An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Sunday, June 21, 2009
  • الملح في التراث الشعبي
  • Published at:مجلة مأثورات شعبية/ قطر
  • الملح في التراث الشعبي

     

    أ.د. يحيى عبد الرؤوف جبر

     

    لمحة تاريخية:

                يعد ملح الطعام من أهم المواد الغذائية والسلع التجارية على مرّ العصور، وقد اجتهد الإنسان في الحصول عليه، سواء باستخراجه من معادنه في الأرض، أوبتجفيف مياه البحر والسباخ عنه.

              وقد يكفي لبيان قيمته من حيث هو سلعة تجارية، أن نبين ما كان لتجارته في أواسط إفريقية، وخصوصا في ساحلها الشرقي (زنجبار وتنجانيقة)، تلك التجارة التي كانت تتم على ظهور القوافل إلى أواسط هذا القرن الميلادي العشرين. وقد أدى الاتجار به وبغيره من السلع التجارية في تلك الأقاليم، إلى نشر الإسلام من طريق غير مباشر؛ ذلك أن سكان السواحل الشرقية من إفريقية مسلمون، وخير شاهد على ذلك، ما كان من شأن حميد بن جمعة، الذي كان يعرفه الغربيون ـ الإنجليز والبلجيك ـ باسم "تيبوتيب" والذي أسس إمارة عربية إسلامية قرب شلالات نهر الكونغو، ظلت حتى تمكن الصليبيون المستعمرون من القضاء عليها أوائل هذا القرن.

              وفي الهند ـ على سبيل المثال أيضا ـ كان للملح دور بارز في حرب الاستقلال ـ الباردة ـ الهندية ضد الإنجليز الذي كانوا يعتمدون عليه كثيرا، واستخدم عنصر ضغط على أركان السياسة الإنجليزية.

     

    الملح عند العرب:

              وقد كان للملح عند العرب شأن عظيم منذ القدم، ولنا في استقراء اللغة وشواهدها ما يقرّ بذلك، لا سيما ما يوحي به انتشار الأصل اللغوي "ملحة" في مفردات كثيرة، لا تنصرف لدلالات ومعان مختلفة. وقبل أن نتناول هذا الموضوع بشيء من تفصيل، نتوقف قليلا عند بعض الشواهد التي توضح أهمية الملح.

    ـ فالملح غذاء، ومن أمثالهم: هو ـ أو فلان ـ ملح الطعام. أي أنه زينة المجالس، وحديثه ممتع، تماما، تماما، كما أن الملح لا يحسن أن يخلو منه طعام، لأنه يضفي عليه مذاقا لذيذا.

    ـ والملح علاج،حيث يروى عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قوله: "من ابتدأ غذاءه بالملح، أذهب الله عنه سبعين نوعا من البلاء" (1) وذكر السبعين هنا، دلالة على الكثرة، وليس على ذات العدد. ومما يؤثر في هذا المجال أن صلاح الدين عالج ريتشارد الصليبي بمواد مختلفة من بينها الملح.

              وللملح هنا فائدة أخرى، تتمثل في أنه يسرّع في إخراج الماء من اللحم، والماء سبب العفونة في كل شيء ـ حتى صدأ الحديد ـ كما أنه سبب الحياة في كل حي. ومن قبيل ما تقدم، رشّ الملح على الجلود أول سلخها، حيث يحول دون تعفنها، بما بقي عليها من شحم.

              ومما يُحفظ بالملح الفسيخ، وهو من السمك المملح،وإذا أردنا حفظ الجبن لمدة طويلة، زدنا في الملح بمقدار، ويجتهد مصنعو الأجبان فيذلك، حيث يعلمون درجة الملوحة المطلوبة في الماء، بوضع بيضة فيه، ويظلون يضيفون إليه الملح ـ لرفع كثافته ـ إلى أن تطفو البيضة فوق الماء.

              ونظرا لما تقدم من شأن الملح، فقد عظّمه العرب كما عظموا الماء، فحلفوا بهما (2) وقال أبو العباس: العرب تعظم أمر الملح والنار والرماد (3)، ولعل في هذا ما يفسر تصرف العامة، إذاسقط بعض ملحهم على الأرض، حيث يجتهدون في التقاطه، ذلك لئلا "يعاقبوا يوم القيامة بالتقاطه عن صخور جهنم بأهداب العيون" وكان هذا الاعتقاد سائدا بين أهالي قرى أواسط فلسطين إلى عهد غير بعيد.

     

    الملح في اللغة:

              يؤكد اشتهار أمر الأصل اللغوي (ملح) مكانة الملح في نفس الإنسان، ودروجه في الذاكرة الشعبية، فاشتقوا منه لعلاقة ـ بلونه وبطعمه وبمائه ـ ماء البحر، ومما يسير فيه من مراكب،وغير ذلك من العلاقات التي سنبينها في ما يأتي:

    فالملح مما يطيب به الطعام، وطيب الطعام تنهض به حاسة الذوق،ولكن القوم صرفوا ذلك إلى طيب من نوع آخر، تنهض به حاسة البصر، والعقل، وهو الحسن والجمال من قولهم: فتاة مليحة ... على نحو ما نجده في قول الشاعر:

    قل للمليحة في الخمار الأسود                       ماذا فعلت براهب متعبد؟
    وقول أبي النجم العجلي:

    للشم عندي بهجة ومودة                              وأحب بعض ملاحة الذلفاء (4)
    والملاحة هنا بمعنى الحسن والجمال، لأن الذلف هو صغر الأنف وقصره، وهذا مستحب في النساء.

              والملح غالبا ما يستخرج من ماء البحر، أو الشطوط والشحور والسباخ ونحوها، ولذلك؛ فقد أطلقوا اسم "الملاحة" على المكان الذي يستخرج منه.

    ـ والملح مادة حافظة مضادة للتعفن، ومن استخدامها في ذلك، استخدامها لحفظ القديد وهو اللحم المملح المجفف.

              ولما كانت السفن تبحر فيه، وكان بحارتها يضطرون إلى النزول فيه من حين لآخر، فإذا خرجوا منه وجف ماؤه عنهم، بقي عليهم ملح دقاق، فقد أطلقوا على الواحد منهم "ملاح" وهو النوتي ـ قائد السفينة وصاحبها ـ قال الأعشى (5):

    تكافأ ملاحها وسطها                                    من الخوف كلوثها يلتزم
    وهي الملاحة البحرية، ولكن، لما كان الفضاء كالبحر في زرقته، وانعدام العلامات فيه، فإنهم لم يجدوا حرجا في إطلاق الكلمة نفسها (الملاحة) على الطيران ... فهي إذاً ملاحة جوية.

              وفي الماء الملح و (المالح) يعيش السمك، وهو يكتسب من ملوحة الماء شيئا نافعا، ولذلك فقد أسموا السمك البحري مالحا، قال جرير:

    كانوا إذا جعلوا في صضيرهم بصلا               ثم اشتروا مالحا من كنعد جدفوا (6)
              والكنعد ضرب من السمك، والصير شراب فيه ملح أو خل مع فلفل حار، وهو ما يعرف في الشمال الإفريقي باسم "المصير".

              والملح أبيض، لكنهم لم يكونوا يستخرجونه نقيا، ولذلك فقد أطلقوا كلمتي أملح وملحاء على اللون الأبيض المشوب بسواد قليل .. وفي التهذيب (7) أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحى بكبشين أملحين .. أي تلك صفتهما : أبيضان فيهما سواد قليل.

              وربما استخرجوه من ملاحة تربتها حمراء، فإذا به تشوبه حمرة، ومنه قيل ظبي أملح، إذا كان لونه أبيض ميالا للحمرة، ولكنهم كانوا يدركون أن لونه الحقيقي هو البياض الخالص من كل شائبة، ولذلك، فقد أسموا أحد شهور الشتاء باسم "ملحان" وذلك لبياض ثلجه، وهو كانون الثاني (يناير) فيما يقال (8).

              والملح هو الرضاع، واللبن، ومنها تولد معنى الحرمة، قال أبو الطمحان القيني، وكانت له إبل يسقي القوم من ألبانها، ثم أغاروا عليها فأخذوها:

    وإني لأرجو ملحها في بطونكم                   وما بسطت من جلد أشعث أغبر (9)
              والمعنى: إني لأرجو أن يأخذكم الله بحرمة صاحبها وغدركم به. وقال أبو سعيد (10) والملح في قول أبي الطمحان الحرمة والذمام. ويقال بين فلان وفلان ملح مليحة ... إذا كان بينهما حرمة.

              قلت: ألا يصح أن يكون معنى الحرمة للملح،بمعنى الرضاع واللبن وليس ملح الطعام؟ لا سيما أن الإسلام يحرم من الرضاع مثلما يحرم من النسب؟ وهل يكفي جامع الشبه في اللون بين ملح الطعام واللبن لنقول؛ إنما سمي اللبن ملحا لأنه يشبه ملح الطعام؟ إن يف أهمية اللبن ما يقدمه على الملح.

              وقد يكون لنا في قولهم "ملح فلان على ركبتيه" ما يؤكد ما ذهبنا إليه حيث أورد أبو منصور الأزهريّ (11) في تفسيره قولين هما:

    1.    أنه مضيع لحق الرضاع، غير حافظ له، فأدنى شيء ينسيه ذمامه ، كما أن الذي يضع الملح على ركبتيه أدنى شيء يبدده.

    2.    أنه سيء الخلق يغضب من أدنى شيء،كما أن الملح على الركبة يتبدد من أدنى شيء.

    ولكن أي ملح يريد؟ أهو ملح طعام؟ هذا ما يوحي به الكلام وإن تحدث عن الرضاع. ولكن أليس يمكن أن يكون المقصود هو الذي يرضعه، لا سيما أن الكلام في طفل، لأن الرضاع للأطفال، فكأن هذا الطفل لا يبتلع الحليب الذي يمتصه من ثدي أمه، ولكنه يلفظه من فمه، فيسيل على ركبتيه؟

    وقد يكون المقصود أن فلانا يضع ملح طعامه على ركبتيه، ويمسك خبزه بيديه،فيضع من ملحه على خبزه ويأكل، وفي ذلك ما يمنع أن غيره من أن يمد يده إلى ملحه، وهذا من البخل ما يكفي للذم.

    ولكن الزبيدي (12) عد كل هذه المعاني في المجاز، أعني الرضاعة والذمام والحرمة والذمة،واعتبر الأصل هو ملح الطعام، وتشعبت منه المعاني المختلفة لعلاقات مجازية من شبه اللون أو المذاق أو الطيب ماديا ومعنويا.

     

    الملح في الأمثال

    من الأمثال العربية التي ذكر فيها الملح قولهم السابق "ملحه على ركبتيه" أو فوق ركبتيه. ويضرب للذي يغضب بسرعة، وقيل غير ذلك، على نحو ما تقدم. ومن استخدام هذا المثل في الشعر، قول مسكين الدارمي في امرأته يصفها بسرعة الغضب (13):

    لا تلمها إنها من نسوة                         ملحها موضوعة فوق الركب
    كشموس الخيل يبدو شغبها                 كلما قيل لها هاب وهب
              ومن أمثالهم فيه قولهم: ممالحان يشحذان المنصل (14) ويضرب للمتصافيين ظاهرا المتعاديين باطنا. ذلك ان التمالح يعني التواد، وسنعرض لهذا المعنى بعد قليل. والمنصل والنصل، أي أنهما يستعدان لمصارعة أحدهما الآخر.

              ومن أمثلة العامة في مصر "بينهم عيش وملح" وفي فلسطين وعموم بلاد الشام "بينهم زاد وملح،أو خبز وملح": أي مودة وأخوة، وربما طلب أحدهم من الآخر أن "يمالحه" أي يأكل معه من زاده وملحه كناية عن رغبته في موادته ومصافاته.

              وجدير بالذكر أن هذا الاعتقاد قديم فيما يبدو، حتى قيل إنه يعود بجذوره إلى الجاهلية، بل إن الجاهلية أولى من عصر الإسلام بمثل هذا الاعتقاد (15).

     

    الملح في الموروث الشعبي:

              من التقاليد الشعبية الموروثة، رش الملح في مناسبات كثيرة، وخصوصا في حالات الفرح من ميلاد وزواج، وربما خلطوه بالشعير والطحين، وقد يذرون الخليط على النار، أو يضعون شيئا من المح مع القزحة "الحبة السوداء" في جيب العريس، وهذا كله اعتقادا منهم بقدرة الملح على دفع الحسد ورد العين، ويذهب بعض الناس ـ في فلسطين على سبيل المثال ـ إلى تنقيط الماء والملح في عيني المولود، وربما دهنوا جلده بالماء والملح مع قليل من الزيت، لاعتقادهم في أن الملح يشد الجلد ويكسب الطفل نوعا من الدماثة مستقبلا.

              وفي الجنوب الليبي ـ وتحديدا في بلدتي غات والبركة قريبا من حدود الجزائر والنيجر ـ جرت عادة النسوة أن يخرجن من هاتين البلدتين إلى مكان متوسط بينهما (أقرب إلى غات، والمسافة بينهما نحو 5 كم) ويتبادلن الملح، ويكون ذلك في إقبال فصل الربيع، فكأن في ذلك علامة على تجدد الحياة.

              ويستخدم العامةفي ليبيا وتونس كلمة "مملح" بمعنى سيء نعتا للحال، فإذا سألت أحدهم كيف حالك، ولم يكن في حال خير أجابك بقوله "مملح". وما ندري كيف تسللت هذه الدلالة للذهن الشعبي، ولعلها إنما كانت لعلاقة باستخراج الملح من "الملاحات" والسبخات والشطوط، وهي مهنة شاقة وعسيرة.

              وربما كان لهذه المشقة، أثر في توليد المعتقدات المختلفة حول الملح، فنثره على الأرض أو بعثرته،يؤديان إلى ما لا تحمد عقباه، لأن فيهما عدم تقدير للجهد الذي بذل في جمع ذراته واستخراجها،والمخاطر التي جابهها الإنسان حتى تمكن من جمعها.

              كما نرى أن حاجة الإنسان إلى الملح قديما، كانت أبلغ من حاجته إليه اليوم، ذلك انه كان دائب الحركة، وأعماله كلها شاقة، وهذا يعني انه كان يفقد مزيدا من المح، فيما يفيض به جسده من العرق.

     

    الهوامش:

    1.    حسن الباشا وزميله ـ المعتقدات الشعبية ط: نشر دار الجليل ص:361.

    2.    ابن منظور ـ لسان العرب (ملح 2/601)

    3.    المصدر نفسه والجزء ص:605.

    4.    سليمان بن بنين ـ اتفاق المباني وافتراق المعاني، تحقيق يحيى عبد الرؤوف جبر، ط: دار عمار 1985 ص: 261.

    5.    الأزهري ـ أبو منصور ـ تهذيب اللغة (الملح) وهو في ديوانه ص:31 برواية تكأكأ.

    6.    ديوانه ص:374.

    7.    الأزهري ـ مصدرسابق (ملح).

    8.    ابن منظور ـ مصدر سابق 2/603.

    9.    ابن دريد ـ جمهرة اللغة ـ طبعة حيد آباد الدكن 2/191.

    10.                      ابن منظور 2/605.

    11.                      الأزهري (ملح) وانظر المثل في البيت التالي.

    12.                      الزبيدي ـ تاج العروس ـ (ط الكويت) 7/146 ـ 148.

    13.                      الميداني ـ مجمع الأمثال 2/317، 318.

    14.                      المصدر نفسه 2/373.

    15.                      مجلة التراث الشعبي العراقية ـ العدد 4 كانون أول ديسمبر 1969 ص: 126.

    16.                      الكسندر هجرتي كراب ـ علم الفلكلور ص:358 عن المعتقدات الشعبية ص:362.



     
  • Bookmark and Share Email
     
  • Maisa Qut said...
  • Thank you very much Dr you remembered me with your lesons . I wish to be your student another time in master. best maisa
  • Monday, September 7, 2009
  • Maisa Qut said...
  • Thank you very much Dr you remembered me with your lesons . I wish to be your student another time in master. best maisa
  • Monday, September 7, 2009
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me