An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, February 9, 2009
  • انهيار المادية (نشر في الدستور الأردنية عام 1989 غداة الإطاحة بتشاوتشيسكو)
  • Published at:Not Found
  • انهيار المادية([1])

     

              وأخيراً انهارت دولة نقولاي تشاوتشيسكو الذي عب من كؤوس الحياة أرغدها وأترعها، ومن قبل انهارت الامبراطورية الرومانية التي أرّخ لاضمحلالها وسقوطها المؤرخ جبن في كتابه  The Fall And Decline Of Roman Empire.

    ونعتقد أن هذا المؤلف لو كان له أن يعيد تأليف كتابه لأبقى على عنوانه كما هو، وضمنه حيثيات وأسباباً غير التي أوردها وزيادة عليها، ولكان له في ما جرى بالأمس القريب في رومانيا معيناً واسعاً يستقي منه مادة ثرية لكتابه.

    ومن الجدير بالذكر هنا أن النقمة الشعبية في رومانيالم تكن موجهة إلى العائلة التشاوتشسكية لأنها استبدت وأترفت على حساب الناس، ولا لأن الرئيس أمر الجيش بحصد الجموع، ولكنها كانت موجهة إلى أبعد من ذلك، لكن تلك العائلة كانت في الطريق فلحقها ما لحقها، وهذا يجعلني أقول أن سلسلة المتغيرات لن تتوقف في رومانيا إلا بعد حين.

    غير أن رومانيا لم تكن وحدها في حومة المتغيرات، فأحداثها الدموية تذكرنا بانهيار سد مأرب، ولكن أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي-على الأقل في الوقت الحاضر-ما فتئت تشهد أنواعاً متباينة من القلاقل والمتغيرات التي تتلاحق بسرعة خيالية، وتحدث نتائج لم تكن في حسبان أحد-حتى حاسوب البيت الأبيض-فمنذ أن جمع غورباتشوف أَزِمَّة السلطة في يده، وبدأ السلسلة السحرية المسماة (بروسترويكا) راحت مجريات الأمور في حلف وارسو تأخذ أبعاداً غير طبيعية، وقد حاول هو وريجان أن يزعزعا الصين الشعبية لكن القوم هناك كانوا متيقظين وحصدوا من الرؤوس ما كان كافياًُ لتجاوز المفصل التاريخي الذي أرادوه بداية لحقبة جديدة في تاريخ الصين.

    وربما كان الوقت مبكراً للتنبؤ بمستقبل أوروبة وما نرى أوروبة الغربية بمنجاة من العذاب الذي تكتوي به الدول الشيوعية والمؤسسات الرسمية والحزبية بأوروبة الشرقية، غير أنه من غير المتوقع أن تبلغ الأحداث في أوروبا الغربية درجة الحدة والعنف التي بلغتها أحداث أوروبا الشرقية. وما يدفعنا إلى القول بما تقدم هو أن أوروبا الغربية مهيأة هي الأخرى لمثل ما حدث في شرقها مما يلتقي فيه القسمان، ومعهما أمريكا وكندا، من توجه مادي، حيث حاربت الأحزاب الشيوعية العقائد الدينية التي كانت سائدة في بلادهم من ديانة إسلامية أو مسيحية، وأسسوا أنظمتهم على أسس من الفكر الماركسي المادي، الذي بالرغم من مرور عقود كثيرة عليه وهو مطبق في دول حلف وارسو، إلا أنه لم يفلح في تثبيت أركانه، ولم يصمد طويلاً أمام الجماهير الغاصبة، بالرغم من أن ماركس ومن تبعه من مشايعيه يدَّعون أنهم إنما يريدون خير الإنسان وخير الجماهير، يحسبون أن النظريات المادية صالحة لتحقيق الخير أي خير، وأنها قادرة على الثبات والاستمرار، فكانت الحقيقة في أوروبا الشرقية حين قوّض الأوروبيون ذلك البنيان (الشيوعي) الكرتوني في بضعة أشهر … مخالفة بذلك قانون الطبيعة المتمثل في أن الأشياء التي تسخن ببطء تبرد ببطء، ومرد ذلك إلى أن الشيوعية والمادية تخالفان في حقيقة أمرهما قانون الطبيعة والفطرة.

    إن ما حدث في دول أوروبا الشرقية من تغيرات مثيرة للدهشة هو ترجمة حقيقية لرحلة البحث عن الذات الثابتة، والبحث عن العقيدة التي من شأنها أن تُرَسِّخ تلك الذات، وتكسبها عمقاً في أبعادها ووجودها، وما نرى العالم الغربي ببعيد عن هذا المفصل التاريخي، لأنه وإن سيس زعماؤهم المسيحية في حركات وأحزاب واتجاهات سياسية ظاهرها فيه رحمة له وعذاب لغيره، إلا أن الإنسان الغربي يفتقر إلى الحياة الروحية، ذلك بما ملأ به سمعه وبصره من المادة التي عبدوها فإذا هم والشيوعيون في كفة واحدة، كلهم يدينون بالمادة، ويتعلقون بأسبابها، ويفلسفون حياتهم على الطريقة الميكافيلية، تحقيقاً لمقتضياتها، وإن اختلفوا في أساليبهم، فرأسمالية الحزب الشيوعي بتحكمه في مقدرات البلاد والعباد، وهو لا يمثل في أحسن الأحوال أكثر من 10% من مجموع السكان، هذه الرأسمالية التي أتاحت امتلاك السيارات الأمريكية في موسكو، واليخوت الخاصة في بولندا، وأكثر من ذلك في رومانيا، هذه الرأسمالية لا تختلف كثيراً عن رأسمالية الشركات العالمية في أمريكا وأوروبا الغربية، ولا عن المؤسسات الإمبريالية في العالم الغربي.

    إن الذي انهار بالأمس في رومانيا ليس هو تشاوتشيسكو، والذي انهار في برلين ليس سورها، والذي بات يتداعى هنا وهناك في دول المعسكر الشرقي ليس هو الأحزاب الشيوعية، إن الفلسفة المادية برمتها هي التي تتهاوى وتتداعى على مؤذنة بالانهيار التاريخي المفصلي. أرادوا للإنسان أن يعيش بلا دين، كافراً بالله، عابداً لمخلوقاته، ومتخذاً منها غايته العليا، وحشدوا لذلك، وتمكنوا بالقبضات الحديدية من فرض أنفسهم، فدار الزمان، فإذا بالشيوعية في أوروبا أثر بعد عين، كأن لم تغن بالأمس، فمن كان يصدق أن زعيم رومانيا كان سينتهي إلى ما انتهى إليه؟ من كان يخطر بباله أن شيئاً مما يجري كان سيجري؟ ومن يدري! فلعل الأيام والشهور المقبلة حبلى بأحداث جديدة أغرب وأبعد وأعمق أثراً في تاريخ الإنسانية؟([2])

    إن الحركة الصهيونية التي كادت للعالم بأسره، وخصوصاً لروسيا القيصرية والدولة العثمانية، للأولى كمنافس على السلطة والحق المزعوم في القدس، والثانية كقيم كان آنذاك حقيقة على القدس، إن هذه الحركة ما زالت تجني ثمار تآمرها في أماكن عديدة، وإن أوروبا الشرقية على الأقل لن تفلت من أخطبوط الصهيونية، وإن نجحت في دك أركان الشيوعية، ذلك أن على أوروبا أن تفيق من سكرتها، وتقلع عن طغيانها، وتؤمن بالله الخالق إلهاً واحداً لا شريك له، وتتحرر من حبائل الصهيونية والأطماع الاستعمارية المستحدثة.

    إن الحركة الصهيونية التي تمكنت من خلق كيان يهودي في فلسطين باتت تتهاوى هي الأخرى أمام حركة المد المؤمن على أيدي المجاهدين في الأرض المقدسة … ولئن نجح ريجان في اصطياد الدب الأكبر – الاتحاد السوفياتي، فإن فوق كل كبير من هو أكبر، وفوق كل قوي من هو أقوى، والله ربنا الأكبر من كل كبير، وهو الأقوى من كل قوي … وإنما يستمد المؤمنون قوتهم من الله، وهم بذلك أقوى من الـ Moral majourity التي تقوم على أسس صهيونية تلمودية زينت لنفسها سوء أعمالها.

    إن العالم ينقلب ولا يكاد يفيق من سكرته حتى ينزلق على دروب الطغيان المسلح والكيد الشيطاني، ولكن الشعوب، فيما يبدو قد بدأت صحوتها، وإنما يبدأ الشكوى أكثرهم ظلماً، ولقد كانوا في أوروبا الشرقية أكثر أهل الأرض ظلماً، ذلك حين أراد لهم الماديون الشيوعيون أن يكونوا كالبهائم لا دين لهم ولا ملة، وهم اليوم، وإن صحوا، إلا أن الطريق أمامهم طويل، وعليهم أن يبدأوا رحلة البحث عن العقيدة، لأن العقيدة هي الأساس الذي تقوم عليه الذات، وتنعقد عليها أركانها، وبذلك يقوم البناء المتين، وينعقد عقده، فإن اكتفوا من قيامتهم بالثأر من الشيوعية كانوا كمن اكتفى بمعاقبة اللص الذي تسلل إلى بيته دون أن يحصن بيته ضد اللصوص احتساباً لما يمكن أن يحدث فيما بعد.

    وعلى العالم الإسلامي في هذه الآونة أن يفيق هو الآخر من غفوته، وأن يستعد لما يمكن أن يتبلور في الولايات المتحدة وفي أوروبا – شرقها وغربها – من تحالفات جديدة قد تكون موجهة بشكل مباشر ضد الأمة الإسلامية، استمراراً لما شهده ذلك المعسكر في القرون السابقة. هذا بالرغم من أن المتوقع في القريب غير البعيد أن يحتدم الصراع داخل ذلك المعسكر نفسه، وتلك أيضاً فرضية ينبغي علينا أن نعد لها ما يناسبها.

    إن أحداث العالم تتوالى بسرعة فائقة، وتتطور بشكل خيالي، ويستبد بالأقوياء طغيان القوة، ويجدّون في الفرعنة، وكأنهم يريدون أن يقولوا للناس على سطح الأرض ( أنا ربكم الأعلى ) وقد حان للعدل أن ينتشر في أرجائها، وللظلم أن ينمحق، وللاستكبار أن يزهق، فوالله إن ما جرت به الأحداث في أوروبا لشيء عظيم ينبئ عن شيء أعظم، ويشكل إرهاصاً لميلاد جديد على كرة الأرض، فعجل اللهم بفرجك الشريف أنت مولانا فانصرنا على القوم الظالمين.



    ([1])  نشرت هذه المقالة في جريدة الدستور الأردنية 3/1/1990، غداة مقتل تشواتشيسكو.

    ([2])  نشرت هذه المقالة قبل أحداث كاليفورنيا في الولايات المتحدة.

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me