An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, February 2, 2009
  • مستقبل العلاقة بين الحضارات في ضوء الثوابت والمتغيرات
  • Published at:Not Found
  • مستقبل العلاقة بين الحضارات في ضوء الثوابت والمتغيرات

    "توصيات لمنهاج لغات رديف"

     

                       أ.د. يحيى جبر                                

                     رئيس قسم اللغة العربية                              

    بجامعة النجاح الوطنية

               

    ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد    بين الشعوب مودة وإخاء

    (أحمد شوقي)

     

    مدخل شمولي مطوّل

     

    يتناول الباحثان في هذه الورقة موضوعا واسعا اجتهدا في لملمة أطرافه لتقديم تصوّر شامل لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين الحضارات في المستقبل القريب، ولا نقول البعيد؛ لأن الزمان يتقارب، والمكان يُختَزَل، فهذا زمن باتت فيه السرعة تتواتر على شكل متوالية هندسية، ولعل هذه الحقيقة هي التي مكّنت الباحثين من تناول الموضوعات التي يتمحور حولها هذا المؤتمر.

    ويعالج البحث قضية التباين الفطري بين الشعوب، إذ أنها من المعطيات المألوفة في كل زمان ومكان، ناهيك عما تؤدي إليه الثقافة المتوارثة والمكتسبة من أشكال التباين والاختلاف، وبهذا يكون الاختلاف هو الأصل، وتكون التعددية أيضا، وعلى كل صعيد، هي الأصل.

    ولما كانت حياة الإنسان، فردا كان أو مجتمعا، ممتدة في الزمان؛ ببعديه الماضي والحاضر، فلا شك في أنه بخضوعه لأثر الماضي فيه، وانجذابه لما يمكن أن يُستشرف من المستقبل؛ سيكون منهج تفكيره، ونمطه حياته منطبعين بالدوافع التاريخية أولا؛ وهي التي سنطلق عليها اصطلاحا: أثر الماضي في صياغة الحاضر؛ بما  ينطوي عليه الماضي من عوامل تمتد بجذورها في الزمن الذي تكوّن المجتمع عبر مراحله، والزمن الفردي الذي      تتبلور فيه شخصية الفرد، ويتأكّم في اختيار المنحى الذي يسلكه، وبالجواذب المستقبلية ثانيا؛ ودورها في توجيه سلوك الفرد والمجتمع بوجه عام، آخذين بعين الاعتبار المستجدات المتلاحقة على الساحة الكونية، لا سيما أنها باتت تطغى بآثارها على جميع أهل الأرض؛ من شاء منهم، ومن أبى؛ إذ لم يعد ثَمَّ خيار لإنسان على وجه الأرض أن يعيش بعيدا عن المؤثرات الخارجية، ونتائج التفاعلات التي يشهدها العالم على كل صعيد، وسنطلق على هذا الدور اصطلاح: أثر المستقبل في توجيه السلوك.

    والمطالع في الواقع الذي تشهده العلاقات الدولية الراهنة، والأسباب التي أدّت إليها، يمكنه تحديد المؤشرات الإيجابية فيها؛ مما يمهد الطريق لدعمها وتجذيرها، ورصد المؤشرات السلبية في محاولة لاقتراح السبل الكفيلة بمحاصرتها تمهيدا للتخلص منها، ومعالجتها.

      ويستعرض الباحثان آلية التفاعل البنّاء بين الحضارات، وكيف يمكن أن يتجاوز أهل الأرض أسباب الصدام والصراع إلى موجبات التفاهم والتعاون على طريق تحقيق القيمة العليا التي تسعى لها شعوب الأرض قاطبة؛ ألا وهي السعادة القائمة على العدل والحرية.

     

    أثر الماضي في صياغة الحاضر:

     

    لا حاجة بنا إلى إطالة الحديث في هذا الموضوع؛ فهو من المسلمات التي لا تختلف عليها الأمم، وفي عقيدة الأمة وتراثها كثير من الإشارات التي تؤكد هذه الحقيقة، كالمعنى القرآني (إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) والأثر النبوي القاضي بأن المرء يولد على الفطرة وأبواه يكسبانه دينهما، وقول الشاعر: وينشأ وارد الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه، وقول الآخر: لكل امرئ من دهره ما قد تعوّد، وغير ذلك مما نجد له أمثلة كثيرة عند الشعوب المختلفة. ولا شك في أن كل ذلك ينتهي للناشئة عبر الوالدين ومن يقوم مقامهما من الأقارب والمدرسين وأجهزة الإعلام المختلفة، ولمّا كان للتعليم في العصر الحديث دور يفوق دور الأسرة في البناء والتوجيه، فقد أصبحت المدرسة أخطر العوامل المؤثرة في صياغة الحياة.

    1.          وتختلف الأمم في أهدافها، وتتباين أغراضها، وإن كانت تسعى جميعاً إلى الارتقاء بمستوى الإنسان، لكن ذلك إنما يتم انطلاقاً من رؤى خاصة، تخضع لاختلاف العقائد والثقافات المكتسبة من الماضي "ذلك أن لكل نظام اجتماعي أو سياسي هدفه التربوي ومثله العليا في إعداد الشباب وإعداد المواطن الصالح، ويرجع تنوّع الأهداف وتباين الغايات إلى اختلاف النظرة الفلسفية نحو تنظيم المجتمع، ونحو حياة الفرد وعلاقته بالمجتمع"( صقر، محمد جمال، اتجاهات في التربية والتعليم، دار المعارف، مصر، 1958، ص7). فالأجيال الراهنة هي نتاج الجيل السابق، وجبلت وفقاً لأفكاره وفلسفته، فالأمم "أفكار تمشي على أرجل رجالها، وهؤلاء الرجال حصاد عمل مسبوق بتصور في أذهان فلاسفة الأمم وعلمائها ورجال الفكر فيها من كل جنس وصنف من أصناف الفكر الذي يعمل على بثه ودسّه في عقول الأفراد نظام التعليم" (عصر، حسني عبد الباري، تشويه العقل العربي وهموم التربية اللغوية، المكتب العربي الحديث، الإسكندرية، 1999، ص5) ذلك لأن "نظام التعليم آلة المجتمع في إعداد الرجال الذين يدلون بسلوكهم وعرقهم وكدحهم على نوع أمتهم، وصنف تعليمهم، وما ارتقت أمة ولا علا شأنها هكذا بضربة حظ، وإنما ارتقاء الأمم أساس نظام تعليمها الذي هو القوة العظمى الكامنة من وراء تطور الأمة" (عصر ص5).

     

    دور المناهج

     

    وتلعب المناهج أهم الأدوار في ذلك كله، ومن هنا كان لا بد من إحكامها لتنسجم مع تطلعات المجتمع المستقبلية، التي تسهم بدورها في توجيه المناهج لتكون مخرجاتها وفقا لحاجة المجتمع، مما يعني أن المناهج حصيلة قوتين هما:

    ·        الماضي بقضه وقضيضه

    ·        والمستقبل بتصوراته المختلفة وحاجاته المتوقعة

    ولا بد في إعداد هذه المناهج من مراعاة أن تسهم، في آخر المطاف، في بناء الحضارة البشرية، متناغمة مع غيرها من المناهج، مما يعني أن تكون خالية مما يتناقض معها، مع جواز اختلافها عنها.

     

    مكانة دروس اللغة:

     

    وتقع دروس اللغة القومية في مقدمة العناصر التي يتشكّل منها المنهاج، ذلك لما للغة من دور في صياغة أفكار الناطقين بها، وتوجيه أنماط حياتهم، فهي تختصر الماضي  وتركته الثقافية، وتسرّبها عبر مفرداتها ونصوصها إلى أفكار أهلها جيلا بعد جيل، في الوقت الذي تستقبل آثار التفاعلات التي يشهدها المجتمع أولا بأول، فتصبح قادرة على تنوير الحاضر، ومد أهلها بما يمكّنهم من استشراف لمستقبل. فهي كما قال دافيد لاتن: "رمز مركزي لهوية الدولة، وتَعمل كمؤسّسة ثقافية بالغة الأهمية ".

    (Laitin David, D. (2000) "What is a Language Community?" American Journal of Political Science 44 (1):142-155)                          

    ولعل أبرز مظاهر الدور الذي تلعبه اللغة أنها لا تترجم الحاجات والأهداف التي يعبر بها عنها وحسب، ولكن دورها يذهب إلى هو ما أبعد من ذلك؛ إذ تؤدي عن من يتكلم بها ما يكتنف ألفاظه من مشاعر وأحاسيس ترتبط بالأجواء الثقافية التي تحفّ بالمفردة والعبارة، وبالأسلوب الذي صيغت به، فليس هناك مفردة إلا ولها تاريخ، ولا تاريخ إلا وهو مرتبط في الذهن الشعبي بإيحاءات وإيماءات تتفاوت في سلبيتها وإيجابيتها مما يتسرب إلى أذهان الناطقين بها، ويؤدي، مع الزمن، إلى شيء من التجانس بين طرق التفكير والاهتمامات، والتوجه العام.

    ففي إسرائيل "لا يمكن الفصل بين الهدف التعليمي والهدف السياسي أو الاقتصادي ، فهذه الأهداف وغيرها تقوم عليها المؤسسة الحاكمة التي تأمر بتنفيذ الرؤى والمخططات اليهودية بما يعزز وجود اليهود ويدعم بقاءهم، وقد وصف شمعون بيرتز اللغة العبرية باللغة المقدسة، وعدّها لغة الصلاة والتراتيل والعبادات، وأعلن أن من أسباب عودته إلى أرض الآباء (فلسطين) هو رغبته بالعودة إلى اللغة إذ يقول: لم يكن بإمكاننا تصور عودة إلى الأرض من دون الرجوع إلى اللغة" (خلف ، عبد الله ، شمعون بيرتز مستقبل إسرائيل ، صحيفة الوطن الكويتية ، الثاني من كانون الثاني عام 2003).

    ولا ينحصر دور اللغة "في التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره وإبلاغها للآخرين، بل يتعدى ذلك ليشمل عملية التوجه نحو الداخل (الذات والنفس ) والخارج (العالم والواقع) على حد سواء.( بركة، بسام.أبحاث ودراسات في اللغة العربية. الكتاب الأول، أكاديمية القواسمي. باقة الغربية، د. ت.ص3) ولعل هذا هو ما أراده عبد المعطي حجازي بقوله في رسالته مخاطبا زميله أمل دنقل:" إن صور الحياة اليومية في شعرك  تعبير عن عالم داخلي، لا عن عالم خارجي " (شاهين، عبد الصبور. العربية لغة العلوم والتقنية، دار الاعتصام. القاهرة 1986 ص نقلا عن جريدة الشرق الأوسط 14/12/1981).

    ولعل أجلى ما تتضح عليه صورة الدور الذي تلعبه اللغة في صياغة عقلية الفرد والمجتمع ـ ما ذهب إليه إدوارد سابير من أن " اللغة تنظم تجربة المجتمع" وهي التي تصوغ عالمه وواقعه الحقيقي، وأن " كل لغة تنطوي على رؤية خاصة للعالم"( بركة ص4).

    وذهب سابير وورف إلى أن اللغة " أساس تشكيل الأفكار، ودليل على النشاط الفكري للفرد" (بركة ص5) وهذا هو جوهر نظريتيهما في اللغة، وإن الأمر ليتجاوز ذلك إلى المجتمع ذاته، إذ نجدها الأساس الذي تنبني عليه الهوية الاجتماعية علاوة على الهوية الفردية.(بركة 10).

    ولما كان للغة هذا الدور الخطير في تنميط الحياة البشرة، وصياغتها، وتوجيه مناهج الفكر، فإن ذلك يستدعي إحاطتها بمزيد من الرعاية والاهتمام، ويقدم الحلول لكثير من المشكلات العالقة في العالم، لا سيما تلك التي تتصل بالتباين الحضاري، والصراعات الإقليمية والدولية، مما يمكن أن تسهم اللغة في حله، أو التخفيف من حدته؛ ذلك أن الصراع على الأرض إنما يكون انطلاقا من صراع الأفكار الذي يتولد ويتفاعل في اللغة ومفاهيمها، وإذا كان القول المأثور" من تعلّم لغة قوم أمن مكرهم" صحيحا في حال قيام العلاقة بين الطرفين على العداء، فإن تلك المعرفة ستؤدي في حال السلم إلى بناء علاقات حميمة وتفاعلات حضارية تقرّب بين الأطراف المختلفة، على نحو ما شهدته العلاقات العربية والفارسية والهندية في المشرق؛ إبان العصر العباسي، والعلاقات العربية والأوروبية عبر التخوم المتوسطية في العصر الأندلسي. ومن هذا القبيل أيضا ما تشهد البيئات اللغوية التي تشترك في لغة بعينها، كمجموعة الكومنولث، والفرانكفونية، ودول أمريكة اللاتينية الناطقة بالإسبانية، إذ تمثل الرابطة اللغوية رباطا متينا يوثق العلاقات التي تنتظم تلك الدول.(يحيى جبر. دور اللغة في التعاون والتقريب بين الشعوب، بحث مقدم للمؤتمر الذي ينظمه برنامج  تحديات البحث العلمي في الشرق الأوسط (MERC) في تونس 15-17/12/،2006  بعنوان:Developing Science and Rethinking Development, Towards a New Interaction Between Social Science Information and Public Interest”)

     

     

    دور المستقبل في تشكيل إستراتيجية الأمم:

            تلعب النظرة المستقبلية دورا خطيرا في توجيه نشاط المجتمع، وتكيِّفه وفقا لما تقتضيه من اهتمامات وأولويات، فتتحكم في وتيرة الأداء وسرعته، وفي تخصيص الإمكانات المادية اللازمة لاجتياز مراحله، فإذا كان التراث وما ينتسب إلى الماضي يدفعان الحراك الاجتماعي، ويوجهان المناهج بسرعة معينة وفي اتجاه معين، لتحقيق هدف بعينه، فإن الرؤى المستقبلية تقوم بالدور نفسه، ليس عن طريق الدفع؛ وإنما عن طريق السحب والجذب، فهما بذلك كمن تعاونا في توجيه عربة إلى مكان بعينه؛ هذا يسحب، وذلك يدفع!. ولعل هذه الصورة هي أدق ما يمكن أن نعبر به عن التفاعل والتلاحم وتقاسم الأدوار بين طرفي الزمن. وما أشبه ذلك بالإنسان المفرد إذ تتجه بوصلة حياته صوب ما يشكِّل محصِّلة لفعل أثر الماضي فيه، وأثر انجذابه إلى أهداف يسعى لتحقيقها مستقبلا.

    وتكوين الوعي بالمستقبل "يستلزم بالضرورة أن نفتح أعيننا وقلوبنا على كل ما يجري من حولنا من تغيرات، سواء في عالم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التعليم والتربية أو الإعلام ووسائل الاتصال الأخرى، أو التكنولوجيا والتقنية المتقدمة… وغير ذلك كثير. ومن المفيد للغاية أن نحلل كل التغيرات، ونتابعها بدقة وموضوعية، ونرصد التحولات التي تحدث في مختلف المجتمعات الإنسانية، إذا ما أردنا أن نفهم معالم المستقبل وآفاقه".

    http://www.islammemo.cc/filz/one_news.asp?IDnews=1079

            وفي هذه الآونة، يتجه العالم بأسره نحو التوحّد والتماهي، بفضل ما أتيح لأهل الأرض من أسباب الاتصال والتواصل، مما يعني أن على جميع الأمم أن تصوغ عقول أبنائها على نحو ينسجم مع هذا التوجه، وأن تراجع مناهجها من حين لآخر لتكون منسجمة معه (updating). (راجع بحثنا دور المعرفة في تشكيل الذات، مجلة رؤى تربوية، مؤسسة القطان، العدد 21، 2006 وصياغة العقول، دراسة في الديمقراطية والأدب، بالاشتراك مع عبير حمد، مؤتمر الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي نظمته جامعة مؤتة صيف 2006)، فتضيف مواد تشترك فيها مع غيرها، وتحذف أخرى لم تعد صالحة للعيش المشترك, وهنا قد يطرأ السؤال التالي: على أي وتيرة يمكن أن يكون ذلك، وبالتزامن أم بحسب أهواء الأمم؟ والجواب على ذلك إنما يكون بالسرعة القصوى، وبالتزامن، لتحقيق الثقة بين الشعوب، وتقريب الفجوات النفسية بينها مما نجم عن تجارب الماضي. وهذا يقتضي أن يناط الأمر بمؤسسة دولية قادرة مستقلة تراقب وتتابع.

    تجربة المناهج الفلسطينية:

    بادرت السلطة الوطنية، فور تشكيلها، إلى إرساء بعض الأسس على طريق تجسيد الكيانية الفلسطينية، ومن ذلك وضع مناهج وطنية مستقلة، إذ كان المعمول به في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة امتدادا لما كان معمولا به قبل العدوان الإسرائيلي سنة 1967م، فكانت المناهج الأردنية في الضفة والمصرية في غزة.

    ولما كانت الظروف التي يحياها المجتمع الفلسطيني لا تسعفه في تحقيق الاستقلالية التامة؛( انظر بحثنا بالاشتراك مع جمال أبو مرق في "الإصلاح وآلته"، مجلة منتدى الفكر العربي، العدد 224، عمان 2005) نظرا للأوضاع الاقتصادية واستمرار الاحتلال المباشر، والرقابة الدولية إلى جانب التدخل المباشر من قوى الهيمنة الدولية؛ فقد جاءت المناهج منسجمة مع التوجهات العالمية في التقريب بين الشعوب، وتكريس العولمة، والتسامح، بغض النظر عما يلاقيه يوميا من ويلات وتنكّر لحقوقه على مدار ستة عقود.

    ولو نظرنا إلى ما يوازي ذلك لدى الطرف الآخر؛ الكيان الصهيوني، لوجدناه مختلفا جدا، فمن ذلك أن المقررات المخصصة لتدريس اللغة العربية لأبنائهم تطفح بالعداء الحضاري للعرب والمسلمين الذين ينتمي إليهم شعب فلسطين، وتنم عن تخطيط وكيد مدروسين لجسدان الصراع،  ويكرسانه، فقد اطلعت على كتاب اللغة العربية (لعله لطلبة الصف السادس)، ووجدت غلافه يوحى بازدراء للشعب الفلسطيني، ويتعمد تقديم صورة سلبية لنمط حياته، إذ كان عليه صورة مدخل قرية غير معبد، وفي الصورة بيوت بدائية، وفي خلفية الصورة مئذنة مسجد، وعلى قارعة الطريق وعاء للقمامة مُنجَفٍ وقد تراكمت القمامة من حوله. وربما كان هذا المشهد مألوفا في القرى والمدن، حتى عندهم، ولكن أن يُسلط الضوء عليه في غلاف كتاب القراءة العربية فذلك (عدوان حضاري). انظر الصور المرفقة لتأكيد ما ذهبنا إليه..

    وإن العداء ليتجاوز النصوص الحديثة إلى المصادر التراثية والمعاجم اللغوية، سواء ما كان من ذلك في العبرية ، أو سواها مما انتقل إليها من العبرية، ومن ذلك كلمة Saracens التي تطلق في العادة على العرب وأحيانا على الشرقيين، وهي مشتقة من " سارا كنوا" المحوّرة عن " قنيّة سارة" أي عبيد سارة، زوج إبراهيم عليه السلام، يريدون بذلك أبناء هاجر؛ إسماعيل عليه السلام وأبناءه، وهم العرب. فأنّى لنا أن نمحو هذه العقيدة اللا إنسانية التي تعشش في العقلية اليهودية، والتي انتقلت منها إلى عقليات شعوب غربية أخرى؛ إذ نجد الكلمة متجذرة في المعجم الإنجليزي؟.

    وجدير بالذكر أن هذا الموقف يأتي منسجما مع عقيدة أخرى تتمثل في إطلاقهم اسم "جوييم" على الأغيار، أي على من سواهم، والنظرة الدونية التي تحملها هذه الكلمة في المعجم العبري.والفلسطيني، بل العربي،  في أدبهم "لا يقتل إلا النساء والأطفال والشيوخ، ولا يعرف الرحمة ولا يهتم بالنظافة، وحين يقبض عليه اليهود يصبح جباناً ذليلاً ينفذ الأوامر كالعبيد ولا يجرؤ على الرفض، وحين تتاح له الفرصة يغدر ويكذب. وقد عرضت الباحثة لمجموعة من القصص عن العرب التي يتم تعليمها للأطفال اليهود مثل "خريف أخضر"و"غبار الطرف "و" القرية العربية " وقد تم عرض هذه الصور المشوهة عن العرب لأن الصورة النمطية للشخصية العربية تتشكل في وجدان الأطفال اليهود منذ الصغر، كما يقول الباحث اليهودي" يشعيا هرويم "

     وهذا "إيلي فودا" يصدر دراسة تتقصى الأبعاد العنصرية في الكتب المدرسية اليهودية ، وقد صدرت هذه الدراسة في الجامعة العبرية في القدس وغطت ستين كتاباً مدرسياً ، وقد ضمّن الباحث دراسته تحليلا عميقا للكتب المدرسية اليهودية ورأى أنها قادت إلى تكوين أفكار مسبقة عن العربي الموصوف في الكتب بالغش والتخلف والسرقة واستحالة التعايش معه.(سلفيتي ، أشرف ، هكذا يربي الإسرائيليون أولادهم ، http://al-shaab.org/GIF/21-02-2003/a21.htm)

    ثم كيف نتخلص من الدلالة المعجمية التي استقرت لدى الأوروبيين، ومنهم لدى كثير من أهل الأرض لكلمة بربري التي لم تكن تنصرف لأي دلالة منكرة، حتى استعملها الفرنسيون والأسبان لدلالتها المألوفة اليوم؛ التي تقع على معنى ( الهمجي، أو المتوحش)، هذه الدلالة التي تشكّلت جراء ما ألحقته بهم قبائل البربر من هزائم عندما هاجموها في عقر دارها؟.

    لقد بات لزاما على كل الأمم أن تراجع مناهجها، وتراثها لتنقيتها من المواقف العدائية تجاه الشعوب الأخرى إلا ما كان من ذلك رد فعل، وانتصارا للذات، وحينئذ لا بد من معالجة الأسباب التي دعت إلى ذلك جذريا، فلا يصح بحال من الأحوال ، ووفقا لأي معيار كان، أن يُطلب من الشعب الفلسطيني ؛ مثلا؛ أن يتسامح، أو يتنازل، أو أن يكون منسجما في مناهجه مع التوجهات الإنسانية للمجتمع الدولي، في الوقت الذي يقف فيه هذا المجتمع عاجزا عن تحقيق الأمن ورد الحقوق المشروعة له. وبعبارة أخرى، إن أي تحرك نحو أنسنة العالم، ينبغي أن تبدأ بتحقيق العدالة، ومراجعة التاريخ، والسعي لتحقيق مصالحات جذرية بين الأمم، فلا ضرر ولا ضرار، وبحيث لا نتكلم عن أمة ولا نصفها إلا بما تحب أن توصف به، لكن بعد رد المظالم، وإنصاف كل مظلوم ممن ظلمه.

    وأعتقد أن المناهج الفلسطينية، بحكم الرقابة الدولية، والتدخلات المباشرة من أطراف مختلفة، جاءت متناغمة إلى حد بعيد مع ما تقتضيه الرؤية الدولية للمناهج التي تتبناها اليونسكو، والتي من شأنها أن تدعو للتسامح، وبناء جسور الثقة والتعاون بين الشعوب. ولا يصح أن تكون الشعوب المقهورة والمستضعفة حقولا لتجارب المستكبرين والدول الساطية، وهذا إنما يُعَدّ في المآخذ التي تُرصد على هذه الدول يوما بعد يوم، وهي من باب الكيل بمكيالين أو أكثر.

     

    ونطالع في كل يوم تفاوتا في استخدام الاصطلاحات الإعلامية، كالإرهاب ونحوه، وفي ذلك ما يدعو إلى وضع معجم حضاري دولي، تعتمده كل الأمم، ليس على طريقة لغة الإسبرانتو، ولكن على طريق توحيد المفاهيم؛ كي يتكلم العالم بلغة واحدة قدر الإمكان، فلا يصح أن توصم كلمة بأنها عدوانية، ولا عمل بأنه كذلك؛ ما لم يكن الحكم عليه انطلاقا من حيثياته التي قد تبرره إذا كان ردا لفعل، أو استجابة لتحدٍّ سافر. فالجزاء من جنس العمل، والبادئ أظلم، وإلا فإن معايير العالم ستكون مختلة اختلالا كبيرا؛ يتناقض مع التوجهات المعلنة نحو نشر مظلة العدالة على جميع أهل الأرض. وبهذا التناقض نجد أنفسنا وجها لوجه مع مقولة بوفر:"كان الإنسان المحرّكُ للتاريخ لعبةً بيد التاريخ أيضا."(بوفر، جنرال أندريه، بناء المستقبل،  تعريب أكرم ديري وزميليه، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1976،ص9).

     

     

    لقد حان للمجتمعات أن تراجع واقعها، وهي على هذا الطريق لا بد لها "من التجدّد ومواكبة المتغيرات التي تستجد ليس على الصعيد الإقليمي وحسب، ولكن على الصعيد العالمي، ذلك أن العالم أصبح – كما يقولون – قرية صغيرة" ( جبر، يحيى. تكامل الغاية والوسيلة في التعليم؛ بحث مقدم لمؤتمر تطوير التعليم في البلاد العربية، جامعة الملك فهد 11/2006).

     

    ولما كان لا بد من الاتصال بين الأمم والحضارات؛ فلا بد أن يتخذ هذا الاتصال شكلا معينا، ويخضع لأعراف محددة، ولما كانت المدرسة (بمناهجها) أهم المؤسسات المجتمعية، التي تأخذ على عاتقها النهوض بمهمة التربية والتعليم، والتي تشمل فيما تشمل، تزويد الطلاب بمهارات التواصل، وتعليمهم آداب الاجتماع، ومبادئ التبادل الحضاري، فقد رصدنا بعض الملاحظات حول جمل وعبارات ونصوص استقيناها من منهاج اللغة العربية الفلسطيني للصفوف السابع والثامن والتاسع والعاشر، وهي تشمل بشكل مباشر أو غير مباشر، إشارة إلى شيء من مبادئ التعامل بين الأفراد والجماعات، وأصول التواصل بينهم، وأسس الأخذ والعطاء. وفي ضوء تلك الأسس والمبادئ يمكننا تصور شكل العلاقة المستقبلية. وسيكون حديثنا منصبا على المحاور الآتية :

    ·   التماهي مع أفكار الآخر وقيمه وذوبان الشخصية القومية والخصوصية الفردية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ وردت في درس "دور المثقف في العالم الثالث" في الجزء الثاني من منهاج  الصف الثامن عبارة:"ولهذا الحوار شروط: أولها: عدم اتخاذ آراء بديلة أو مخالفة للآراء السائدة دون مبررات مقبولة".....وهنا نتساءل عن الجهة التي يُناط بها القبول؛ أهي نحن أم الآخر؟

     

    وقبل التعليق على العبارة أود أن أشير إلى تخصيص العالم الثالث بالذكر يوحي بالنظرة الدونية للذات، ولو كان هذا السلوك صادرا عن الآخر لهان الأمر قليلا؛ ولكن أن نبادر نحن إلى تحقير أنفسنا في مقابل الإعلاء من شأن الآخر؛ دون ضرورة، فهذا يستدعي نظرا طويلا، لأن دور المثقف لا يختلف جوهريا سواء أكان في العالم الثالث أم في غيره؛ كما أن الحاجة إلى التغيير لا تبرز إلا حينما تطرأ مشكلة في المجتمع، والنوع الإنساني  يتشابه إلى حد كبير في مواجهته للتجديد والتغيير في كل زمان ومكان.

     

    كما أن في العبارة السابقة دعوة صريحة ومباشرة إلى عدم التفكير بطريقة إبداعية خلّاقة، بل على العكس، نجد فيها توجيها للطالب مفاده ألا يخرج على العرف السائد في المجتمع دون مبررات مقبولة، ولم يحدد المنهاج طبيعة هذه المبررات؛ في حين كان الواجب أن يكون الاتجاه إلى تشجيع الطلبة على النظر في الأمور بطريقة مختلفة، ومن زاوية خاصة بنا، لا سيما أن التغيير والتجديد لا يكونان إلا من خلال أفكار إبداعية غير عادية.

    وفي درس آخر مثل "حقوق الإنسان في القانون الدولي" في الجزء الأول من الصف التاسع نجد أن النص يصور جزءا من العلاقات الدولية على فترات مختلفة من التاريخ، ولكنه لا يشير إلى خروقات القانون الدولي  منذ  ظهوره وإلى اليوم، وبذلك يكون قد قدّم للطالب صورة ناقصة مشوهة عن حقيقة التطبيق العملي لهذه القوانين، إذ كان الأجدر بنا أن نتعرض لخروقات تلك القوانين، ولو على سبيل التمثيل لتكون الصورة متكاملة.

     

    ·   الإكثار من القصص المترجمة ( دون كيشوت، بائعة الكبريت، في الصف السابع، والحلية، وأسرة فقيرة،  في الصف الثامن على سبيل المثال) مع وجود القصص العربية المناسبة فإذا وازنّا بين نسبة القصص المترجمة الواردة في منهاج  اللغة العربية والقصص العربية؛ لوجدناها تقترب من النصف، في حين أن القصص العربية المترجمة في منهاج الآخر لا وجود لها أصلا، وننبه هنا إلى أننا لا نريد مناقشة قضية تدريس القصص المترجمة؛ وإنما نهدف إلى الموازنة بين سلوكنا وسلوك الآخر في هذا المجال؛ إذ لا يُدَرِّس أبناءه نتاج أدبائنا المترجم إلى لغته؛ وتحديدا في المرحلة( الأساسية ) وهذا يعطينا دلالة مهمة تشير إلى طبيعة نظرة الآخر لنا، ولنتاج أدبائنا، ونظرتنا نحن له على نحو غير متوازن.

    ·   المبالغة في الحديث عن التكنولوجيا والتقنية وتكرار ذلك بطريقة خالية من أي قيم، وتدعو إلى الانبهار بالغرب، وقد رُصدت العناوين التالية:

    1.     التقنية، الإنترنت، وذلك في الجزء الثاني من الصف السابع

    2.     المستقبل وتحديات التكنولوجيا، في الجزء الأول من الصف الثامن

    3.     ثورة المعلومات، في الجزء الثاني من الصف الثامن

    ومن الملاحظ أن هذه الدروس توجّه الطالب إلى منتجات التقنية الحديثة دون أن توجهه إلى الطريق الصحيح لاكتساب تلك التقنية، ولا تثير عنده الشعور بأهمية امتلاكها وتصنيعها محليا على طريق توطين العلم والتقنية.

    ·   التباين في نظرتنا للتعايش مع الآخر ونظرة الآخر للموضوع ذاته؛ إذ نلاحظ أن مناهجنا بشكل عام تقوي روح التسامح. وتعمق عند أبنائنا ضرورة التعايش السلمي مع الآخر أيا كان، فمثلا، نقرأ في الجزء الأول من الصف التاسع في درس "الاجتماع الإنساني" ما يلي:

    " وما لم يكن هذا التعاون لا يحصّل له قوت ولا غذاء، ولا تتم حياته؛ لما ركّبه الله ـ تعالى ـ عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته، ولا يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السلاح، فيكون فريسة للحيوانات، ويعاجله الهلاك على مدى حياته، ويبطُل نوع البشر، وإذا كان التعاون قد حصّل له القوت والغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله تعالى في بقائه وحفظ نوعه، فإن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني، وإلا لم يكمل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم، واستخلافه إياهم، وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعا لهذا العلم". وهذا النص وإن كان تراثيا إلا أنه يوظف هنا لمآرب تنسجم مع التوجه العام الذي يدعو إلى التفاهم والتعاون قبل استعادة الحقوق، وفي ظل استمرار العدوان، وأي عدوان!  

    ونقرأ أيضا في درس من "أجل بيئة مأمونة" الفقرة التالية:" من الأمور التي لا مفر من التسليم بها أن كثيرا من الموارد البيئية كالرياح، وخزانات المياه الجوفية، ومجاري المياه السطحية، كالأنهار والبحيرات، ومكامن النفط والغاز، والتغيرات المناخية لا تعرف الحدود السياسية بين الدول. وهذا يفرض علينا التعاون لرعايتها و دراسة مشكلاتها في إطار جماعي".

     

    ونقرأ عبارات من قبيل ما تقدم في الجزء الأول من الصف السابع درسا بعنوان "الألعاب الأولمبية"  ونقرأ في الجزء الثاني المواضيع التالية : الهلال الأحمر الفلسطيني، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، اليونيسيف، وغيرها.........لم ترد فيها عبارة واحدة تحرض على التمسك بالحقوق وصون الكرامة، أو تدعو إلى المنافسة للوصول إلى مراكز صنع القرار الدولي؛ وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة العلاقة التي تربطنا بالآخر، فنحن في حالة صراع فرضه هو علينا، بالرغم من محاولاته تطبيع العلاقات؛ لكن على قاعدة تجاوز ما فات، وفي الوقت ذاته؛ لو استقرأنا مناهجه وما يقدمه لأبنائه لما وجدناه يتجه اتجاهنا؛ بل على العكس من ذلك، إذ يركز جهوده على رسم  صورة لنا سوداوية متطرفة ومتخلفة؛ بهدف زرع الحقد والشعور بالاستعلاء في نفوس أبنائه استعدادا للمواجهة.

    ·   التباين في الصورة التي تقدمها قطع المطالعة والنصوص على نحو يخلق حالة من الصراع الداخلي في نفس الطالب؛ فقطع المطالعة والنصوص تقدم صورا متناقضة للآخر، ففي حين تدعو غالبية قطع المطالعة إلى التسامح والتعايش السلمي والتعاون بين الدول؛ نجد غالبية قطع النصوص الشعرية  تدعو إلى عكس ذلك تماما؛ حيث تدعو بشكل مباشر إلى الانتقام واسترجاع الحقوق وعدم التنازل؛ بل تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين تعمد إلى وصف عمق الفجوة بين "النحن والآخر" وتصوير بشاعة ظلمه لنا ومدى اعتداءاته علينا. فمن ذلك على سبيل المثال قصيدة "الشهيد" لعبد الرحيم محمود، ونص "أحببتك أكثر" لعبد الكريم الكرمي، وفي مقرر الصف التاسع حيث نجد النصوص التالية: شريعة الغاب لأحمد شوقي وسمر في السجن لتوفيق زياد ورسالة من إفريقية لهاشم الرفاعي، وإن كان هذا لا يعني خلوّ قطع المطالعة من الدعوة للثأر وطلب الحقوق، كما نجد في درس شهيدة مسعفة الذي يتحدث عن حياة بلبيسي، وقصة خبز الفداء لسميرة عزام و درس جميلة بوحيرد من مقرر الصف السابع، ونص زائر المساء لخليل السواحري وفلسطين لعلي محمود طه من مقرر الصف الثامن. ولم نذكر هذه الملاحظة جزافا بل لنلفت النظر إلى الصراع الذي يمكن أن يتولد في نفس الطالب حين نضعه أمام هذه التناقضات.

    *********

                    إنّ الحرب تندلع في العقول قبل أن تصير واقعا على الأرض. من ثم فإن فض الصراعات والمنازعات يبدأ بالثقافة والتعليم. ومثلما كان علينا أن نصحح رؤيتنا للآخر كان علينا أيضا أن نطالب هذا "الآخر" بأن يعيد النظر في رؤيته لنا، فالحوار والصراع ـ وهما مصطلحان يستخدمان للتعبير عن العلاقة بين الحضارات ـ يتطلبان أن يكون الطرفان على قدر متقارب من القوة والإمكانات في حين أن هذا الشرط غير متوافر اليوم بيننا نحن والآخر (بين الشرق والغرب) ـ حسب تعريف الآخر في هذا البحث تحديدا ـ وبالتالي لا نرى أيا من المصطلحين السابقين يصلحان للتعبير عن تلك العلاقة، بل لا بد من مصطلح يتوفر فيه معنى أن أحد الطرفين يمتلك القوة والنفوذ، والآخر مغلوب على أمره، ومتحاج للآخر، مثل غزو الحضارات. ومن أجل تعرّف مستقبل العلاقة بين الحضارات، لا بد لنا أن نتساءل ما هي الخيارات المطروحة أمام الحضارات والشعوب؟

    ومما يدعم وجهة نظرنا في تسمية العلاقة القائمة اليوم بيننا وبين الآخر؛ ما ورد في درس "فضل العرب على العالم" الذي ورد في الجزء الأول من الصف السابع؛ حيث نجد  آخر إنجازات العرب وأفضالهم تتوقف قبل عهدنا هذا بقرون، وكأن الأمة أسلمت زمام الأمور لغيرها؛ فمهما تغيرت مسميات تلك العلاقة، ما دام هناك قوي وضعيف، فلا بد أن تسلك العلاقة أحد اتجاهين؛ هما:

    1.  أن يتجه المغلوب إلى الذوبان في شخصية الحضارة القوية، ونسيان ذاته ظنا منه أنه بذلك يجدد نفسه ويكسبها مزايا القوة، وهو في الحقيقة يكون قد خسر ما عنده من مقومات القوة، ولم يضف لنفسه أي جديد.

    2.  أن يتجه إلى  الشعور بالحقد والكراهية تجاه الآخر القوي ـ وهو المحتمل ـ لا سيما إن كان يظلمه و يستغله ومن هنا فقد كثرت مقولة أن الإرهاب قد أصبح صناعة عالمية، وذلك لأن العالم أخذ ينقسم في العقود الأخيرة إلى طبقتين متباينتين أشد التباين، سواء على صعيد المجتمع الواحد، أم على مستوى المجتمعات المختلفة. وما دام في العالم مستضعفون ومقهورون؛ فلا بد أن يحاولوا أن يُسمعوا صوتهم بالطريقة التي يستطيعون.

     

            ولذلك فإن من حق الفلسطينيين أن يرفضوا التدخل في مناهجهم، وأن يصوغوها بما ينسجم مع خصوصياتهم، وتلك شرعة دولية وحق مكتسب. فالتعليم هو سبيل الأمم إلى الحصانة والتماسك، وهو عقار فعال ضد التبعية، وأوضح أعلام الهداية إلى طريق التقدم، وهو العامل الذي به تتحقق الذات، وتتبلور السيادة، ويتضح ذلك في أن الأقاليم الاتحادية تستشعر"غيرة شديدة على سلطتها التعليمية … ولذلك فقد قاومت بضراوة ما اعتبرته عدوانا اتحادياً على اختصاصها في هذا المجال، وأبلغ وصف لهذا الوضع هو حالة جمهورية ألمانية الاتحادية، فبافاريا مثلاً ترفض بصورة قاطعة أي تعديات جديدة على استقلال الكيان المحلي بالوسائل التربوية والثقافية، بل إن هذه الوحدة، أو الكيان المحلي، قد يرى في الاحتفاظ بمسؤوليته الشاملة عن المسائل الثقافية والتربوية ما يشكل محور السيادة التي يتمتع بها ويود الحفاظ عليها" (اليونسكو، عملية التخطيط التربوي، الوحدة الثالثة، التشخيص، أعداد قسم السياسة التربوية والتخطيط، مكتب التراث العربي، الرياض 1992 ص58).

     

    وفي مصر "كان الاستعمار والقوى الرأسمالية يعلمون أن في التعليم يكمن جوهر الوعي والتحضر، وإذا ناله الشعب فسوف تنمو معه الحركة الوطنية، وتزداد بوعيها حتى تدرك العدو الحقيقي لها وللطبقات الشعبية المقهورة"(بدران، شبل، التعليم والتحديث، ط4، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996 149). وقد تنبه لهذه الفكرة قادة الأحزاب والحركات الاجتماعية المختلفة، ليس في مصر وحدها، بل في كل البلاد التي ابتليت بالاستعمار، فقد نشط عبد الحميد بن باديس في الجزائر في ثلاثينات القرن الماضي، وعمل على تأسيس كتاتيب كثيرة أسهمت إلى حد كبير في المقاومة التي شهدتها الجزائر من بعد ضد الاستعمار الفرنسي،"كما قاد الحزب الوطني حركة نشر التعليم الأهلي واتخذ منها سلاحاً قوياً لدفع الحركة الوطنية" (بدران 128).

     

    غير "أن الأهمية العظمى يجب أن تعطى لإسهام التعليم في السلام والتفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب، وبين المجموعات الدينية والعرقية. إن هذا المبدأ يؤكد على قطبي العمل التربوي وهما: تطوير الشخصية الإنسانية، وتقدم المجتمع" (بدران ص16) وهذان هما الوجه الآخر للحياة، وهما وجها الانتفاع المرتبطين بالتعليم على صعيدي الخصوص والعموم.

     

    ولما كان لا بد من تجديد البناء الحضاري للعالم أجمع، بالتحالف بين الحضارات، لا بالحوار فقط، وبالتعاون المثمر بين الأمم والشعوب، فقد بات لزاما على أولي العزم والحكمة وذوي الإرادات الخيّرة والعقول النيّرة من شتى  المشارب والاتجاهات، ومن  مختلف الحضارات والثقافات، أن يبادروا لبناء مستقبل آمن ومزدهر، لا تُنتهك فيه كرامة الإنسان ولا تهدر حقوقه، ولا يطغى فيه القويّ على الضعيف، إنما يحتكم فيه الجميع إلى القانون، وتسوده قيم التعايش والتسامح والمواطنة الإنسانية. فالتحالف بين الحضارات من وجهة النظر العملية، هو من أقوى الوسائل المتاحة لإصلاح شؤون العالم، وللإسهام في إنقاذ الأسرة الإنسانية مما تتخبط فيه من مشكلات تَتَراكَمُ وأزمات تَتَفاقَمُ، فشلت السياسة الدولية حتى الآن في إيجاد تسوية عادلة وحلول حاسمة لها بالدبلوماسية التقليدية، وبالأساليب الاعتيادية التي تفتقر إلى الصدق والجدّية والإخلاص، وتفتقد كذلك إلى العدالة و الروحَ الإنسانية.

    )http://www.islammemo.cc/filz/one_news.asp?IDnews=1079( بتصرف عن

         لقد استخدمت إسرائيل جهاز التعليم العربي أداة لمراقبة العرب والسيطرة عليهم، ويقول بعض الباحثين مثل " إبان لوستيك " وسامي سموحة وغيرهما أن نقطة الانطلاق في تحديد السياسة اتجاه العرب وفقاً لمفهوم "بن غوريون " كانت هي ما قد يفعله العرب وليس ما يفعلونه. هذه المقولة التي تعمل على استغلال التعليم سياسياً من أجل السيطرة على الأقلية العربية في إسرائيل وإخضاعها للمراقبة تتجسد في تدخل جهاز" الشاباك " في عملية تعيين المديرين والمشرفين التربويين العرب؛ لذا فالمواطن العربي الذي يحمل شهادة لا يمكن أن يعثر على عمل ما في السوق الإسرائيلي بسهولة دون أن يتقن اللغة العبرية؛ لأن اللغة العبرية أساسية لمعظم المهن وأداة  للحصول على الثبات الاقتصادي، وهي مهمة في كل المناطق التي يسيطر عليها اليهود وبخاصة في القدس الشرقية، فهناك من ينظر إليها من قبل اليهود أكثر من مجرد لغة، إذ تعدّ رمزاً لدولة إسرائيل (زومبيرغ، جيرين، أزمة اللغة العبرية في القدس الشرقية، (مقال مترجم )  صحيفة القدس ص 10 ، 29/10/2006) .

    أما التيار الآخر فيتبنى المنهج الانفصالي ويرى تطبيق فكرة الانفصال الحضاري بين العرب واليهود، ويحذر من دمج اليهود بالحضارة العربية، ورأى أن تعلم العربية غير ضروري وأن الحضارة العربية متدنية من حيث المكانة.

     

    توصيات لمنهاج لغات رديف:

     

          في ضوء الحقائق والمعطيات السابقة يمكن أن نتوصل إلى المخرجات التالية:

    1.  أن تكرّس المناهج الفلسطينية، ولا سيما مقررات اللغة، الهوية الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني، وانتماءه الحضاري المنسجم مع الرسالات السماوية وفقا لتعدد الديانات في فلسطين.

    2.     أن تركّز مقررات اللغة على الحقوق، وأنه لا سبيل إلى التنازل عن الثوابت.

    3.  أن تتبنى المناهج الفلسطينية، ولا سيما مقررات اللغة، الدعوة إلى العالمية، على أن تقوم على أسس العدل والتعاون بين جميع شعوب الأرض بشكل متزامن.

    4.  أن تسعى المناهج إلى تحبيب الطلبة باللغة وآدابها، وأن تزرع الحمية في نفوسهم من خلال نصوص منتقاة بدقة ووعي كبيرين.

    5.  التيقّظ إلى بعض الاصطلاحات والمفردات الأجنبية التي تنطوي على أحقاد تاريخية ؛ فلا نسمح بتداولها في بعض النصوص.

    6.     دعوة الآخر إلى إعادة النظر في مناهجه بمقدار ما نقوم به نحن، وبشكل متزامن.

    7.     إن مادة النصوص أخطر المواد التي يتربى عليها الطلبة، ولذلك ينبغي أن تعدّ، أو تختار بطريقة محكمة ومدروسة.

    8.  ضرورة عقد مؤتمرات وتنظيم لقاءات بين مدرسي اللغات على الصعيدين الوطني والدولي، لوضع استرتيجية تتناغم مع متطلبات العولمة القائمة على أسس العدل والمشاركة الحقيقية بين الشعوب، بحيث يُتفق على الخطوط العريضة في مجال الأهداف التربوية التي يوجَّه إليها الطلبة من خلال النصوص المختارة، وعلى تقديم صورة الآخر فيها على النحو الذي يريده هو ما دام ملتزما بالعمل المشترك وما يقتضيه من مراجعة للذات.

    9.  أن يُصار إلى إجماع دولي على تحديد كثير من المفاهيم التي هي محل اختلاف بين الأمم، مما لا سبيل إلى تحقيقه إلا إذا توفرت النيات الحسنة والصادقة عند الدول التي تمارس الاستبداد، وإلى أن يتحقق ذلك فلا بد من الحفاظ على الحقوق والثوابت من خلال ما نقدّمه لأبنائنا من وجبات الفكر والثقافة؛ مع استمرار الدعوة لإشاعة العدل في ربوع العالم، والسعي لإقامة مجتمع عالمي واحد.

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me