An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Friday, January 30, 2009
  • شمال شبه الجزيرة العربية في مصنفات الرحالة
  • Published at:Not Found
  • شمال شبه الجزيرة العربية في مصنفات الرحالة

    (بحث مقدم لندوة دارة الملك عبد العزيز)
    أ.د. يحيى جبر
    رئيس قسم اللغة العربية بجامعة النجاح الوطنية
    رئيس مجمع اللغة العربية الفلسطيني سابقاً
    تمهيد:
    تحديد الموقع : يقتضي البحث في هذا الموضوع تحديد بعض الاصطلاحات لنأمن محاذير التعميم وتشتيت الجهد، وأهم ما ينبغي أن نقف عنده هو هذا الموقع الذي نطلق عليه اسم ((شمال شبه الجزيرة العربية)) ، فأين ينتهي حد شبه الجزيرة العربية ؟وما المقصود بشمالها ، وهل حد الجزيرة -بدلاً من شبه الجزيرة من الآن فصاعداً - هو الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية أم أنه يمتد إلى الشمال من ذلك ؟ و ما علاقة الشمال بالشام والشآم، وقول أهل تهامة-إلى اليوم- في من اتجاه شمالاً :شاءَم (شايم) ومن اتجه جنوباً يمّن(1)،إلى غير ذلك من التساؤلات التي تطرح نفسها بين يدي الباحث.
    إن المنطقة التي تمتد ما بين تيماء ومعان غرباً ،إلى مابين حائل جنوباً وجبل العرب (السويداء )شمالاً فشطآن الفرات شرقاً تمثل بيئة جغرافية صحراوية متجانسة في كل مواصفاتها . إذ تتصل صحراء النفوذ بباديتي الشام والسماوة اتصالاً طبيعياً وكأن إحداها تمثل امتداداً للأخرى وهكذا. وكانت هذه المنطقة قديماً فاصلاً طبيعياً بين بلاد العرب في شبه الجزيرة العربية وبين بلاد الشام والعراق (الهلال الخصيب) المأهولة بأقوام يمثل العرب سوادهم الأعظم منذ القدم ، مما أغرى بعض المؤرخين والجغرافيين بمد حدود شبه جزيرة العرب شمالاً الى هضبة الأناضول ،وغرباً إلى ضفاف النيل الشرقية ، بإدخال شبه جزيرة سيناء وشرقيّ مصر في حدها . ويؤكد ذلك ما ورد في المعجم القطبي من إطلاقهم على شرقي مصر وسيناء اسم Arabia (2)
    و في حقيقة الأمر ، فان هذه المنطقة تمثل وحدة حضارية واجتماعية منذ عصور متقدمة ،ناهيك عن تجانسها البيئي الذي أسهم في توحيد نمط حياتها وتحضرها ونسيجها الاجتماعي بشكل واضح . ولعل أظهر ما تكون ملامح هذه الوحدة في منطقة خليج العقبة والنقب التي تجمع بين السعودية والأردن و فلسطين ، على ما اعتراها،ومصر ،وفي منطقة وادي السرحان التي تجمع بين السعودية والأردن والعراق وسورية وان لم تكن متاخمة لها .
    ولما كانت المجاهيل في هذه المنطقة كثيرة متناصية فقد انحصرت الحياة في بعض أنحائها، وانحسرت عن سواها، و البقاع المأهولة منها أطرافها ومنطقة القريات شمال المملكة الى جانب التجمعات البشرية التي ازدهرت بوقوعها على طرق المواصلات مثل بدنة و رفحا و طريف و المدورة ، أو بوقوعها على المعابر الحدودية بين دول المنطقة كالأزرق و حالة عمار و العمري ونحوها أو بما اكتشف في ناحيتها من المعادن أو الفلزات كمنطقة الحسا في الأردن على الطريق الحديدي( الحجازي ) .
    ويعني ما تقدم أن هذه المنطقة كانت تمثل عازلاً جغرافياً بين الشمال والجنوب، لا سيما لأولئك الذين لا ينتسبون للمنطقة،فلم يتمكن الروم من اجتيازها الى الجنوب، وكذلك الفرس ، مما يعني أن أحداً ما كان ليقدر على رسم حد لشمال شبه الجزيرة العربية، فهذه المنطقة جزء منها، بل أن العرب ليتجاوزونها شمالاً و غرباً.
    ومن هنا ، فإن دراستنا ستتناول هذه المنطقة متجاوزة الحدود السياسية بين الأقطار العربية التي تتقاسم المنطقة ، أو تتاخمها، مع التركيز على الجزء السعودي منها ، لأنه الأكبر ، والأكثر عمراناً قديماً وحديثاً .

    موضوع البحث :
    إن المجالات التي يمكن أن نتناول من خلالها هذا البحث كثيرة واسعة متداخلة ، ولذلك ، فإنه لا بد من تحديد موضوع البحث وحصره _ قدر الإمكان _ في مجال بعينه.وسندور به حول المحاور الأربعة التالية:
    _ من هم الرحالة الذين قصدوا شمال الجزيرة العربية؟وكيف نصنفهم؟
    _ ما الدوافع والأغراض التي حركتهم إلى ذلك الإقليم؟
    _ ما المواقع التي قصدوها .
    _ماذا نجد في أعمالهم من إشارات جغرافية واجتماعية .
    وقد كانت الخطة الأولية لهذا البحث محصورة في إطار الرحالة العرب ،غير أنّا، لتمام الفائدة، وبغرض الموازنة، عدلنا الى التعميم بضم الرحالة الأجانب إليهم ،ونظراً لاتساع المدة التي شهدت رحلات الى هذا الصقع ،فقد قصرنا بحثنا على رحلات دون غيرها .

    من الرحالة ؟ وكيف نصفهم ؟ :
    الرحالة اصطلاح آخر يحسن بنا أن نحدد مفهومه ، فالرحالة اصطلاح يطلق ، مبالغة ، على الرجل يخرج الى بلد آخر أو أكثر ، ويقع جمعاً ، لتعرف تلك البلدان بيئة ومواقع وتجمعات وعادات ونحو ذلك ، مما يمكن أن يقدّم معلومات علمية أو استخبارية أو كشفية أو غير ذلك .
    ويختلف الرحالة في أصنافهم ، فهناك السياحة الداخلية التي يقوم بها أبناء البلد الواحد في أقاليمه،وهناك الرحلة العلمية التي تقصد لذاتها ، كرحلات حمد الجاسُر وعبد الله بن خميس وغيرهما في بعض أنحاء المملكة العربية السعودية ، مما نجد ثمراته في المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية وفي مجلة العرب . وهناك مسلمون يعبرون من بلد لآخر حتى ينتهي بهم المطاف الى مكة المكرمة عمَّاراً أو حجاجاً فلا يفوت بعضهم أن يضع كتاباً يعرّف قرّاءه طريق الحج ، على غرار ما فعله عبد الغني النابلسي في الرحلة الحجازية، وعبد المجيد الزبادي الذي وصف منازل الحج ، ومحمد صادق باشا الذي وضع دليل الحج ، وابن البيطار في كتابه منازل الحجاز ،وصلاح الدين الصفدي في درر الفوائد المنظمة في أخبار الحج وغير ذلك كثير.
    ومن الرحالة غرباء قدموا من بلدانهم خدمة لأغراض استعمارية ، فتطوافهم تجسس وتمهيد لاحتلال وتوطئة لغزو واستطلاع لهجمة عسكرية أو ثقافية أو سياسية ،أو محاولة للبحث عن جذور مزعومة أو دقا لأسافين تستهدف الإسلام واللغة والحضارة . وقد لا نغالي إن أدخلنا في هذا الإطار جميع الرحالة الغربيين الذين توجهوا الى آسية وإفريقية على الأقل، فهم بذلك سواء ومعظم المستشرقين من حيث الأهداف والوسائل، بل إن بعض الرحالة كانوا مستشرقين ،ومنهم من عمل في بلاد الإسلام جندياً في جيوش الاستعمار الأوروبي من هؤلاء المستشرقين من وجد نفسه بطريق المصادفة في نطاق هذه الدراسة نتيجة لإقامته في بلد إسلامي أو لعمله التنصيري أو الخدمة العسكرية في بلد إسلامي (1) .
    ومن الرحالة من اضطر هو ، أو اضطر غيره ، أفراداً وجماعات الى الفرار واللجوء الى بلد قريب أو بعيد، هرباً من البطش كما فعل عز الدين التنوخي عندما لاذ بالبادية فاراً من الجيش التركي ليلتحق بالشريف حسين، فعبرها من الزرقاء الى القريات واصفاً منازل الطريق وسكان البادية ، معرفاً بهم وبعاداتهم.
    وكذلك فعلت بعض عشائر الدروز عندما احتلت فرنسا بلاد الشام في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، إذ التجأ آل رسلان إلى منطقة الجوف وحلوا في النبك سنة 1347للهجرة(2). ولكنهم عادوا بعد حين،غير أن فئة منهم استقرت داخل الحدود الأردنية في الأزرق .
    ومن الرحلات ما يكون على هامش الدراسة أو العمل في بلد آخر،كرحلات الطلبة العرب في البلدان الأجنبية ورحلات العاملين في غير بلادهم إذ يُتاح لبعضهم أن يتعرف على تلك البلدان وأن يدون معارفه، ويوظفها في أبحاثه بشكل أو بآخر.

     


    الرحالة ودوافعهم :
    الرحلة الى شبه الجزيرة العربية،وفيها، دائبة ومستمرة منذ فجر التاريخ الى يومنا هذا، ولا نعني بذلك هجرة القبائل وارتحالها من ناحية لأخرى،ولا الرحلات التجارية المعتادة كرحلة الشتاء والصيف التي خصبت بسورة من سور القرآن الكريم، وإن كانت أخطر رحلة من جنسها ذكرها التاريخ ، نظراً لارتباطها فطرياً بالمناخ شمالاً وجنوباً ،ولأبعادها الحضارية والدينية.وتواصلت الحركة عبر القرون فردية وجماعية إلى شمال شبه الجزيرة العربية ، وغيره ،إذ كان انطلاق الجيش الإسلامي من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشمال والشرق والغرب عبر تلك الأقاليم ،وظلت فيه الطرق سالكة بعد انتقال الخلافة إلى بلاد الشام فالعراق، لأداء عمرة وحج ، واستمراراً للتواصل بين عرب الأمصار وبلادهم وعشائرهم في شبه الجزيرة العربية.
    وتتواتر الرحلة في هذا الصقع في كل اتجاه ، وقد نذكر هنا رحلة أبي الطيب المتنبي عبره عندما فر من مصر الى الكوفة هارباً من بطش كافور ،و(رحلة) صلاح الدين الأيوبي عندما خرج من مصر سالكاً درب الشعوى(1) إلى قلعة الكرك لتأديب الصليبيين الذين كانوا يحتلونها و يقطعون طريق الحج الشامي .
    وفي العصر الحديث نشطت الرحلة إلى ذلك الإقليم وعبره،استمراراً لما كان من قبل ، انطلاقاً من الدوافع نفسها ، ويمكن أن نرصد ثلاثة عوامل أدت إلى تنشيط الرحلة اليه وعبره وهي :
    1_البحث العلمي ، لتحديد المواقع وتخطيط البلدان على نحو ما تحكيه رحلات الشيخ حمد الجاسر وغيره.
    2_الرحلة الى ذلك الإقليم لواذاً والتجاء . على نحو ما كان من أمر بعض الشاميين ممن التحقوا بشريف مكة ، أو فرّوا من بطش الفرنسيين.
    3_السياحة تدبراً واعتباراً ، أو طلباً للمتعة والترفيه .
    ولما كان هذا الاقليم حلقة وصل بين خافقي دار الاسلام في المشرق والمغرب ، وبين أقطاب أرحاء الدين : المسجد الحرام ، ومسجد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى ، وبين شمال دار الإسلام وجنوبها، فإنه على صحراويته شرقاً ، ووعورته غرباً (منطقة حسمى وجبال الشراة) - كان ، وما يزال ، عامراً تختلف على طرقه الأقدام والحوافر والأخفاف وعجلات المركبات.
    الرحالة الأجانب :
    وهم في جملتهم غربيون، وأكثرهم من بريطانيا وشبه جزيرة اسكندنافية. وتعد رحلاتهم امتداداً لرحلات التنصير والتجسس التي قام بها أسلافهم فيما تقدم، كرحلة ريمندس لولوس إلى تونس(2) ورحلة فريدرك هورنمان إلى ليبيا أواسط القرن الماضي ، ورحلة سايولوف إلى بلاد فلسطين، ورحلة برنارد مورتور سنة 1906م(1) ورحلة وليام جيبر بلجريف (1862م) ووالدن الفنلندي حوالي 1845م، وآن بلنت وغيرهم.
    وهذه الرحلات كانت موجهة بدوافع جس وتجسس ، ولم تسلم من التوظيف لأغراض عدوانية حتى ما كان منها متشحاً بثوب العلم والبحث، هذا الثوب الذي طالما ارتداه أعداء الأمة تمويهاً على طريق تحقيق أغراض مشبوهة ، أو حقيقية ، ولكن نتائج أبحاثهم وعلومهم جندت لقهر الشعوب واستعبادها. ويمكن هنا أن نرصد عاملاً إضافياً أدى إلى نشاط الرحلة إلى ذلك الإقليم وعبره هو الدوافع الاستعمارية تمهيداً لغزو عسكري أو ثقافي، أو نتيجة له، مما يطلق عليه الغربيون اسم "الكشوف الجغرافية".
    وبإجمال يمكن أن نصنف الرحالة إلى صنفين هما:
    رحالة عرب أو أجانب.
    رحالة مغرضون وآخرون منصفون. ونوع ثالث يستهدف الاعتبار أو المتعة.
    ويسهل الوقوف على أغراضهم بتعقب أبحاثهم ومؤلفاتهم ، واستظهار الروح التي تسودها، والعبارات التي تفضح أغراضهم بشكل غير مباشر . على نحو ما نجده فيها مثل قول جون فلبي في معرض حديثه عن المليلة "وكنت قد زرت تلك المنطقة في سنة 1931 لكي أنقب في خرائب إحدى المدن اليهودية الأثرية، غير أنني لم أكن لأذكر الكثير عن تلك المدينة التي كان يطلق عليها اسم "وادي القرى"(2) ، لما فيه من إشارة واضحة إلى محاولات مغرضة تهدف إلى تأصيل وجود يهودي في جزيرة العرب.
    ومن قبيل ذلك قول فلبي أيضاً في موقع آخر من كتابه"أرض الأنبياء"(3) : "كنت أستطيع أن أرى كتلة جبال شميض بألوانها الحمراء، هذه الجبال التي وقفت في يوم من الأيام تحرس واحداً من أشهر معاقل اليهود الحصينة، إذ يشتمّ القارئ في جل نشاطاته أنه كان ينطلق من رغبة جامحة في خدمة أغراض مشبوهة وإن كان ظاهر الأمر أنه رحالة مستكشف.
    وتسري في كتاب فلبي هذه الروح بشكل جلي، فحتى الآثار اليهودية التي كان جاداً في البحث عنها لم يكن له فيها من أرب سوى ما قد تحمله من نصوص عبرية. يقول " أما التي كنت أسعى للحصول عليها في الحجارة المنقوشة التي تعود إلى عهد ثمود وتحمل نصوصاً عبرية، ومما أغاظني بالفعل أنني تلقيت كيساً مليئاً بالنقوش، إلا أنني لم أجد بينها أي نقش عبري يحمل اسم أي يهودي أو يتحدث عن نشاط اليهود في خيبر"(4) ولما أعوزه التبرير راح يختلق الاحتمالات التي تفوح بالتحيز ضد العرب فيقول عقب ما تقدم: "والتفسير الوحيد لذلك هو أن اليهود كانوا متقدمين أكثر من العرب في ذلك الوقت، ولذلك فإنه من المحتمل أن يكونوا قد استعملوا سعف النخل أو رقّ الغزال أو غير ذلك من المواد سريعة التلف في تدوين ما شاءوا من تاريخهم ومراسلاتهم، ومن الطبيعي أن مثل هذه الأشياء لا تعمر طويلاً ".
    وتسيطر على فلبي نزعة يهودية واضحة، فهو لا يكاد يرى شيئاً إلا حاول أن يتذكر به نظيراً يهودياً، مما برز بوضوح تام أن الرجل إنما كان برحلاته وكشوفاته يؤدي رسالة معينة، يقول في معرض حديثه عن "سلالم"(1) :"وقد عبرناها إلى حزام طويل من النخيل وجدنا قربه خرائب ضريح مشكوك في أمره . عند ذلك ذكرتني هذه الخرائب بمثيلات لها في (المدينة) يقال إنها كانت إحدى بنايات اليهود، ومن ثم قررت أن أجعل استراحة الظهر في ذلك المكان علني أقوم بالتحقيق في هوية أصحاب هذا الضريح الذي يطلق عليه الأعراب المجاورون اسم قصر سلامة ...... ومهما يكن من أمر فقد تكون هذه الخرائب لكنيس يهودي قديم تهدم واندثر".
    ومما يوضح التزام فلبي بهدف يكمن وراء رحلاته لومه الرحالة الأجانب الذين سبقوه إلى تلك المنطقة ، بغرض المتعة والسياحة ، أو التنقيب عن المعدن ، دون أن يدونوا لمن قد يأتي بعدهم من الغربيين معالمها وطرقها ، تسهيلاً لمهماتهم المغرضة من بعد، فيقول: " ولا يسع المرء إلا أن ينتقد هؤلاء الأمريكيين، كما لا يسعه إلا أن ينتقد (غورماني)(2) لقيامه بزيارة المنطقة دون أن يكون لديه ذرة من المسؤولية أو التحسس بالمسؤولية ... ذرة تحمله على تسجيل معالم هذه المنطقة المجهولة أو شبه المجهولة(3) . لقد اكتفى غورماني والأمريكيون بالتمتع بمعالم المنطقة بشكل أناني ، دون أن يتيحوا الفرصة لغيرهم من المهتمين بها لاستقاء المعلومات عنها ، بفضل خبرتهم هم، وعلى الأقل فيما يتعلق بالطرق التي اتبعوها ، أو أسماء الأماكن التي شاهدوها أو زاروها "(4) .
    ويقول فلبي في موضع آخر(5) " وكذلك فقد استقبل عبد الكريم (بن رمان) بكل حفاوة البعثة الأمريكية المشبوهة التي كانت تدعي أنها تفتش عن البترول " مما يدعم كون الرجل إنما كان ينطلق في عمله من عقلية المؤامرة على نحو ما يستدل من قوله(6) عن المغامرين الأمريكيين الذين زاروا تلة النبي قرب وادي حراد، وكانوا ينقبون عن البترول ويجرون الدراسات: "غير أن نتيجة هذه الدراسة لم تعرف حتى الآن، لقد أبقوها سراً!" .
    لم تكن رحلات الغربيين عملاً فردياً،بل كانت مهمات منظمة تدخل في نسيج استعماري محكم ،فهذا هو بيرتون يصرح بدعم الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية لرحلته إلى مصر والحجاز عام "1835وعلى أية حال ،فإن الجمعية الجغرافية الملكية قد زودتني بسخاء بما يتيح لي السفر ..." إلى أن يقول "لقد عزمت على تقمص شخصيتي القديمة كدرويش فارسي(1) " ويقول في موضع آخر(2) معرباً عن أهدافه "كما كان من أهدافي جمع معلومات عن الربع الخالي لندرجها في خرائطنا" .
    وربما انتحل الرحالة الغربيون شخصيات لا يتطرق إليها الشك أو ادعوا مهناً أو اهتمامات تصرف النظر عن أغراضهم الحقيقية - التجسس، فمن الملاحظ "أن مشاهير الجواسيس الذين كشف أمرهم في القرن العشرين في منطقتنا كانوا يدعون هواية تربية الخيول ،وذلك ليجدوا جانباً مشتركاً أو أرضية مشتركة بينهم وبين العرب الذين لا يزالون يحبون الخيول والصقور(3) "ومن هنا كانت لدى بيرتون رغبة ملحة في اكتشاف إمكانية افتتاح أي سوق للخيول بين وسط الجزيرة العربية والهند(4) .
    وكانوا ، لهذه الأغراض ، يعدون العدة المناسبة، ليحتالوا على المواطن العربي البسيط ،والذي كثيراً ما كان يكتشف أمرهم بفراسته ، ومن حيلهم ما نقف عليه في قول بيرتون بناء على نصيحة الأخ الضابط الكابتين هزي جرنيدلي ...في سلاح فرسان البنغال فقد تم تجهيز ملابسي الشرقية قبل مغادرة لندن ، كما تم إعطاء كل حاجياتي طابعاً شرقياً تماماً)(5) .
    ولا يلتفتون بهذا الزيف ، بل يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك فيتعلمون العربية ، والشعائر الإسلامية ، ويقرأون القرآن الكريم إمعاناً منهم في التموية ، تماماً كما تفعل الحرباء ، يقول بيرتون "ولم أضع وقتاً، فسعيت لتأمين مساعدة الشيوخ، وشرعت مرة أخرى في الدخول في تفاصيل العقيدة والشريعة ،فأنعشت ذاكرتي بمعلومات عن الطهارة والوضوء ،وقرآن القرآن الكريم وأصبحت خبيرا بمواضع السجود"(6) .

    ولم يكن ذلك شأن بيرتون وحده ،إذلم يكن بدعا من الرحالة الغربيين فذلك هو فاريتما الذي زار الديار المقدسة في أوائل القرن الميلادي السادس عشر يتسمى بالحاج يونس المصري(7) ، وينتحل الشخصية الإسلامية ليحقق مآربه فيتمكن مما لم يكن أهل البلاد ليتمكنوا منه لو عرفوا حقيقته .

    الرحالة العرب :
    تكاد دوافع الرحالة العرب والمسلمين الى شمال الجزيرة العربية تنحصر في الحج والعمرة ،ونظرا لاهتمامهم بالطرق المؤدية إلى الحرمين فقد تحددت المواقع التي تحدثوا عنها في طريقي الحج الشامي : بادية الشام إلى القريات في وسط الشمال ، أو إلى معان غرباً، ومنهما إلى المدينة المنورة ، وطريق الحج المصري بحراً إلى الموانىء التي تقع إلى الشمال من المدينة المنورة ، أو براً إلى العقبة ، ومنها جميعاً إلى المدينة المنورة .
    غير أن ثمة من قصد شمال شبه الجزيرة العربية لأغراض أخرى كأن يكون ذلك لأغراض البحث والدراسة كرحلات الشيخ حمد الجاسر ، وابن خميس وابن بليهد وغيرهم ، أو بقصد المتعة للصيد والنجعة ، أو فراراً من عدو يطارده ، كما فعلت بعض العشائر الدرزية بعد دخول الفرنسيين دمشق على نحو ما تقدم ، أو كما فعل بعض أعيان العرب حين التحقوا بشريف مكة عندما أعلن الخروج على سلطان بني عثمان ،على نحو ما نجده في خبر عز الدين التنوخي وجلال الدين البخاري حين فرا من الجبروت الطوراني(1)، حذراً من التجنيد في الجيش التركي(2) .
    ويحدثنا الشيخ حمد الجاسر عن المصادر التي استقى منها مادة معجم الجغرافي للبلاد السعودية شمال المملكة(3) ، فيقول في تحديد المصدر السابع :
    (( قمت برحلات زرت خلالها أشهر المدن والقرى ، وجلت في أكثر جوانب البلاد التي كتبت عنها ،واستعنت بكثير من أهلها في تحديد المواضع التي لم أزرها )) .
    ويقول في مقدمة المعجم الجغرافي التي تحوي أسماء المدن والقرى وأهم موارد البادية منوهاً بجهود العلماء الذين أسهموا فيه:(فقد سلكوا طريقاً غير ممهد حين قاموا بجمع مواد مؤلفاتهم معتمدين على مشاهداتهم الخاصة أثناء رحلات مكررة في المناطق التي تحدثوا عنها(4) .
    ومهما يكن من أمر ،فإن أغراض الرحالة العرب لا تخرج عما فيه مصلحة عامة أو خاصة ، ويمكن أن تندرج أغراض الرحالة الأجانب في هذا الباب لولا ما صرّح به بعضهم من دوافع التجسس على البلاد والعباد ، ولولا الأساليب الملتوية التي كانوا يلجئون إليها في التمويه على أهل المنطقة .


    المواقع والبلدان :
    تعددت المواقع والبلدان في أعمال الرحالة على نحو كبير ،وذلك باختلاف المناطق التي زاروها وتحدثوا عنها ، ويمكن حصرها في ثلاث مناطق رئيسية هي :
    ساحل البحر الأحمر من ينبع إلى العقبة .
    الطريق الداخلي من المدينة المنورة إلى العلا فتبوك .
    الطريق الداخلي أو من المدينة المنورة إلى خيبر فتيماء فتبوك إلى معان
    منطقة الجوف أو قريات الملح .
    والرحالة الذين رصدوا أعلام طرق الحج لم يجتهدوا في وصف ما عداها ،بل كانوا يقفون عند معالم الطريق ومنازلها ، والاختلاف في كتبهم يتمثل في حديثهم عن هذا الموقع أو ذاك ، مما نزلوا فيه فأفاضوا في وصفه ،أو مروا به مسرعين دون أن تتاح لهم الفرصة لتعرّفه بشكل يعرّف به ، على نحو ما نجده في الرحلات القطارية عبر الخط الحديدي الحجاز من معان الى المدينة المنورة ، إذ كانوا مرتبطين بمواعيد القطار وظروف مسيره .
    أما الرحالة الذين جابوا الفلوات ، وتوغلوا في البلاد خارج الطرق السالكة ،فهم أقل من ذلك ، ولم نجد منهم من فعل كما فعل المتنبي حين اضطر إلى الفرار من مصر كافور عبر درب الشعوى في سيناء إلى حسمى فبسيطة فالجوف فالكوفة فكان كذلك الراجز إذ قال :

    ومهمين قذفين مرتين
    قطعتهما بالسمت لا بالسمتين

    أو كقول لبيد :

    إني اهتديت وكنت غير رجيلة
    والقوم قد قطعوا متان السجسج

    أو كذلك الذي كان هاديه في سراه النجم فقال : أمّا بكل كوكب حريد .
    وإن جهود الرحالة في الآونة الأخيرة تأرجحت في شدتها ومداها بمقدار ما كانوا ينقطعون في المجاهيل ، وبحسب نوع الركوبة إذ قد تكون سيارة تخفف عنهم العناء ، وتقطع بهم المسافات الطويلة بأضعاف سرعة الناقة ، وبحسب مدة الإقامة هنا أو هناك بين الأعراب ومع الأدلاء.
    ومن الرحالة من توجه إلى مكان بعينه يبحث عن أشياء محددة كما فعل جون فلبي في أرض الأنبياء ، إذ توجه إلى مدين بهدف البحث عن النقوش ، لا سيما ما كان منها لعلاقة باليهود ، ومنهم من كانت بغيته مظانّ الماء والنفط والمعادن ، وبذلك كان طوافهم في الأماكن الخاوية ، والتي لا اسم لها ، بل لا حاجة لهم في اسمها إذ غالباً ما يستخدمون الأرقام والرموز للتعريف بها ، كما فعل الإنجليز على الطريق بين الأردن والعراق إذ سموا موقعاً بH4 وأصبح على لسان العامة من بعد الجفور أو الجفر وH5 .
    أما الرحالة السعوديون أمثال حمد الجاسر وابن خميس والبلادي فقد اجتهدوا في رصد المواقع المختلفة التي قصدوها ، غير أنهم لم يقفوا بكل مكان ذكروه أو ذكره غيرهم ،إذ اكتفوا أحيانا بتحديد ناحيته على نحو ما أذاع به الشيخ حمد الجاسر(1) ، مما قد يعترض القراء في هذا الجزء من أمور غير مريحة كإيراد "أسماء مواضع مع ما ورد فيها من النصوص بدون تحديد تلك المواضع ،غير أنني (حمد الجاسر ) وقد حددت الناحية التي ظهر لي أن الموضع يقع فيها قربت للقارئ الأمر ، وبدلاً من يتيه في بيداء (بين البصرة ومكة ) أو (في جزيرة العرب ) أصبح من الميسور له البحث في جزء ضيق محدود من الأرض ،قد يتهيأ له من الوسائل للاهتداء إليه أقوى مما تهيأ لي".
    ومن هنا نستطيع أن نجزم بأن هناك مواقع مما ورد في آداب العرب وأخبارهم قديماً وحديثاً لم يصل إليها الرحالة ، ولا يفترض فيهم أن يبلغوا كل موقع ، ولا أن يرصدوا ما فيه ، إذ لا طاقة لأحد بذلك إلا إذا أنيط العمل بهيئة متخصصة تمسح الأرض مسحاً وتزود بالأسباب اللازمة لذلك.
    وكثيراً ما حاكم الرحالة العرب المحدثون كتب المتقدمين كالبكري وياقوت ،ومن ذلك تعقيب حمد الجاسر على ما أورده موزل(2) فقال "يرجح رأي موزل وإن كان خلاف الظاهر ، إذ لم أر فيما أطلقت عليه أن كلمة العمود يقصد بها هذا الموضع قبل قول موزل " ويقول حمد الجاسر في موضع آخر(3) معقباً على رأي موزل " وأوضحت رأيي حيال تحديد موزل للغمر ". ويقول في موضع ثالث(4) "ولكن قول موزل هذا لا يتفق مع ما جاء في كتاب " بلاد العرب"(5) من أن : زبالة على مثقب طريق الكوفة " .
    ومن قبيل ما تقدم قول التنوخي(6) في معرض حديثه عن الطوير "وكأنها تصغير طور ، لم يرد اسمها بين القريات التي ذكرها السكوني " وجاء في الهامش (4) "ولا غيره من المتقدمين ". ومنه أيضا قوله في ميقوع (اليوم )(7) "وميقوع لم يرد بهذا اللفظ في معجم البلدان ، وإنما ورد موقوع .... فإن كان مصحفاً عن موقوع ، وهو غير بعيد ، عرفنا أن في جزيرة العرب ماء غير واحد باسم موقوع ..".

    وصف المواقع والبلدان :
    يجد المطالع في كتب الرحالة العرب والغربيين على حد سواء ،اهتماما كبيراً بوصف المواقع ،ويرد ذلك في كثير من الأحيان من خلال ما يلي :
    _ ذكر خبرها في كتب المتقدمين .
    _ تحديد مواقعها بأمارات خديثة .
    _ وصف المواقع جغرافياً
    _ ذكر ما فيها من آثار وعمران .
    _ بعض العادات والتقاليد والأخبار مما يتعلق بسكانها .
    وفيما يلي نورد مثالين لتوضيح ما تقدم ، يقول الشيخ حمد الجاسر:
    عيون القصب ؛ :قال البكريُّ الصديقي في رحلته : ثم سرنا - من مغار شعيب - إلى عيون القصب إذا نظر إليها العاجز ذهب عنه الوصب ، لأن خضرتها نظرة ، والأشجار بها منتظمة ومنتشرة ، وقال الشاعر :

    قد وصلنا لعيون القصب
    فجلسنا في صفاء حولها
    وتشوقنا لشاد مطرب
    واستراح القلب بعد النصب
    وظفرنا عندها بالأرب
    يتغنى بعيون القصب

    ورأينا مجاوراً لتلك العيون ، نسوة من العرب يوصفن بحسن العيون ، ويتعاجبن بظفائر الشعور ،فيمتعن من عقل الحب كل الشعور ، كأنهن أقمار ،أو كأنما نبتت في وجناتهن الأزهار ، فكان قطع المفاوز والأوعار كالتنزهات في الرياض والأزهار . قال الشاعر في بدوية اسمها ساكتة :

    بروحي أفدي ظبية بدوية
    إذا رمت منها أن تكلمني غدت
    لها وجنة فيها الأزاهير نابتة
    تكلمني ألحاظها وهي ساكتة

    - ومد ة السير إليها أربع وثلاث من الدرج .
    وقال ابن فضل الله العمري : عيون القصب عيون سارحة ضعيفة المنبع ، ينبت عليها القصب ، وماؤها لا يستطاب وإن كان عذباً . انتهى
    وقال الجزيريّ عنها : والبحر الملح قريب منها وربما ترسو عليها الزعائم لبيع الغلال على أهل الركب وغير ذلك في الغالب ،وماؤها المورود خارج الوادي،جار على نخيل وخضروات ، وقصب فارسي وشجر من المقل ،وهو سريع التغير إلى العفونة ، يصلح للغسل والاستعمال. ثم نقل عن السلوك للقريزي أنه في سنة 834 حفر القاضي عبد الباسط زين الدين ناظر الجيوش في القاهرة بيراً بعيون القصب عم النفع بها . وقال المقريزي : أدركت بعيون القصب يخرج من بين الجبلين ماء يسبح على وجه الأرض ،ويرتفع حتى يجاوز قامة الرجل في عرض كبير ، فإذا نزل الحجاج أقاموا يومهم على هذا الماء، ثم انقطع وجفت الأعشاب ،فصار الحجاج إذا نزلوا حفروا حفائر يخرج منها ماء ردئ إذا بات في القرب ليلة أنْتن ، فاغاث الله العباد بهذه البئر ، وخرج ماؤها عذبا ـ ثم أضاف الجزيري : قد أعاد الله ذلك الماء الجاري ، والأقصاب والنخيل على أحسن عادة ،ولم يحفر أهل الركب الآن شيئا من الحفائر ، ولا أدركنا ذلك ، والبئر المذكورة لا وجود لها ،وأما تغير الماء بالسرعة ،فهو باق على حاله ،وذلك بواسطة ما يكدره من المنابت . انتهى .
    وذكر أن مجرى عيون القصب داخل الوادي يسمى المغيسل . وأن مضيق عيون القصب يسمى القرقف تحت الحدرة ،وأن دركها باسم فينان بن عتيق بن داود بن رسال من السريرات من بني عقبة ، وأن بمحطة الركب من عيون القصب قبر الشيخ إبراهيم بن موسى الأبناسي توفي سنة 802 ودفن على ممر الحاج . وقد ترجمه المقريزي في "درر العقود الفريدة ،في تراجم الأعيان المفيدة" .
    وقال السيد كبريت : عيون القصب ، وهي مقصبة ينتهي إليها ماء من عين جارية من مسافة طويلة ، على نخيل باسقة ، وأشجار متناسقة ،قد يؤتى منها بأثمار فتباع على الركب ، وقد انقطع ذلك لانقطاع عوائد العرب من صلات السلطنة ،فلذلك ارتفعت العرب ، وصار الوادي مخيفاً ، وماؤه في غاية العذوبة ،يجري من بين القصب الفارسي من أعلى صخرة ثمة ، على ظهر الوادي بمقدار ميل ، ثم يغور في الرمل ، وزعم بعضهم أنه ثقيل سريع التعفن ، يكره الإكثار منه . قال الحافظ ابن حجر في كتاب "إنباء الغمر" : في سنة 834 حفرت بعيون القصب بئر عظيمة فعظم النفع بها ، وكانت عيون القصب تجري من واد عظيم ينبت فيه القصب الفارسي ويجري الماء من بين تلك الغابات ، وكان للحجاج به رفق ، بحيث يبيتون به ليلة ، ثم غمرت تلك العيون ، وصاروا يقنعون بالحفائر ،فاشار ناظر الجيش لما حج بحفر البئر فخرج ماؤها عذبا فراتاً .انتهى .وقد أجرى الله عوائد بره وعاد الماء الى مجاريه . انتهى كلام السيد كبريت .
    ووصفها فلبي ـ لما زارها سنة 1951 ـ فقال ما تعريبه : سرنا من قرية الخريبة بحذاء الضفة الشمالية في الوادي فوق أرض صخرية ، حتى وصلنا بساتين نخل عينونة، بعد أقل من عشر دقائق ـ المسافة بين 2و3 أميال ـ ويبدو أن عينونة كانت ذات أهمية مرموقة،إذ تقع في مركز (إستراتيجي ) يمتد على شكل رفيع من الأرض ،ويقطعه الوادي ، عبر مجرى من الصخور الجيرية، ومن هذا المجرى تتفرع جميع الطرق المؤدية إلى السهل والتي تنفذ إلى البحر ، أما جدول الماء الجاري الذي يأتي من منطقة مخيمنا . على بعد نحو 3 أميال من الخريبة ، فلا يصل إلى ابعد من الأرض الرملية الشاسعة في الوادي المقابلة للبحر من سلسلة المرتفعات ،ووجدت عند كتف الضفة اليمنى خرائب قرية كبيرة تمتد نحو 500 ياردة ،على طول قمة الصخور الجيرية في عرض 250 ياردة وهناك خرائب أخرى تدعى مغاير الكفار،وهذه تقع على ضفتي الوادي على مسافة تقرب من ميل واحد عن النخيل ،وهي على الضفة اليمنى في موقع مساحته 500 ياردة طولاً في عرض 100 ياردة،وفوقها صخور تشكل سدا طبيعيا للوادي لا يزيد ارتفاعه عن بعضة أقدام.وفي نهاية الصخور على الضفة اليسرى خرائب حجرية قديمة ،وأكواخ القرية المصنوعة من سعف النخل القريبة من الشريط لا تسكن إلا أيام جني التمر انتهى .
    وسبقت الإشارة إلى أن عينونة تدعى عيون القصب وغاير بينهما الجزيري في درر الفوائد المنظمة فقال عن المسالمة من بني عقبة : هم أصحاب درك البحر، ولهم من البر جانب البحر فقط بعيون القصب ، وحدد دركهم من جزيرة عينونة المتصلة بالبحر الى ما جاور قبر الشيخ مرزوق الكفافي ، والى الغرب من حدرة دامة آخر درك بني عقبة ، فهو يطلق اسم عينونة على جزيرة ، والظاهر أن تلك الجزيرة ـ أو الطرف من البحر هو الذي احتفظ بالأسم الذي كان يشمل عيون القصب وما حولها .
    وقال محمد بن محمد النويري المكي (827 ـ873 ) :

    رأيت بشاطي البحر يا خل وادياً
    تراه لجيناً والزمرد عشبه
    وأعجب من ذا يا خليلي نسيمه
    به جمعت كل اللطائف والعجب
    وأزهاره قد صاغها المزن من ذهب
    يبدل هم الصب والحزن بالطرب

    ومما قيل في العيون :

    قصب الوادي هبوا لي ماؤه
    وقفوا بي برهة يا رفقتي
    ومن شعر النابلسي في عيون القصب :
    فتح الله عيون القصب
    ففؤادي فيه حر الوصب
    أتروى من عيون القصب

    بلطيف من زلال عذب

    وهذا نموذج من رحلة بيرتون 1/185ـ187يتحدث عن ينبع :
    لقد حاق الضرر بقدمي بسبب حرارة الشمس والرطوبة العالية ، وابتلالها تباعا بمياه البحر،لدرجة أنني عندما وصلت الى ينبع لم أكن بمستطيع - إلا بالكاد - أن أضعها على الأرض . إلا أن واجب الرحالة هو أن يتجول ويرى ، ولذا فقد اتكأت على كتف عبدي . وشرعت ذات مرة في رؤية ينبع بينما اتخذ الشيخ حامد وآخرون من رفاقنا سبيلهم إلى الجمارك .
    وينبع البحر (ينبع تعني ينبوعا أو نافورة) التي عرفها بروس في رحلته الحبشية بأنها قرية يمبيا البطلمية، لها موقع ذو أهمية كبيرة ، وتشترك مع مواقع أخرى في أنها بوابة للديار المقدسة.وتقع ينبع البحر عند ثلاثة أرباع المسافة من القاهرة إلى مكة المكرمة بطريق القوافل . وفي ينبع - كما في بدر - يترك الحجاج بضائعهم وحاجاتهم الثقيلة جداً التي يصعب نقلها في عجلة في مخازن يستأجرونها،كما يتركون أيضاً حاجياتهم الثمينة التي يصعب المخاطرة بنقلها معهم في الفترات التي ينعدم فيها الأمن . ولكون ينبع ميناء المدينة (المنورة) - كجدة التي هي ميناء لمكة (المكرمة) - فإن بها تجارة نقل معتبرة،وتجارة استيراد كبيرة من موانئ غرب البحر الأحمر ، تزود مدن الحجاز الرئيسية بالغلال والتمور والحناء . وهنا (في ينبع ) يفترض أن تبدأ هيمنة (سيادة) السلطان ، وتنتهي سلطة باشا مصر . ولا يوجد جيش نظامي على أية حال في ينبع،فالحاكم هو الشريف أو أحد الشيوخ العرب . وقد قابلت الشيخ العربي أو الشريف في السوق الكبيرة . وهو شاب وسيم خفيف الظل ذو لباس جميل وعمامة كشميرية ، ومسلح بسيف وخنجر ، ويتبعه عبدان زنجيان ذوا بنيتين ضخمتين ، ولهما نظرات نارية قاسية ويحمل كل واحد منهما نبوتاً رهيباً.
    وينبع ذاتها ليست ملفتة للنظر فهي مبنية على حافة سهل سفعته الشمس يمتد بين الجبال والبحر . وتواجه الطرف الشمالي لخليج ضيق ومتمعج (ملتو) . وتبدو ينبع من الميناء خطا طويلا من المباني ظهر بياضها الشاحب مقارنة بلون السماء الفضي كالكوبالت، وزرقة البحر الشديدة كلون النيلة ، وخلفها مسطح من الأرض ذو لون أسمر داكن أو بني ، وجانب من هذا المسطح ذو لون أسمر مصفر مفعم بالحيوية ، أما خلفية الصورة فيمثلها جبل رضوي ذو المنظر الكئيب إنه حقاً : قاحل عار قبيح خال من الجمال .
    وخارج أسوار ينبع ، توجد قباب قليلة وقبور تلفت النظر . أما داخل المدينة (ينبع) فالشوارع عريضة والمساكن متباعدة إلا بالقرب من الميناء والأسواق حيث يزداد سعر الأرض . وقد شيدت المساكن بشكل بدائي من الحجر الجيري والأحجار ذوات اللون المرجاني ، وأسوارها مليئة بالأحافير ومثقبة كفطيرة اللوز . ولهذه البيوت نوافذ ضخمة مرتفعة . لا تقل سقما عن نوافذ أحياء المسلمين في القاهرة . وفي ينبع شارع السوق حيث يتخذ شكله المعتاد فهو عبارة عن شارع ضيق مسقوف بسعف النخيل ، وبعضه دكاكين قليلة على جانبي الطريق ، وهذه الدكاكين تمثل جزءا من بيوت أصحابها . وقد وصفت في الفصل الأخير مقاه شبيهة بما هو موجود هنا. فقد تحولت هذه المقاهي إلى كتل من القذارة بفعل المسافرين المترددين عليها ، ومن المحال أن تجلس في إحداها دون أن يكون معك مروحة أو مذبة لتذب الذباب بعيدا عنك . وتواجه مصلحة (مركز) الجمارك موضع رسو السفن في الميناء ، ويديرها مسئولون أتراك يضعون الطرابيش على رءوسهم يقضون نهارهم كاملاً متكئين على الأرائك إلى جوار النوافذ . وبالنسبة لنا نحن المسافرين فإن مسئولي الجمارك الترك الآنف ذكرهم لم يبذلوا إلا جهدا يسيرا إذ فرضوا على كل صندوق كبير ، ثلاثة قروش ، ولم يعفوا أنفسهم من العبث في محتوياته .
    وتفخر ينبع أيضا بحمامها ، وهو مجرد ظلة من سعف النخيل يستأجره تركي عجوز ، يتعيش هو ومساعده الألباني الفظ من غسل الحجاج والمسافرين وتنظيفهم ، أما بقية المباني العامة فتتمثل في بعض المساجد ذات المعمار البسيط مطلية باللون الأبيض ، ووكالة أو وكالتين الاستقبال التجار ، وقبر أحد الأولياء .
    ولينبع أن تتباهى على معظم مدن شمال الحجاز في أمر واحد ، إذ يمكن لأهل ينبع أن يقدموا ماء المطر العذب الفاخر الذي يجمعونه من بين التلال ، حيث يتجمع في خزانات ، ويحملونه على ظهور الإبل إلى البلدة ، وتحظى مياه عين البركة وعين علي بثناء الناس هنا ، ومياههما تكفيان كل أهل ينبع . أما مياه الآبار التي تعتريها الملوحة فتستخدم لأغراض أخرى غير الشرب .
    وبعض العجائز هنا - كما في السويس - يقال إنهم يفضلون الشرب من مياه الآبار المالحة بحكم تعودهم عليها ، حتى أنه ليقال على سبيل الفكاهة ، إنهم إذا ذهبوا للقاهرة أضافوا لماء النيل ملحا ليجعلوه مستساغاً . وسكان ينبع يفاجئون عيون المسافر القادم من مصر ، لأنهم يمثلون ظاهرة جديدة بالنسبة له بالتأكيد .
    وهذا نموذج من الرحلة التنوخية(1) (30 ) يتحدث فيه عز الدين التنوخي عن وادي السرحان ؛ فيقول :
    لم يرد له في معجم البلدان ذكر ، وهو مضاف إلى قبيلة السرحان ، وربما كان في القديم مضافا إلى غيرها ، وهو ممتد من قريات الملح إلى قرب دومة الجندل . وأرضه رملية منبسطة يغشاها أحياناً بساط خفيف من حصى المرو والصوان وبعض الآكام . ويجد الوادي شمالاً سلسلة من الجبال التي تبدو حمراء للركبان ، وهي لا تعلو عن سطح الأرض كثيراً . وهذا الوادي لا يظمأ مرتاده لكثرة آباره ، ولذلك تختاره القوافل السيارة بين الجوف والشام.
    وكنا نرى أثناء سفرنا في هذا الوادي آثار الضباع والغزلان والمها ، ومن الطير آثار النعام والحبارى. وبالبدو قرم إلى لحوم الحبارى التي يصطادونها بالصقور . ورأيت أسراباً من الطير كالحجل ، فأردت أن أسال البدو عنه ، فسمعت صوته وقد كاد أن ينطق: قطا. قطا . قطا . بحروفها ، فغلب على ظني أنه القطا بعينه ، ثم سالت بدويا كان يحاذيني من الركب عن اسمه فقال : القطا ، فصرت أترنم بالبيت الذي يستشهد به النحاة في إنزال ما لا يعقل منـزلة العاقل ، وأنادي كمجنون ليلى القطا حنينا إلى دياري وشغفاً بحب سكانها:

    أسرب القطا هل من يعير جناحه

    لعلي إلى من هويت أطير

    ثم تعود ثانية وتقطقط فأذكر قول الشاعر:
    " يا حسنها حين تدعوها فتنتسب "

    إشارات اجتماعية وجغرافية :
    حفلت كتب الرحالة ، ولاسيما الأجانب ،بالإشارات الاجتماعية المختلفة ، أما الجانب الجغرافي فالجميع فيه تقريبا سواء ، ونعتقد أن اهتمامهم بالجانب الاجتماعي يعود إلى التباين الكبير بين مجتمعاتهم الأصلية والمجتمع العربي بوجه عام ، لا سيما الفئات التي تقيم في المناطق التي زارها ألئك الرحالة ، إذ هي في الغالب مناطق مأهولة بالبدو . وثمة عاملان آخران أسهما في تركيز اهتمامهم بالشؤون الاجتماعية هما أن كثيرا منهم كان يستهويهم ما يجدون الناس عليه ويستطرفونه ، وأن منهم من كان يهدف من وراء ذلك إلى دراسة المجتمعات العربية لتقديم النتائج إلى جهات سياسية لتضع الخطط المناسبة للتعامل مع هذه المجتمعات ، ومحاولة غزوها من كل باب ممكن، سواء صرحوا بذلك أم لم يصرحوا .
    وقد انتهج بعض الرحالة العرب منهج الرحالة الأجانب في رصد الظواهر الاجتماعية من عادات وتقاليد وأخبار ، كما فعل محمد رشيد رضا وشكيب ارسلان وعز الدين التنوخي ، ومرجع ذلك في ما نرى الى اختلاف نمط حياة هؤلاء الرحالة عن نمط الحياة في شمال الجزيرة العربية مما جعله يستهويهم ويلفت إليه أنظارهم واهتمامهم يقول عز الدين التنوخي في حديثه عن الهزيم بعد أن عرّف به وبموقعه(1) : وماء هذه القلب شروب غير بعيد الغور ، وإنما يتراوح ما بين طول الناقة والقناة ، ويمتزج بأبوال الإبل الواردة ، فتعزف نفس الحضري عن شربه فيشربه مضطراً . وقد ورد ذكر الهزيم في معجم الحموي بأنه موضع في قول عدي بن الرقاع حيث قال :

    أخبر النفس إنما الناس كالعيـ
    من ديار غشيتها دارسات
    ـدان ما بين ثابت وهشيم
    بين قارات ضاحك فالهزيم

    وبين الهزيم ودمشق ما ينيف على 200كيلومتر ، وفيه لبثنا يومين والثالث الأضحى ، ويعلنون مساء عرفة يوم العيد بإطلاق الرصاص من كل صوب ، وصباح عيد الأضحى يضحون كثيرا من الإبل ، وتراهم يدعو بعضهم بعضا .
    ومن عادة الفقراء هذا اليوم أن تأتي امرأة أحدهم بِقِدرها للبعير المضحى ، وتقطع منه قدر الحاجة ، وتطبخه أمام بيت رب الضحية ، ولا تحمل قدرها إلا نضيجا ، وقد راجت في هذا اليوم سوقنا لاضطرارنا لإجابة دعوة كل من ضحى ، فكنا احتياطا من النتافين نأكل من كل ضحية نتفه ،وإذا أَكْرَمَنا المضحي فبتقديم السنام المقطع ، والسنام في نظر البدوي أسنى قيمة من فخد الخروف الطري لدى الحضريين ، وكان هؤلاء المضحون يطلبون منا قبل غسل الأيدي من الطعام أن نقرأ لأرواح أمواتهم الفاتحة.
    وما راقني في الهزيم إلا غناء الماتحين (المستقين بالدلو) الرخيم ، وهم يسقون إبلهم الخوامس الهيم ، ويدعون هذا الغناء "الحدو"، وهو الحداء يحثون به النوق على الشرب ، كما تحث به على السير . وقد ورثوا هذه العادة ، ولا ريب ،عن أجدادهم الذين كانوا يغنون لإبلهم حين المتح بأنواع الرجز ، وهي الأبحر السهلة التي تناسب الحركة كالسير ونقل الأثقال والرقص والمتح والصراع والقراع ، وذلك مما عابه الشعوبية على العرب ، وقد أتى الجاحظ في الرد عليهم بفصل الخطاب .قال في صدر الجزء الثالث من البيان والتبيين : "وكل شئ للعرب فإنما هو بديهة وارتجال ، وكأنه إلهام ، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ،ولا إجالة فكر ، ولا استعانة ، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام والى رجز يوم الخصام ، أو حين يمتح على رأس بئر أو يحدو ببعير أو عند المقارعة والمنافلة ، أو عند صراع أو في حرب ، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذهب ، وإلى العمود الذي إليه يقصد ، فتأتيه المعاني إرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً".
    أما الرحالة السعوديون فقلما يعرضون إلى مثل هذه الأخبار ، لأنهم لا يستنكرونها ، فهي مؤلوفة لديهم معروفة عند بعضهم، غير أني وجدت الشيخ حمد(1) يشير إلى شئ من ذلك في معرض حديثه عن وادي العشاش إذ قال : وسألت صاحب كان هناك عن اسم المكان فقال :وادي العشاش ... فقلت : أما له اسم غير هذا ؟ فقال: بحدة وشدة تطلّع : ما جاز لك . فقلت : بلى، ولكن زيادة معرفة ، فنظر لي شزاراً وقال :أنت وراك علم وش لك باسم هذا الوادي ؟ وهكذا حالة كثيراً من أبناء البادية ، يقفون موقف المستريب من كل سائل ما لم يعرفوا غايته .
    ونجد موقفا شبيها بهذا عند ولفرد ثيسجر(2) في معرض حديثه عن دليله عبر بحر الرمال في الربع الخالي ، وآخر عند بيرتون(3) حيث قوله : وهناك نجد البدويمشون باختيال متجهمين ، على وجوههم سيماء التوجس كسائر أهل الصحراء ...". وقريب مما تقدم ما نجده في الرجلة التنوخية من قول عز الدين(4) : "على الحضري المتبدي ، سيما إن كان شريداً أو طريداً ، أن يتجلبب في البادية بجلباب الفقر والإعدام، وأن يعمل بنصيحة ذلك الرحالة المجرب القائل: "إذا سافرت فأخف ذهابك وذهبك ومذهبك...".
    وتفيض كتب الرحالة الغربيين بالإشارات الاجتماعية على نحو عريض ، وقد نستشهد لذلك بشيء مما قدم به مترجم رحلة بيرتون ، عبد الرحمن عبد الله الشيخ ، من قوله(5) : وأخيراً فهذا فهو النص الكامل للرحلة ما منه شيئاً ، زاخر بالتاريخ الاجتماعي والتفاصيل الطريفة .." .
    ونورد في ما يلي نصاً مطولاً للشيخ حمد الجاسر (6) عن قرية "كاف" مستعرضاً فيه خبر الرحالة الإنجليزية آن بلانت عندما زارت هذه القرية في سبتمبر سنة 1879(1297هجري) فكتبت عنها : كاف قرية صغيرة لطيفة لها طابعها الخاص ، متميز تماما عن أي شئ يراه المرء في سورية .وكل شئ نموذج مصغر ، الستة عشر بيتا المربعة الصغيرة . والأبراج الصغيرة ذات المشارف ،والأسوار بمشارفها ، بارتفاع (7) أقدام - والسبعون أو الثمانون نخلة في بستان يروى من آبار . وبعض أشجار حسبتها في البداية سرواً ثم اتضح لي أنها نوع من الأثل .
    ومع أنها مَحَلٌّ صغير جداً فإن " (كاف) ذات منظر فريد مزهر ، فكل شئ هناك أنيق . وفي إصلاح حسن . ولن تجد شرفة واحدة مكسورة . أو بابا خارجا عن مفصلاته ، كما هي الحال بكل تأكيد في سورية . وهناك أيضاً عدد طيب من صغار النخيل غرست بين النخلات الكبيرات . وشجيرات تين حديثة وكروم . وأشياء قل أن تجدها في الشمال .
    والناس لطاف المنظر ،حسنو السلوك ، ولو أنهم في البداية أفزعونا قليلاً بطوافهم والسيوف في أيديهم . وهذه يحملونها منكسة على كلا الكتفين ، أو يقبضون على غمدها بكلتا اليدين . أشبه كثيراً بما يشاهد المرء في الأشكال المنقوشة على الصخر لشهداء العصور الوسطى ، أو في صور المجاهدين (الصليبيين) .
    استقبلنا عبد الله القاسم شيخ القرية ، الذي إليه حملنا رسالة من حسين بأدب عظيم . ونظفت غرفة في بيته من أجل استعمالنا ، وككل الغرف الأخرى فتح بابها على الفناء الذي في وسطه ربط فلو عمره سنتان ، وكانت غرفتنا مخزناً للوقود ، كما كانت بدون أثاث من أي نوع ، ولكننا اغتبطنا أن نجدها بدون سكان أيضاً ، والهندسة المعمارية هنا بسيطة جداً . مجرد جدران من الطين بلا شبابيك أو فتحات من أي نوع ،باستثناء ثقوب مربعة قليلة ، قريبة من السقف ، وكان السقف من عمدان من الأثل ، بقواطع من النخل تملأ ما بينها فروع النخل ، وتسمى الغرفة الرئيسية (القهوة ) أو غرفة القهوة . وفيها يوجد موقد مربع في الجانب أو في الوسط . لصنع القهوة ، ولا توجد مدخنة ، ويخرج الدخان كما يستطيع ، لكن هذا ليس غير مريح كما قد يتبادر إلى الذهن . لأن احتراق الحطب هنا له لهب جميل . ويعطي أقصى حرارة بأدنى قدر من الدخان ، إنه (الروثة) الغضا - نوع من الأثل - ويجلس الناس حول الموقد . بينما يجري صنع القهوة إجراء صامتاً ، يستغرق نصف ساعة تقريباً ، وبمجرد وصولنا أحضرت فدرة من التمر من محصول العام الماضي ، وهو لزج ومهروس ،لكنه طيب ، وفي المساء تناولنا عشاء معتاداً مكونا من البرغل ولحم الدجاج المسلوق . إننا مندهشون جدا من الأدب الذي عليه كل فرد ، فعبد الله مضيفنا سألنا ، على الأقل عشرين مرة ، عن صحتنا قبل أن ننتقل من شيء إلى آخر ، ولم يكن من السهل أن نجد ثناء مناسباً للرد، وكل شيء بالطبع بائس وبسيط ، ولكن المرء لا يملك إلا أن يحس أنه بين قوم متحضرين. وقد أكثروا من اللجب مع محمد الذي يعاملونه كشيخ ، و(تدمر) معروفة بالاسم جيد ا، وتعتبر على هذه المسافة مدينة هامة ، ووجود إنسان في مركزه يقوم بعمل شبه خفير - كالذي يقوم به محمد معنا - يعتبر مفاجأة كبيرة ، ولهذا وضع موضع استجواب مهذب في المساء فيما يتصل بالباعث وراء رحلته.
    لم يشاهَد (الفرنج) قط في (كاف) من قبل ، هكذا يقول الناس ، وهم لا يفهمون الاحترام الذي يقابل به الأوروبيون في أماكن أخرى ، وعلى أية حال فقد شرح لهم محمد أخوّته مع (البيك) واحتج بأن رحلته هي رحلة ترفيه ، لا رحلة من أجل الربح ، حتى نعامل بنفس القدر من البشاشة كما لو كنا عربا بالولادة ، وكان عواد الشمري ذا فائدة عظيمة لنا ، من حيث أنه معروف جيداً هنا فيقوم بدور التقديم .
    وكاف مستقلة تماما عن السلطان ، ولو أن العساكر الترك نهبوها مرتين ، مرة بقيادة إبراهيم باشا ، ومرة ثانية منذ بضع سنين ، فقط عندما أرسلت حكومة دمشق حملة عسكرية إلى وادي السرحان ، وشاهدنا خرائب قلعة قصر الصعيدي ، على تل فوق البلدة ، هدمها السابقون - جنود إبراهيم باشا - وسمعنا كثيراً من النواح حول أعمال الآخرين .
    وسكان كاف يعترفون بأنفسهم بأنهم رعايا لابن رشيد ، رئيس جبل شمر . وكان بعض قومه هنا منذ أيام قليلة فقط ويأخذون الأتاوة ، وهي مبلغ صغير ، مجيدي (4 جنيهات إسترلينية ) وهم يدفعونها بابتهاج مقابل حمايته لهم ، وهم متحمسون جدا للأمير كما يسمونه ، وحقاً ليس هناك من سبب حتى يرغبوا في الانضمام إلى سورية .
    إن مدينة كاف الصغيرة وجارتها (إثرة ) حيث نحن الآن ، من الناحية التجارية لهما من الاتصال بالشمال أكثر من الجنوب، لأن ثروتها الأساسية كما هي الحال تنبع من تجارة الملح مع (بصرى) .
    ويبدو أن عبد الله القاسم ميسور الحال ، لأنه يملك عدة عبيد ، ولديه أكثر من زوجة ، إلا أن الفلو الذي أشرت إليه هو كل ما يملك من ذوات الأربع ، وكان سيأتي معنا - كما قال - لو كان له ذلول ، ولاحظت بضع جمال وحمير وماعز حول القرية . وكان مقبول الكريشة قد عاد ونحن نريد الآن أن نجد شرارياً ليأخذنا الى الجوف" .
    وأخيراً نورد ما ذكره والان الفنلدي في معرض حديثه عن قفار ، وقد زارها سنة 1845(1) : قفار على ثلاث ساعات سيراً حثيثاً من حائل في اتجاه غربي ـ جنوبي ، ولا تبعد عن أجا كثيراً ، وهي أكبر قرى المقاطعة،وقد تكون أغناها .لا يسكنها سوى بني تميم وحدهم . ويعدون حوالي خمسمائة أسرة والعجيب في اسم قفار أنه لم يذكر في الكتب التي استطعت الوصول إليها.
    وفي الطرف الشرقي من القرية آثار خراب من بيوت وأسوار طين ،تثبت أن السكان تحركوا مع الزمن غرباً ـ مقتربين من الجبل ، وقد احتفظ بنو تميم ببعض المميزات اللغوية ، وبملامح في وجوههم ، تميزهم بسهولة عن شمر ، وفي تجوال بين بدو الجهات الغربية من شبه الجزيرة كان هؤلاء يسألونني دائما - ومثلهم المصريون والسوريون - عن بني تميم وعن عاداتهم ولغتهم وقاماتهم وميزاتهم الأخرى ، وهم يبدءون بالسؤال عن حجم بني تميم ، وعما إذا كانت لحاهم أكثف وأطول ، ويبدو لي أن هذه الملاحظة تعود لمعنى كلمة (تميم) وكانت تطلق في الأصل القديم على رجل قوي البنية صحيح البدن ، وهذه الملاحظة تصدق في القبيلة المذكورة .
    والسكان الحاليون مزارعون فقط ، جدودهم في الأصل بدو ، ولا يتعاطون في النادر سوى التجارة ، ولا يشاركون شمر حروبهم وغزواتهم ، وأظن أيضاً أن ليس هنا بين البدو فرد منهم يعيش عيش البداوة ، وفي زمن الحصاد يجتمع حول قريتهم بدو من شمر وعنـزة لبيع ماشيتهم ومنتجاتها ، أو للمقايضة بالتمر والذرة ، ولأن في قفار أكبر مخازن التمر والذرة في المنطقة .
    والتجار المتجولون لا يزورون قفار ، لأن أبناءها يبتاعون مُتَرَفَّهاتِهِم - كالبن والتوابل والعطور - من سوق حائل ، وهم (ارستقراطيو) شمر ، ويميلون إلى التباهي والزهو ، والعطور مرغوبة ومستعملة بكثرة في نجد عملاً بسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
    وبنو تميم أحرص من الوهابين على تأدية الواجبات الدينية ، وتقواهم في الأرجح بسبب حجهم مراراً كثيرة ، في جماعات غفيرة إلى مكة ، ومع أنهم يعودون منها بما يستطيعون حمله من البضائع ، فهم يحجون في سبيل الدين لافي سبيل الكسب ، كما هي غاية شمر في الغالب .
    وباختصار ، فإن الدارس يستطيع أن يستخلص من هذه النصوص كثيراً من الملاحظات والفوائد التي تكشف عن اهتمامات الرحالة ، عرباً وأجانب ، كما تقدم صورة لشمال شبه الجزيرة العربية في كتبهم من النواحي الجغرافية والسكانية والاجتماعية والاقتصادية ، كما تحتفظ بين سطورها بكثير من الحقائق التاريخية والسياسية ، مما يجعلها ذات شأن عظيم في دراسة التاريخ الحضاري لهذه المنطقة .

    إن هذه المنطقة الواسعة التي تمتد بين المملكة العربية السعودية ، والعراق ، وسورية والأردن وفلسطين (بلاد الشام) ومصر ، لتمثل وحدة جغرافية واجتماعية منذ القدم ، وإنها بالرغم من افتقارها لأسباب الحياة في جل بقاعها ، إلا أنها مفصل الوصل بين مشرق الوطن ومغربه ، وهي - إلى ذلك - كنز الآثار ، أو هي المتحف الطبيعي المفتوح الذي لا تنتهي عجائبه ، ولا يتوقف مسلسل الدروس المستفادة منه .

    وقد نرى ، آخراً ، أن رحلات المستشرقين إلى المنطقة - وغيرها من أنحاء الجزيرة العربية - لم تكن محايدة ولا خالصة من أجل العلم ، على الرغم مما قدمته من حقائق وكشفته عنه من نقوش وآثار تنطق بما كان ، وتحكي سيرة أهلها ، وإن هذه الرحلات وما استند إليها من دراسات هي التي مهدت لظهور كتب من أمثال كتاب كمال الصليبي "التوراة جاءت من جزيرة العرب" ، فهل من شيء نفعله ؟

    المصادر والمراجع

    بيرتون - رحلته إلى مصر والحجاز ، سلسلة الألف كتاب (176) ج1 ، ج2 ، ترجمة وتحقيق عبد الرحمن عبد الله الشيخ . الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1995 .
    التنوخي ، عز الدين ، الرحلة التنوخية من الزرقاء إلى القريات ، جمع وتحقيق يحيى جبر / عمان
    1985 .
    - الجاسر ، حمد ، المعجم الجغرافي للبلاد السعودية ، (شمال المملكة) ، مطبعة نهضة مصر ، منشورات
    دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر ، الرياض ، 1397 / 1977 .
    جبر ، يحيى ، ما وراء اللغة - مجلة الدارة ، عدد سبتمبر / أيلول 1980 .
    تحقيق أعلام الطريق التي سلكها المتنبي في رحلته من مصر إلى الكوفة . قدم إلى الدورة
    الثانية والستين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة .
    المستشرقون سبقوا بالجريمة ، مجلة الوعي الإسلامي ، الكويت ،سنة 1984، عدد 239.
    الطيباوي ، عبد اللطيف ، المستشرقون ، ترجمة قاسم السامرائي . منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود . الرياض 1411/1991 .
    فلبي ، جون (عبد الله) . أرض الأنبياء ترجمة عمر الديراوي . منشورات المكتبة الأهلية ، بيروت ، ط2 ، سنة 1965 .
    قلوذيوس ، حنا لبيب ، قاموس اللغة القبطية ، القاهرة ، المطبعة الارثوذكسية ، د.ت .

     
  • Bookmark and Share Email
     
  • عصفور الشرق said...
  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اشكرك على المقال دكتور يحيى فقد اعجبنى جدااااا واود ان نتواصل فقد عملت على كتب الرحالة الاجانب فى العصور الوسطى فى الماجستير والدكتوراة واتمنى ان استمر فى ذلك وارغب كثيرا فى الاستفادة من حضرتك وخاصة فيما يتعلق بالكتب والمصادر الخصاة ببلاد الشام لعلى استطيع تقديم الجديد والنافع واذا اردت التواصل يمكن ارسال الايميل جزاك الله كل خير ومتعك بالصحة والعافية تمنياتى بالتوفيق
  • Tuesday, October 27, 2009
  • abrahimabrahim99 said...
  • طالب ماجستير تاريخ واكتب عن مدينة مدين وبحاجه الى مصادر المستشرقين والرحاله
  • Friday, July 1, 2011
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me