على جانب عريض من المفارقات الدلالية ـ وهي تشبه الألغاز ـ في أشعار المتصوفة، فتبدو وكأنها تلاعبي بالألفاظ وما هي بذلك، ولكن للقوم معاني يفهمونها، ويدرك مراميها العارفون.

    والذكر عند الهروي هو: التخلص من الغفلة والنسيان. هذا مخالف للتعريف المعجمي وللمعنى الاصطلاحي في الفقه الظاهري، ولكن الهروي عبر عن الذكر بزوال ضده، ولم يذكر حقيقته." (36) وما نراه فعل ذلك إلا لأنه يرى أن حد الذكر أوسع بكثير مما يعبَّر عنه بتعريف جامع مانع يبين حده، فذهب إلى التعريف السلبي بنفي النقيض.

    واليقين في اللغة العلم، ونقيض الشك والجهل. ولكنه عند المتصوفة لمعان شتى؛ فهو العلم المستودع في القلوب، وهو قلة الاهتمام بالغد، وهو شعبة من شعب الإيمان، وهو تحقيق الأسرار بأحكام المغيبات." (37)

    وختاما لهذا البحث،نستطيع أن نستخلص النتائج والحقائق التالية:

    1.  اصطلاحات الصوفية مستمدة من المعجم اللغوي العام، ولكن لدلالات ومعان غير التي يتداولها أهل العلوم الأخرى وكافة الناس.

    2. ومعظم تلك الاصطلاحات قرآني في أصله، سواء أكان بلفظه أم بمشتق منه، وقد عمل المتصوفون على توليد الألفاظ على مذهب الفلاسفة والمتكلمة والفقهاء، فهناك المصادر الاصطناعية كالحرية، والعبودية، والمصادر المطلقة، كالحلول والفناء والحزن، والإشراق والكشف، وهناك النسبة كالعلم اللدني، ونحو ذلك.

    3. فهم اصطلاحات الصوفية رهين بفهم نظرية المعرفة عندهم، وهو محال إدراكه إلا لمن حلق في أجوائهم، وأخذ نفسه بالرياضة والمجاهدة، وتجرد من طينه وعقله وحسه، وذاق بقلبه، وهذا يعني أن معانيهم لا تدرك بالعقل ولا بالحس، ولكن بالقلب.

    4. المعروف أن التطور الذي يطرأ على دلالات بعض الألفاظ والاصطلاحات إنما يكون لعلاقات تربط بين الدلالة السابقة والدلالة اللاحقة، مما يدرك بالعقل والحواس، ولكننا ـ فيما يتعلق بألفاظ المتصوفة ـ نقف إزاء علاقات مختلفة لا تدرك بالعقل وال بالحس، وقد نشبه ذلك بخيط الجاذبية، يربط بين الجاذب والمذوب، وبحبل من ليف يربط بين جسمين ...  الأول مثال اللفظ ومعناه عند المتصوفة، والثاني مثال ذلك عند أهل العقل والحس.

    5. من هنا نستطيع أن نقرر أن اصطلاحاتهم ليست كسائر الاصطلاحات، فهذه تفهم بالنظر العقلي والدرس، أما تلك فلا سبيل إلى فهمها دون ممارسة التجربة الصوفية.

    6. وأخيرا إن المعاني التي يصرف لها المتصوفة ألفاظهم، تتضمن المعاني اللغوية الأصيلة، دون أن تكون مقصودة بتلك الألفاظ، ما لم يكن الحديث موجها لعامة الناس، وهذا يعني أن الصوفي يستخدم الألفاظ بمستويين مختلفين: مستوى الخاصة من المتصوفة، ومستوى العامة، عامة الناس.

    7. وآخرا، إن الأبعاد الدلالية الجديدة التي بلغتها اصطلاحات الصوفية تذهب في عكس الجهة التي يجتهد اللغويون في توجيه ألفاظها العربية صوبها، فاللغويين، وأهل العلوم يميلون إلى "ريضنة" اللغة ما كان ذلك ممكنا، وإلى أن تكون اللغة دقيقة في توصيل المعارف والعلوم على نحو متكافئ عند عامة الناس، أما الصوفيون، فإن مذهبهم في استخدام الألفاظ يعمل على إبهام معانيها، لكن ليس عن قصد، وإنما هي مقتضيات المعرفة الذوقية وذلك شأو بعيد، لا يتأتى إلا لعارف بالله، إنه مستوى من المعرفة مختلف جدا، ولا يخضع لنواميس العقل والحس، ومن هنا كان النظر فيه مستحيلا، والتقاء العامة عليه أكثر استحالة، وهذا يعني أن على الباحث في اصطلاحاتهم وتطورها الدلالي أن يكون متصوفا، يكتب للمتصوفين.

     

     

    الهوامش:

    1. دراسات في الفلسفة الدينية والصوفية والعلمية، د.عبد القادر محمود. دار الفكر العربي، 1987، ص273.

    2.   الكهف 65.

    3.   زبدة خلاصة التصوف المسمى بحل الرموز، العز بن عبد السلام. المطبعة اليوسفية بطنطا، ص15.

    4. التصوف الإسلامي، د. حسن عاصي. مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1994. ص140، 141.

    5.   المصدر السابق، ص142.

    6. شفاء السائل مع دراسة تحليلية للعلاقة بين السلطان الروحي والسلطان السياسي، د. أبو العزب المرزوقي. الدار العربية للكاتاب، بيروت، 1991، ص153 وما بعدها.

    7.   المصدر السابق ص77 ب.

    8.   مقدمة ابن خلدون، ص 998، 999.

    9.   شفاء السائل، ص 81 أ (عن المرزوقي ص 155).

    10.          المصدر السابق، 81 أ.

    11.          دراسات في الفلسفة الدينية، 374، 375.

    12.          شرح فصوص الحكم من كلام محيي الدين بن عربي، تحقيق محمود العزاب، مصر 1985، ص145.

    13.          شفاء السائل، ص35 أ.

    14.          المصدر السابق، ص32 ب.

    15.          التصوف الإسلامي، ص229.

    16.          المصدر السابق، ص228.

    17.          بيروت 1978.

    18.          في التصوف الإسلامي، قمر كيلاني، دار مجلة شعر، بيروت 1962، ص78، 92.

    19.   المذاهب الصوفية ومدارسها، عبد الحكيم عبد الغني محمد قاسم، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1989، ص7.

    20.          زبدة خلاصة التصوف، ص39.

    21.          المصدر السابق، 48.

    22.    نحو دراسات وأبعاد لغوية جديدة، د. يحيى جبر، ط نابلس، د.ت. "العين بين العلم واللغة" ص 27 وما بعدها.

    23.          ألفاظ الصوفية ومعانيها. د. حسن الشرقاوي. ط2. دار المعرفة الجامعية، ص8.

    24.   التعرف لمذاهب أهل التصوف، أبو بكر محمد الكلاباذي، ص88. والرسالة القشيرية في علم التصوف، أبو القاسم عبد الكريم القشيري، تحقيق معروف زريق، وعلى بلطجي. دار الجيل، بيروت، 1990، 1/25

    25.          ألفاظ الصوفية ومعانيها، ص5.

    26.   التصوف: منشؤه ومصطلحاته، د. أسعد السحمراني. ط1، دار النفائس. بيروت، 1407 ـ 1987، ص58.

    27.          المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، تقديم فريد جبر، المكتبة الشرقية، بيروت، 1969، ص35.

    28.          المدخل إلى التصوف، السيد محمود أبو الفيض المتوفى، الدار القومية، القاهرة، د. ت، ص9، 30.

    29.          المصدر السابق.

    30.          في التصوف الإسلامي، ص18.

    31.          ألفاظ الصوفية ومعانيها، ص7.

    32.          الرسالة القشيرية، تحقيق د. عبد الحليم محمود، 2/2999.

    33.          ألفاظ الصوفية ومعانيها، ص169.

    34.          اللمع، السراج الطوسي، ص372.

    35.          ألفاظ الصوفية ومعانيها، ص142.

    36.          دراسات في الفلسفة الدينية، ص277.

    37.          الرسالة القشيرية، ص179.

     
  • Bookmark and Share Email
     
  • زياد تمراز said...
  • زادك الله فهما وعلما وهذا موضوع جميل علمى منهجى عن الصوفية ومفرداتها التى لم تفهم من البعض تحياتى
  • Friday, October 2, 2015
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me