An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Tuesday, February 24, 2009
  • اللغة والحواس
  • Published at:Not Found
  • اللغة والحواس

    نشر ابتداء في مجلة رسالة الخليج التي يصدرها مكتب التربية العربي لدول  مجلس التعاون الخليجي

    أ.د. يحيى جبر

    نحو دراسات وأبعاد لغوية جديدة:

              الكلمة المفردة كائن حي ينمو ويتطور، واللغة بوجه عام عالم حي له حركته وألوانه، ورائحته ومذاقه وموسيقاه، وإذا كانت الأحياء البحرية والبرية، أصنافا لا تخضع لحصر، فإن الكائنات اللغوية تكثرها أو تكاد، وإن كان للأحياء أرواح، فإن أرواح الكائنات اللغوية دلالاتها، وحركتها معانيها. وإن كانت الأحياء شعوبا وقبائل وفصائل، فإن الآحاد اللغوية تنتمي إلى مواد وجذور وأسر كذلك.

              وسنعرض في هذا المقال لما تستجيب له اللغة من توجيه العقل والحس، فتتأثر به، وتمتاز بسمة تنسب إلى أحدهما.

              ولا نرمي إلى الحديث عن طريق الحسية، التي تسلك اللغة عبر قنواتها خلال عملية الاتصال والتلقي، مباشرين كانا أم غير ذلك، وفي اتجاه واحد أم في اتجاهين، وبهذا، فإن الحديث يختص ببيان المتحكم في تصنيف المسميات من حيث إدراكها، بالعقل ابتداء، أو بالحواس فالعقل، وتوزيعها على مسالك المعرفة الحسية إلى العقل. أي أن البحث ليس في الألفاظ من حيث هي أصوات، وإنما من حيث نوعية ما تقع عليه، كأن يكون إدراكه يتم استنادا إلى ماهيته، أصوت هو، أم ضوء، أم غير ذلك؟ وهل هو ذات أو عرض أو معنى؟

              غير أن الحديث عن الطرق الحسية التي تؤدى بها اللغة، ضروري للتفريق بين الأمرين، ولإزالة اللبس والغموض؛ فاللغة، وهي ألفاظ لمعانٍ تُسرَد على نحو ما، إما أن تكون أصواتا مسموعة، تدرك بحاسة السمع عبر الأذن، أو أشكالا مكتوبة (مرئية) تدرك بحاسة البصر عبر العين، أو نتوءات ملموسة، تدرس بحاسة اللمس عبر البشرة. وأيا كانت، فهي جميعا حشد من الرموز لا قيمة لها بمفردها، وإنما قيمتها في أن تكون لمعانٍ أو مدولولات أو مسميات معروفة ومنظومة على نحو معين. وتوضيح ذلك فيما يتعلق بالأذن، وأم المرء يدرك الوحدة اللغوية عبر الأذن، وقد يكون للوحدة المسموعة معنى، فتكون رمزا صوتيا، وقد لا يكون، كأن تكون الوحدة مركبة على نحو غير مألوف، أو تكون من لغة مجهولة وسمعتها الأذن لأول مرة، فهي عندئذ ليست رمزا في تلكم اللغة، وقل مثل ذلك في المرئيات والحروف الملموسة ذوات المعاني حيث هي جميعا رموز، لكنها مختلفة في المنفذ الحسي الذي تدرك من خلاله العين أو البشرة.

              وإذا أدرك ما ترمز إليه وهو الكلمة، أو الكائن اللغوي، فإن العقل يدرك ما تمثله تلك الكلمة في عالم المعاني والمسميات والدلالات المختزنة فيه، وإن ذلك لا يتطلب وقتا طويلا في الغالب، ولكنه أحيانا يتطلب ذلك، حيث تقرأ، أو تسمع، أو تلمس رمزا، فتدرك أبعاده الحسية، لكنك لا تدرك ما تمثله لجهل أو لنسيان، وإن فعل العقل هاهنا أشبه ما يكون بفعل ما يعرف بالكمبيوتر حيث يزود المرء بالمعلومات المطلوبة مما خزّن فيه، بعملية معينة.

              وقد يسأل: كيف توجه استخدام الرمز؟ وها هو من الضرورة بمكان؟ وإجابة عن ذلك نقول: نعم، ذلك انه ليس ممكنا أن يستحضر ما تمثله الكلمات من مدلولات ومسميات ومعان، بحيث تكون مؤهلة لأن تباشر الحواس فعلها فيها فتدركها. وقد أتحدث عن جبال طويق في الجزيرة العربية وأنا في المغرب، فهل يمكن استحضارها أو المثول قريبا منها لإدراكها؟ لا. إذا، لا بد من الرمز، فيقوم الرمز أسد مقال ذلك الحيوان المعروف، فما أن تسمع هذه الكلمة، أو تقرأها حتى تدرك المقصود بها دون حاجة إلى استحضاره حقيقة. وإن الرمز شبيه جدا بالرموز المختصرة؛ حيث يقوم الحرف مقال الكلمة، فبدلا من كتابة المملكة العربية السعودية، يمكن أن نرمز فنكتب م ع س وشبيه بذلك، أيضا، ما يستخدم من رموز الاتصالات السرية والإشارات بالعين والرأس واليد ونحوها، حيث تسد مسد الكلام. ومن ذلك أيضا الأصوات التي تسمع ولا يمكن أن تكتب، تلك التي تخرج قريبا من مخرج التاء علامة على الرفض، والتي تخرج من جانب الفم، علامة على الرضا والقبول.

              ومرجع ذلك كله، على أن المدركات أكثر من أن يتمكن الإنسان من الإحاطة بها أو بحظه منها دون استخدام الرمز، وكلما ازداد عددها، فإن ذلك يقتضي زيادة في الرموز، واختزالها أحيانا. أما ترى الطالب يلخص الفقرة بجملة على الهامش إزاءها. بل إن الأمر ليصل أحيانا إلى تلخيص الجملة برمز لفظي مركب من حروف مختارة، وإن الرمز يكون ليكون أخطر كلما صغر هو وكبر ما يرمز إليه. وخير مثال لذلك الأرقام وحروف اللغة، وهما أجمل ما قامت عليه حضارة الإنسان، لكن الموجّه الحقيقي لاستخدام الرمز، هو أن اللغة ظاهرة اجتماعية في المرحلة التالية لإبداعها، وفي معظم جوانبها، وفي هذه الحال، تقوم ألفاظ اللغة مفردة أو مركبة مقام الدراهم؛ هذه تتداول كقيمة لمشتريات ومبيعات، وتلك تتبادل رموزا لمعاني ومشاعر ومسميات مشتركة. قد يكون هناك فهم مباشر دون رمز، ولكنه لا يكون مشتركا، كأن تتأمل وتتفكر في الخلق، حيث تتعامل مع المسميات والذوات على نحو مباشر. وأنها رموز تدل على الخالق، والمرء يستطيع أن يصل إلى الخالق دونما وساطة مجتمع أو لغة مشتركة؛ لأن مفردات اللغة المسمى بها، تدل على الأشياء دلالة قطعية في العرف الاجتماعي الأوليّ، وتحددها، لأنها مما يدرك بالحس، أما الله عز وجل فليس مما يدرك لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو ليس كمثله شيء أي أنه ليس شيئا تدركه الناس كإدراكها لسواه، هذا الإدراك الذي يتم بالحس. ولذا كانت الأسماء والصفات الإلهية كثيرة، بحيث تقرب العقل البشري من إدراك الذات الإلهية. وأن أسماء الله وصفاته ليست كغيرها من الكلمات، حيث إنها تنصرف لما يعجز العقل عن إدراكه، فقد ندرك قوته وعفوه وحمته، ولكننا لا نستطيع إدراك ذاته.

              وقد يسأل عن لغات المسالك الثلاثة، وعن الذين يستخدمونها، فأقول: ان السوي يستخدم المسالك الثلاثة العين والأذن والبشرة، حسب رغبته. أما الأصم فاعتماده على عينه. واعتماد الكفيف على سمعه، ما يقرأ عليه وعلى بشرته على حاسة اللمس. وبهذا يمكن ان نصل إلى التقسيم التالي:

    أ لغة مقروءة تدرك رموز كلماتها بالعين عن طريق موجات أشعة مرئية

    ب لغة مسموعة تدرك رموز كلماتها بالأذن عن طريق ذبذبات صوتية مسموعة.

    جـ لغة ملموسة تدرك رموز كلماتها بالبشرة  عن طريق نتوءات مادية ملموسة.

              أما ما ترمز إليه فهي الدلالات، وهي إما أن تنصرف لما هو واحد في المعرفة، لا يتغير ولا يتجاوز مفهوما عاما، وفي مقدمة ذلك الذوات، فالكلمات: أسد، حجر، قلم، ونحوها، ترمز إلى ذوات لا يختلف عليها الناس. فالأسد هو الأسد حتى لو اختلف لونه أو حجمه أو مكانه، ذلك أنه اختلاف حاصل في عَرَض، وقل مثل ذلك في الحجر، سواء أكان كبيرا أم صغيرا، أملس أم ذا نتوءات، ذلك أن للكلمة حجر مفهوم مطاطي على الماة الكلسية المتكتلة.

              وقد تنصرف الدلالات إلى ما قد يقع فيه الاختلاف، وفي مقدمة ذلك المعاني والأعراض. فبالنسبة للمفردات: الحرية، ارتفاع، كفاح، فإنها تعكس معاني يختلف فيها الناس، فالحرية في نظر عبد الإنسان غيرها في نظر السيد، وهي في نظر السجين ظلما، غيرها في نظر سجين العدل، إلى غير ذلك مما يصعب حصره، أما ترى الخلاف حول حق المرء بالاستمتاع بالصوت والضوء، وحول حدود الحرية الشخصية في إطار الحرية العامة.

              والارتفاع في نظر سكان البيوت ذات الدور الواحد، غيره في نظر سكان الأدوار العليا من ناطحات السحاب، والجبل لا بد من أن يكون مرتفعا، لكن الفرق كبير جدا بين جبال الهملايا، وجبال تقع في أعماق المحيطات. ومعنى الكفاح قديما، مختلف جدا عن معناه اليوم.

              هذا فيما يتعلق بالمعاني، وقل مثله في الأعراض، ذلك أنها صفات الذوات، فهذا الثوب جميل في نظر التي ترتديه، وهو غير ذلك في نظر امرأة غيرها. وهذه مسافة طويلة في نظر المدني، ولكنها من القصر بحيث يستهين بها البدوي، والجو اليوم حار بالنسبة لقادم من الأصقاع الشمالية، ولكنه معتدل، أو بارد بالنسبة لسكان المناطق الاستوائية.

              ومردّ ذلك كله إلى النسبة، وهي ناجمة عن الاختلاف في الطبع البشري، هكذا فطر الله البرية، ومن هنا جاءت أمثال كقولهم القرد في عين أمه غزال، ومصائب قوم عند قوم فوائد، ورضا الناسغاية لا تدرك .. إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك.

     

              وسنعرض فيما يأتي للذوات، وهي ما دل على واحد في المعرفة، وما له جرم ينقطع فيه، كالحيوان والنبات والجماد والأجرام السماوية، وهي أصناف من حيث الكثافة واللون والطبيعة، وإن كثافتها ولونها وهما أبرز ما يميز طبيعتها، يتحكمان في وسيلة إدراكها، ويحددانها. وهذه الذوات خمسة انواع هي :ـ

     

    أ المرئيات:ـ

              وهي كل ما أدرك بحاسة البصر ولم يكن معنى أو عرضا، وهي تمثل أكبر نسبة من الذوات. وهذا يوضح أهمية العين للحضارة والإنسان. والمرئيات إما الكتلة أو اللون أو الصفة من وهذه الأخيرة من الأعراض في معظم الأحوال. فأن نقول: إن الثوب واسع. لا يعني أنه واسع إطلاقا، حيث إن بدينا قد يرتديه فيصبح ضيقا، إذا فصفة الاتساع ها هنا عارضة. لكن، أن نقول إن الكون واسع. يعني الاتساع المطلق وإن اختلف الملقي والملتقي، وعندئذ تكون صفة الاتساع ها هنا غير عارضة، وإنما هي جزء من الذات. وأن ينعت الطفل بأنه صغير، فهذه صفة عارضة، على الرغم من أنها لا تزايله إلا على نحو بطيء جدا، أما أن يقال إن الإنسان صغير إذا ما قيس بالفيل، فتلك صفة غير عارضة، وإنما هي ملازمة للذوات، حيث إن الأمر قد تعدى الخصوص إلى العموم، لأنه قام على المقارنة بين نوعين مختلفين.

              أما اللون فقليلا ما يكون صفة عارضة، ولا سيما إذا كان المتلون به لا يعرف بغيره. ومثال ذلك أن الحمرة في الدم ليست من الأعراض، وإنما هي جزء منه، لأنه لا يعرف ـ أصلا ـ إلا أحمر، أما الحمرة في الأفق الغربي لدى غروب الشمس فعارضة، ذلك أنها متغيرة. وإن معرفة الإنسان بكثير من المسميات، إنما تتم اقترانا بلونها، فالطماطم لا تستخدم إلا ناضجة في معظم الأحوال، وهي عندئذ تكون حمراء، ولا تمتد معرفة الإنسان بها وهي ناضجة أكثر من بضعة أيام ... بينما تكون ثمرتها قبل النضج خضراء، وتمتد معرفة الإنسان بها أكثر منها حمراء، ولكنها على الرغم من ذلك لا ترتسم في ذهنه إلا حمراء .. وتوجيه ذلك إنما يكون بغلبة النفعية على طبع الإنسان، فكأنما مرت هذه العملية بالأدوار الآتية:

    نبات:

    نبات مثمر أخضر: لا يؤكل، ولذا صرف عنه الحس.

    ثم قد احمرّ لونه:

    يؤكل، ولذا ركز عليه الحس، ولما كان أبرز ما فيه لونه، وكان هذا اللون علامة النضج، وكان النضج ضروريا للاستهلاك، فقد ارتبط في الذهن باسمه للونه.

              وإدراك المرئيات إنما يكون بما ترسله من أشعة تنتهي إلى العين، وينتهي أثرها إلى الدماغ، ولا عجب في أن تكون معظم ألفاظ اللغة لمسميات وأعراض تدرك بالعين دون سواها، ذلك أن المسميات لا تصدر عنها أية إشارات على وجودها غير الأشعة، وهي مما يدرك بالعين .. قد ترسل ذبذبات صوتية، فتدرك بالسمع .. وقد تفرز رائحة فتدرك بحاسة الشم ... لكن مجال العين يظل أفسح وأكبر، وبالتالي يظل عدد المفردات التي سميت بها الموجودات لعلاقة بحاسة البصر ـ أكبر. ومرجع ذلك في العين إلى المزايا الآتية:

              أن العين ترتبط بالدماغ بخمسة وعشرين عصبا، بينما ترتبط حاسة السمع بعصب واحد، والأمر قريب من ذلك فيما يتعلق بالحواس الأخرى. إذا. فالعين أدق من سواها في نقل أسباب المعرفة.

              أن العين تتحرك في موضعها، فتدرك ما يقع أمامها وفي جانبيها، الأمر الذي يتيح لها فرصة أعظم لإدراك أشياء أكثر. أما الحواس الأخرى فلا تتحرك أداتها، وإنما تدرك ما يسعى إليها من صوت أو رائحة، الأمر الذي يقلل فاعليتها إذا قيست بالعين .. ولعل أبرز ما ينافسالعين هي الأذن، وهما أداتا الإدراك الحسي الرئيستان في الحياة، ولذلك رأينا القرآن الكريم يكثر التركيز على السمع الأبصار وفضلهما. ومما يعكس ما نحن بصدده، بيت للكميت في مهاة كانت ترتعي في منخفض غائر، فآنست ما يشير إلى موضعه لتهرب في الاتجاه المعاكس. قال:

    منها اثنتان لما الطأطاء يحجبه                 والأخريان لما يأتي به القبل

    انظر عثرات التميمي 38/أ

              أي: منها اثنتان الأذنان خصصتهما للاستماع لما يأتي من أصوات من المواقع المحجوبة عن العين، والأخريان العينان لما يمكن أن تراه فيما يقابلها. أي أن الأذن تستخدم بكثرة عندما يحول حاجز دون العين، فهي ثانية والعين أولى.

              إن حاسة البصر ضرورية للحركة والنشاط البشري أكثر من غيرها، ويتضح ذلك في المقابلة بين كفيف ومبصر.

              إن العين لتدرك الكائنات سواء أكانت ساكنة أم متحركة، وسواء أكانت ذات رائحة ومذاق أم لم تكن. أما الحواس الأخرى فلا تدرك سوى أجزاء من ذلك، فلا عجب إذا خص الله العين دون سواها بأجفان إرادية لحمايتها، وأهداب تمكنها من مباشرة عملها.

              وأعتقد أن اللغة بدأت بمفردات ترمز إلى مركبات ثم تلتها المسموعات والمحسوسات الأخرى.

     

     

    ب المسموعات:ـ

    وهي الأصوات في الأصل، وما تصدر عنه، عقب ذلك، ويكون إدراكها بالذبذبات التي تصدرها أو تمثلها، والصوت حركة ناتجة عن حركة تحدث احتكاكا بين شيئين في الأقل، وهذان الشيئان إما أن يكونا متصلين جزأين من جسم واحد، أو منفصلين يحتكان عرضا أو بمؤثر خارجي. وإن فيما سبق، ليوضح أن قلة الألفاظ التي ترمز إلى مسموعات، إنما هي نتيجة منطقية لمقدمة ثابتة تحتم أن يكون عدد المسموعات أقل من نصف عدد المرئيات في أحسن الأحوال؛ ذلك أن كل محتكين يصدران صوتا واحدا، بينما يجسدان مرئيين اثنين.

              واللغة المسموعة تقوم على الرموز المسموعة، وهي أصل اللغتين المرئية والمسموعة، وتمثل خطوة متقدمة على طريق الحضارة الإنسانية، حيث تمكن الإنسان من الرمز بأصوات معلومة لكل معارفه من ذوات وأعراض ومعان، وإن المعرفة لتتم بالمشاهدة والحس المباشر، أما العلم فلا بد له من رموز يقوم عليها، ذلك أن العلم هو جمع الكثير في القليل على هدى قواعد ونظريات.

              وإذا نقبت في المعجم العربي، فإنك واجد أن المواد التي تنصرف دلالاتها لأصوات بعينها قليلة، تنظرا لقلة المحتكات. ذلك أن الاحتكاك حركة، والمتحركات هي الحيوانات وبعض الأشياء كالهواء أحيانا، والسحاب، والمتساقطات والمياه أحيانا ونحوها قليل، غير أنها قليلا ما تصدر صوتا مسموعا في الأحوال العادية. أما أصوات الحيوانات، فهي أقل من أن يعجز الإنسان عن حصرها والرمز إليها، كالصهيل، والفحيح، والهديل ... الخ.

     

    جـ الملموسات: ـ

              وهي أقل من المسموعات من الناحية الوظيفية، حيث قليلا ما يلجأ المرء إلى حاسة اللمس إدراك ما حوله، غير أن أهمية هذه الحاسة قد تكشفت أخيرا؛ حيث تمكن المكفوفون من تعلم القراءة والكتابة، على طريقة بريل. ويمكن حصر المدركات باللمس الإرادي أو غير الإراديّ في:

    ·        الحرارة والبرودة.

    ·        الخشونة والنعومة، والاستواء وعدمه.

    ·        اللين والشدة، ويتفرع منهما الثقل والخفة.

    ·        الجفاف والبلل.

    وهذه الأحوال، وما يمتد بينها من أحوالها المتدرجة، التي يمكن إدراكها والتمييز بينها قليلة، يمكن أن نستخرج المفردات المرموز بها لها من المعجم بسهولة، وذلك ان كثيرا منها يدرك بحاسة أخرى، كالارتفاع والانخفاض، حيث يدركان بحاسة البصر.

     

    د المشمومات: ـ

              وهي قليلة جدا، وكذلك الألفاظ المرموز بها لها، حيث تنحصر في الروائح طيبها وخبيثها.ومنفذها إلى عصب الشم ضيق، الأمر الذي يسهم في تقليل عدد ما يدرك بواسطتها، إضافة إلى أن معظم الكائنات، قليلا ما تمتاز بروائح معينة تعرف بها، بل تعرف بأشكال وألوان مرئية، أو أصوات مسموعة، أو نحو ذلك. ولهذا نجد المفردات العربية المشتقة من موادها لدلالات تقع على الروائح، أو المتعلق بها ـ قليلة، كالمفردات: عطر، أبخر وهو السيء رائحة الفم، وبنة، للريح الجيدة، والمذاق الجيد أحيانا، والصنة لرائحة البول، وقد تستخدم بمعنى الرائحة الطيبة، كما هي الحال فيبعض لهجات الشمال الإفريقي، وهي بذلك من الأضداد، والقَتَرة، وقتار القدر، والعبير والشذا وغيرها مما يسهل حصره. وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالمواد والنباتات التي تمتاز عن سواها برائحة تعرف بها، فدخلت ألفاظها اللغة بعد أن رمز لها من أجل رائحتها، كالنعناع، والريحان من الرائحة، والخزامى والمادة خزم تنصرف لدلالة أصلية على ما له ارتباط بالأنف حيث عصب الشم، ومن ذلك الخزمة، وهي الحلقة في الأنف. ونحو ذلك من المفردات، أو بعد أن رمز لها من أجل منفعة أخرى، ثم تميزت برائحتها، كالكاز الكيروسين والبنزين لبان جاوه والكحول، وغير ذلك مما يسهل الكشف عنه برائحته، ولا سيما إذا كان إلى جانبها ما يشبهها في لونها، أو كانت في زجاجات ملونة.

     

    هـ المذوقات: ـ

              وهي قليلة، في عدد سابقتها، أو نحوا منها، وأداة إدراكها اللسان، وهي:

    1.  الحلاوة والمرارة، والحموضة والملوحة. والمواد التي تفرزها بنسبها المختلفة قليلة جدا، وقل مثل ذلك في المواد التي سميت بألفاظ لعلاقة بمذاقها، او بغير ذلك، لكنها تكتاز عن غيرها بمذاق يوجه استخدام الناس لها.

    فالحلوى، مثلا، سميت لعلاقة بمذاقها ... حيث لا يمكن أن تكون مالحة، أو دون مادة حلوة، وهي تحمل في الوقت نفسه، الاسم نفسه.

      2 _ أما الصبر، مثلا، أو الحلتيب، فليسا مسميين بهما لعلاقة مباشرة بمذاقها المر، غير أنهما يمتازان عن سواهما بمرارة جعلت الإنسان يستخدمهما لأجلها، تماما كالعسل، والسكر في حلاوتهما. وتلاحظ أننا استخدمنا كلمة مباشرة صفة للعلاقة بين الاسم والمسمى؛ ذلك أن ثمة علاقة غير مباشرة، قد تتحكم في توجيه إطلاق اللفظ، فالصبر مثلا، سمي به لأن تجرعه يتطلب صبرا على مرارته، وقوة احتمال بالغة.

    وجدير بالذكر أن معظم المدركات السابقة، يمكن أن تدرك بغير الحاسة التي جرت العادة على أن تدرك بها، فالأسد وهو من المرئيات، يمكن أن يدرك بسماع صوته، غير أن صوته قد يسجل، فيكون الأمر خداعا لحاسة السمع، وكذلك صورته أو تمثاله قد يخدعان العين. والشوكة من المرئيات، قد تدرك باللمس، غير أنها قد تلتبس بالسفا أو عظم السمك... وخلاصة القول أن ما يقع خارج الجسم قد يدرك بأكثر من حاسة، وأن الحواس قد تُخدَع، وأن كل لفظ يدل عليه لعلاقة بالحاسة التي يدرك من خلالها الإدراك المرتبط بوظيفة ذلك الشيء المرموز له.

    وقد تشترك حاستان في توجيه الرمز للمسمى، كحاستي البصر والسمع، فإذا به يُعرَف باسمين؛ أحدهما لعلاقة بمرآهن والآخر لعلاقة بصوته. كقولك: المرزمة، وذات السنام، للناقة. فالأول لصوتها، والثاني لمرآها، والجمل أعرفه إن رأيته وإن سمعته.

    والريحان اعرفه إن رأيته وإن شممته، والسمك إن لمسته، أو رأيته، وهكذا، غير أن العين هي الفيصل في ذلك كله.

    وتكشف الفوارق بين الحواس، عن إرادة إلهية حكيمة، وميزة خص الله بها العين، حيث تكاد تتعطل عن العمل ليلا ... ذلك لأن عين الوجود الشمس تكون متعطلة ليلا ـ بالنسبة لنصف الكرة ـ، وإن طلوعها على الشق الآخر من الأرض،ليناظر نشاط العين ليلا؛ كلاهما لا يمكننا من الرؤية إلا قليلا. وتوجيه ذلك في نظري، أن الليل إنما كان للنوم والراحة بعد عناء النهار، وأن تظل العين تباشر عملها ـ فيما لو كان هناك ضوء كاف ـ فإن ذلك يعني أن العقل سيظل متنبها ولن يكون هناك نوع طبيعي .. أما ترى الإنسان لا يهنأ له نوم ليلا مادام النور وليس الضوء ينتهي إلى عينيه؟ أوما ترى أن الأصوات تهدأ ليلا كي يتمكن الإنسان ـ وبعض الحيوانات ـ  من النوم بعد الإزعاج عن طريق الأذن ... وأن الحواس الأخرى أقل أثرا في هذا المجال، اللهم إلا ما يلبسه البرد أو الحرّ، واللين والخشونة عن طريق حاسة اللمس ... الأمر الذي احتال له الإنسان بالمرقد المريح، وبالغطاء أو عدمه ليضمن لنفسه نوما هادئا.

    وأضعف الحواس حاسة الذوق، وأثرها قليل، ولا تعمل أثناء النوم، وأنشط منها شيئا حاسة الشم، أما حاسة السمع فهي أنشط الحواس ليلا، ويليها في ذلك حاسة اللمس، وبواسطتهما يوقَظ النائم. ولذا، فإن الصحة والسلامة في مجاراة الإنسان للطبيعة؛ إن نامت نام، وإن استيقظ نهض، أي أن ينام مبكرا وينهض مبكرا، وإن الذين يخالفون ذلك ليسوا من الأصحاء في أبدانهم أو عقولهم.

    نخلص من جميع ما سلف إلى تقرير ما يأتي:

    1.     اللغة رموز لمسميات وأعراض تدرك بالحواس، ورموز لمعان لم تكن أصلا، وإنما نتجت عن علاقة مباشرة بين الإنسان وأمور محسوسة.

    2.  ليست الحواس سواء في قوة إدراكها وفي أهميتها، وعدد ما يقع في دوائرها من آحاد المعرفة. الأمر الذي انعكس على الرموز اللغوية لتلكم الآحاد. فالمرئيات أكثرها على الإطلاق، وكذلك رموزها اللغوية، ويليها في ذلك المسموعات فالمشمومات فالمذوقات.

    ولذا، فإن الواجب يقتضي العناية بالحواس، وبأن تراعى الفوارق بينها عند توظيفها لاكتساب المعرفة ونقلها.

    3.  أن اللغة بحاجة ماسة إلى دراسات عمودية تسبر أغوارها وتبحث في فلسفتها، وألا يستمر البحث في الدراسات الأفقية السطحية إلا بقدر ما ينبغي له أن يكون.

     

     

     

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me