An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, March 23, 2009
  • قراءة الاستماع
  • Published at:مجلة التربية / قطر
  • قراءة الاستماع

    أ.د. يحيى جبر

    ملخص

              يتناول هذا البحث موضوعا على قدر كبير من الأهمية، وقد طالما أولاه  علماء العرب من الاهتمام ما يستحقه، فكان للسماع عندهم دوره الكبير في استخراج القواعد وبناء العلوم، واكتساب المعارف.

              وقد عرضت فيه لتعريف القراءة من وجهتي النظر اللغوية والاصطلاحية، ثم ذكرت أنواعها مدخلا فيها إلى جانب قراءة الاستماع، قراءة التدبر والتأمل، وخلصت من ذلك كله إلى ما بينت فيه أهمية القراءة بوجه عام، وانتقلت بعد ذلك إلى ما فرّقت به بين السمع من حيث هو فطرة لا قصد فيه، وبين الاستماع من حيث هو مهارة مكتسبة مقصودة.

              وفي "الاستماع قراءة" استعرضت مفردات الجملة الصوتية من كلمات لدلالاتها وتنغيم وشدة صوت، ودلالته على المتحدث وما تقود إليه هذه المفردات من تغيرات تظهر في سلوك المستمع، وتناولت في هذا المجال التسميع والتتبيع من أساليب التدريس التقليدية، التي يحسن بالتربويين المحدثين أن يولوها مزيدا من الاهتمام.

              وأخيرا، ما دام الاستماع مهارة مكتسبة، فهو إذا قابل لأن يُعلَّم، ولأن يكون مجالا للتفاوت من إنسان لآخر، وهذا ما تناولته الدراسة في صفحاتها الأخيرة، وخصوصا العوامل التي تتحكم في فاعلية الاستماع.

              وقد ربطت بين القديم والحديث، وأكثرت من الشواهد القرآنية، وقرنت بين وجهة نظر العرب وما توصل إليه الغربيون في مجال الاستماع  ... القراءة ... وقد لا يكون غريبا أن نقول أن للعرب سبقا في هذا المجال ... والفضل في ذلك للقرآن الكريم الذي أولى حاسة السمع اهتماما كبيرا.

     

             

     

    ما هي القراءة لغة؟

              القراءة "فِعالة" من الأصل اللغوي (ق ر أ)، وينصرف هذا الأصل لدلالة أصلية تقع على معنى التتبع والانتقال من شيء إلى آخر من جنسه، ويشاركه في هذه الدلالة إلى حد كبير الأصل (ق ر و) لا سيما أن الهمزة في كثير من الأحيان تكون منقلبة عن واو أو ياء. قال الليث: يقال: "الإنسان يقتري فلانا بقوله، ويقتري سبيلا، ويقروه أي يتبعه، وقروت البلاد قروا ... إذا تتبعتها تخرج من أرض إلى أرض. وقال ابن سيده: قرأ الأرض قروا واقتراها وتقرّاها  واستقراها؛ تتبعها أرضا أرضا، وسار فيها ينظر حالها وأمرها. وقال بعضهم: مازلت أستقري هذه الأرض قرية قرية، وقرت السحابة الأرض إذا تتبعتها بمطرها (لسان العرب قرأ، قرو).

              قلت: وإنما يفعل القارئ في كتاب الله عز وجل وفي غيره من الكتب مثل ذلك، حيث يتتبع بنظره الكلمات واحدة إثر واحدة، وهذا يؤكد ما نرجحه من أن الدلالة اللغوية إنما تكون للحرفين الأول فالثاني من الأصل اللغوي؛ فكل قاف فراء إلى تكرار متقطع، تماما كما تتكرر المفردات في الكتاب منقطعة إحداها عن الأخرى.

    واصطلاحا:

              تطور مفهوم القراءة في القرن الحالي تطورا كبيرا، فلم تعد القراءة ترجمة الكلمات المكتوبة إلى أصوات ننطقها، أو بعبارة أخرى، علاقة بين حاسة البصر وجهاز النطق، كما أنها لم تعد محدودة في ما توجه إليه من فهم المادة المقروءة، ذلك أن أغراض القراءة تختلف من حال لأخرى، ومن قارئ لآخر، إذ نجد منهم من يقرأ لينتقد أو يحلل أو يعلل أو يستمتع، فهي إذن بذلك "أسلوب من أساليب النشاط الفكري في حل المشكلات، يبدأ بإحساس الإنسان بمشكلة من المشكلات ثم يأخذ في القراءة لحل هذه المشكلة، ويقوم في أثناء ذلك بجمع الاستجابات التي يتطلبها حل هذه المشكلة من عمل وانفعال وتفكير"  (خاطر وآخرون، ص99، 1986).

     

    أنواع القراءة:

              إن القراءة بالمفهوم السابق تتضمن أنواعا من المناشط العقلية المشابهة تؤدي جميعها إلى الغرض نفسه، كما أن في ذلك ما يخرج بالقراءة عن كونها تتبع الحروف بالعين ـ سواء ارتفع الصوت بتلك الحروف أم لم يرتفع ـ وحسب. ويكسبها دلالة تتمثل في أنها وسيلة يتمكن بها الإنسان من تحقيق معرفة أو كشف عن حقيقة بالنظر في معطيات ومدخلات بعينها، سواء كانت رموزا مجردة Verbal ، كحروف الكتابة والإشارات ونحوها، أو كانت مخلوقات أو أجساما من أي نوع كان، فهي تعبر بذاتها عن حقائق تكمن وراءها أكبر منها، كاستقراء آيات الكون من تعاقب ليل ونهار، وحر وبرد، وصيف وشتاء، والمخلوقات ما ضخم منها كالشمس والقمر، وما صغر كالذرة ومكوناتها، والتوصل بذلك إلى عظمة الحالق وبديع صنعه وقدرته، وكالاستدلال بالأثر على صاحبه، وبالبعرة على البعير.

              إن القراءة بعبارة أخرى، هي كل نشاط يتمثل في التوصل إلى مخرج (Output) أيا كان نوعه، استمدادا من مدخل (Input)  أو أكثر يتم عرضه على العقل بمفرده، او على العقل وإحدى الحواس، ويمكن أن نجمل أنواع القراءة في ما يلي.

    1.     القراءة الجهرية، سواء أكانت في كتاب أو نحوه، أو كانت عن ظهر قلب، وشرطها أن يرتفع بها الصوت.

    2.     القراءة الصامتة، وتتم بالعقل والحس، وهي نوعان:

    أ ـ القراءة بالعين والعقل في كتاب أو نحوه.

    ب ـ القراءة بالعين وغيرها من الحواس في الكون والطبيعة، وهي بذلك نوع من الاستشعار والاستقراء، ويمكن أن نطلق عليها اسم قراءة التدبر والتأمل، ولا تكون إلا بمشاركة العقل.

    3.  قراءة الاستماع، وهي قراءة الصوت بالأذن، وهي موضوع هذه الدراسة، وإنما استحقت أن تسمى قراءة أسوة بما تقدم من الأنواع، لأنها جميعا تؤدي الغرض نفسه، وبدقة قد تكون أكثر مما يتحقق بالقراءة الجهرية، لأنها تقوم على أساس من تتبع المدخلات (الإشارات والرموز والأصوات ونحوها وهو مايسمى بالمتلقى) وهذه الدلالة (التتبع بالحس والعقل أو بالعقل وحده) هي القاسم المشترك بين جملة المعاني التي ينصرف إليها الأصل اللغوي (ق ر ا) والأصل القريب منه (ق ر و).

     

    أهمية القراءة:

              تتضح أهمية القراءة في مواقف كثيرة، وحوادث مشهورة كان لها في التاريخ أثر عظيم، ويكفي لتأكيد هذه الحقيقة ما أُثر من خبر تنزّل الوحي بادئ الأمر على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مؤذنا بابتداء الرسالة، حيث توجه له جبريل عليه السلام بقوله: اقرأ، فقال ما أنا بقارئ، وأعادها عليه، وأعاد له الجواب نفسه، فكانت كلمة "اقرأ" أول كلمة تنزل في كتاب الله، وسورة العلق أول سور القرآن الكريم حيث قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم"  (سورة العلق ـ الآيات 1ـ 5). والربط بين القراءة والعلم والقلم واضح في هذه الآيات على أشد ما يكون الوضوح، وفي هذا ـ لعمري ـ درس عظيم لمن أراد أن يتعلم، وعبرة لمن أراد أن يعتبر، ولعل هذه الحقيقة هي التي حدت بهيوز   Huez إلى القول "ما تزال القراءة الصحيحة أنبل الفنون، والوسيلة التي تنقل إلينا أسمى الإلهامات وأرفع المثل وأنقى المشاعر التي عرفها الإنسان ... يا لها من هبة إلهية حقا، الكلمة المكتوبة، والقدرة على تفسيرها" (Guez 1919, p.5) .

              وسنعرض في هذه الدراسة للاستماع من حيث يشكل هو والنطق بعديها الأساسين. وما القراءة إلا نطق يسمع حتى لو كان خفيا (صامتا) وكذلك لو لم يكن يسمعه إلا القارئ نفسه. ومن هنا كان المستمع لما يقول من كلام مباشرة أو مسجل أو نحو ذلك قارئا، يحقق بالاستماع ذات الفائدة ذاتها التي يحققها القارئ، بل رب مستمع أوعى من قارئ. ولتوضيح العلاقة بين النطق والاستماع نقول: إن الصوت يمثل مادة كل منهما، ذلك انه في فم القارئ نطق، وفي أذن المتلقي استماع. وقد يقال هنا: فماذا عن القراءة الصامتة؟ فنقول: إن هي إلا عملية لغوية مختزلة، لم يتردد فيها الصوت في الهواء، وإنما جرى تبادل الإشارات عبر دوائر الإرسال والاستقبال الدماغية المغلقة، وكذلك الحال في عملية التدبر والتفكر والتأمل، حيث تتم العملية على أعمق ما تكون، وبصمت رهيب، وأحيانا بتعطيل الحواس وإغماض العيون تحقيقا لمزيد من الاستغراق في التحليل والكشف.

     

    السمع والاستماع

              تتفاوت المعاني اللغوية باختلاف ألفاظها، وفي سنن العربية حقائق ومظاهر كثيرة تعكس هذه الحقيقة، ذلك أن كل اختلاف في اللفظ كائن لاختلاف في المعنى، ولو تمثل ذلك في حركة واحدة، كما هي الحال في البُرّ: القمح والحنطة، والبِر: بر الوالدين، والبَر: عكس البحر. وانطلاقا من الفارق اللغوي بين كلا اللفظين: السمع والاستماع، نستطيع أن نقول إن في الاستماع تكلفا وقصدا من المستمع وتعمدا، بينما يتم السمع دون قصد، وبعبارة أخرى: أن السمع هو حسُّ الأذن ونشاطها المتمثل في تلقي الأصوات وتوصيلها إلى العصب المختص بإدراك الذبذبات الصوتية، أما الاستماع، فهو تكلف التلقي، والحرص على توصيل الذبذبات إلى عصب السمع، من باب الاهتمام بما يلقى من حديث أو يسمع من تسجيل.

              والسمع بالنظر إلى ما تقدم، هو فطرة ونشاط لا إرادي بالنسبة لغير الصم، وفي الأحوال الطبيعية، أما الاستماع فهو مهارة تحتاج إلى دربة وتركيز وإعمال الذهن، وغالبا ما يلازمها سكون وإنصات ... لإدراك المعاني المقصودة التي يتحقق بها غرض الملقي.

              وتتضح أهمية الاستماع والإنصات ودورهما في تمام العملية اللغوية (ودروس الحساب والعلوم جزء من العملية اللغوية) وتحقيق الهدف المنشود من وراء الرسالة المنقولة في قوله تعالى "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون" (سورة الأعراف ـ الآية 204) . إذ المقصود: تكلفوا السمع، وتعمدوا السكوت والسكون (أي ركزوا) لتفهموا وتنتصحوا، لأن في ذلك طاعة تؤدي إلى الرحمة التي قد تنالونها بما فعلتم. والإنصات والاستماع متقاربان في الدلالة، ولكن أحدهما قد يوقع مكان الآخر، ذلك لتلازمهما، ولأن الاستماع الجيد لا يتم إلا مع الإنصات. قال تعالى: "فلما حضروه قالوا أنصتوا، فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين" (سورة الأحقاف ـ الآية 29) . والآية في نفر من الجن صرفهم الله عز وجل ليستمعوا القرآن، وقولهم أنصتوا يعني استمعوا، فلما أنهى القارئ قراءته (وأنهوا عملية الاستماع وفهموا ما سمعوه جيدا) أسرعوا إلى قومهم ينذرونهم بما سمعوا.

              ويؤكد هذهالعلاقة بين الاستماع والإنصات قول الطرماح بن حكيم الطائي في خراف آنست صوت ذئب:

              يخافتن بعض المضغ من خشية الردى                        وينصتن للسِّمع إنصات القُناقِن
                                                                                 (لسان العرب: نصت)

    وإنما سمي الذئب سِمعا لشدة حاسة السمع عنده، والقُناقِن هو الذي يستطيع أن يحدد موضع الماء تحت الأرض بعلامات وظواهر يجربها، وأحيانا بتسمع حركته تحت السطح. وجدير بالذكر أن من العرب من يحسن ذلك إلى يومنا هذا. وقد وقفت على ذلك بنفسي في جنوب المملكة العربية السعودية ومنطقة غات في الصحراء الكبرى.

              ومعنى البيت السابق أن هذه الخراف لم تعد تمضغ طعامها المضغ المعتاد خوفا من أن ينتهي صوته إلى الذئب، فيحس بها، ويعلم بمكانها، وينقض عليها، وهي بذلك تشبه المنقب عن الماء تحت الأرض، وقد وضع أذنه على سطحها يتسمع صوت جريان الماء من تحت، فهو لا يُحدث حركة لأن في ذلك ما يشوش على سمعه، وجدير بالذكر أن الصوت لا ينجم إلا عن حركة، ولا حركة إلا بتوفر عنصرين على الأقل، لن الصوت إنما ينجم عن احتكاكهما.

              وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تؤكد ما للاستماع من دور في تحقيق الغرض الذي يهدف إليه الملقي، وقد نكتفي بشاهد واحد يوضح ما نحن بصدد توضيحه، ذلكم هو أن الله ـ عز وجل ـ كلم موسى بقوله: "وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى" (سورة طه ـ الآيات 13 ـ 16). مستخدما عبارة "فاستمع" ذلك أن الأمر عظيم، والموقف جليل، والخبر الذي سيلقى عليه خبر خطير ... ولذلك فقد قدم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بأنه اختاره دون قومه ... وفي هذا تمهيد لعظمة ماسيُلقى، وأن الرسالة (الوحي) تتمثل في أمور جسام تتطلب وعيا وتركيزا واهتماما شديدا، وهي: أنه الله لا إله إلا هو، وأن الساعة آتية، ويترتب على هذين ضرورة العبادة لله وحده، وإقامة الصلاة، وألا يغفل العمل لما بعد الساعة. باختصار، إن السمع يتجه بذاته والاستماع يوجه برغبة المستمع، والسمع فطرة تخلق مع الإنسان، والاستماع مهارة يكتسبها الإنسان، وقد تسمع طرفا من حديث فتدرك أهميته، فتستمع إلى بقيته ... لاحظ الفرق بين "تسمع" عرضا دون تركيز و"تستمع" قصدا مع تركيز.

              ونظر لما للاستماع من دور في التعليم والتواصل والتأدب، فقد أولاه العرب قسطا من اهتمامهم وعنايتهم، وداروا حوله بنصائحهم وإرشاداتهم، ومن مأثور أقوالهم في ذلك، ما نصح به رجل ابنه من قوله: "تعلم حسن الاستماع قبل أن تتعلم حسن الحديث" لأن الحديث من المتكلم عطاء، ومن المستمع أخذ وفائدة، وهذا الرجل يريد لابنه أن يتزود من العلم بما يصلح به حاله، وفي هذا القول ما يؤكد أن الاستماع مهارة، وقد أوجز ابن المقفع في كتاب الدب، ما يحسن بالمرء أن يتحلى به في المجالس وغيرها فقال: "إذا كلمك الوالي فأصغ إلى كلامه ولا تشغل طرفك عته بنظر إلى غيره، ولا أطرافك بعمل، ولا قلبك بحديث نفس، واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعاهدها بجهدك" (ابن المقفع ـ ص52، 1981).

              ولئن كانت هذه النصيحة موجهة لمجالسي الولاة والحكام، فإنها جديرة بأن تكون موجهة لمجالسي العلماء والمؤدبين ونحوهم، وهي تجمل لنا المواصفات التي تكفل الاستماع الحسن المؤدي إلى الفائدة المرجوة وتلك هي:

    1.     أن يكون مع الاستماع إصغاء، وهو الإنصات والإصاخة، والصمت والسكون، والسكوت المتعمد بقصد التركيز.

    2.  أن يكون مع الاستماع نظر إلى المتحدث، لأنه ربما حمل ملامحه إشارات تعبيرية توضح معاني حديثه وتؤكدها، إضافة إلى ما في ذلك من تأدب واحترام.

    3.     أن يكون مع الاستماع سكون الأطراف، فلا يحسن بالمستمع أن يحرك يديه ورجليه إلا ما اقتضته الضرورة.

    4.  أن يكون مع الاستمتاع إخلاد لما يسمع، أي تركيز ووعي، وإلا فما جدوى الإنصات لحديث بظاهر الحواس بينما يتردد في النفس حديث آخر؟؟؟ وما أشبه هذه العملية بصب الماء في وعاء ممتلئ بالماء، أليست من العبث بمكان يشهد بالسفاهة؟

    5.  أن يتحول الاستماع إلى سجية ومهارة عند المستمع، بحيث لا يتكلفه تكلفا، وإنما يجد نفسه معتادة عليه كلما لزمه، وهذا ما عبر عنه ابن المقفع بقوله: "وتعهدها من نفسك" يعني حسن الاستماع، وذلك بالتدرب عليه.

    وتمثل هذه المواصفات للمستمع الجيد من وجهة نظر ابن المقفع، نوعا من أنواع البلاغة، ومجالا من مجالاتها، هو بلاغة الاستماع. قال اسحق بن حسان: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع احد قط، سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكون، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا . (الجاحظ د.ت 1/115، 116).

    وتوجيه ما تقدم من أمور ينبغي أن تصاحب الاستماع، هو أن كلا منها يتطلب قسطا من الانتباه، ويشغل جانبا من الفكر، وفي هذا ما يحول بين الاستماع وبين ما يتطلبه من اهتمام وانتباه، وفيه ترجمة دقيقة لقوله تعالى:"ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" (سورة الأحزاب ـ الآية 4). فيدرك بهما شيئين مختلفين في الوقت الواحد وبالدرجة نفسها من الإدراك.

    وقد اجتهد علماء التربية المحدثون في رصد الصفات التي يمتاز بها المستمع الجيد انطلاقا من الوظيفة التربوية التي ينهض بها الاستماع من حيث هو فتن ومهارة، وليس بوصفه ضربا من ضروب التأدب في المجالس على نحو ما وجدناه عند ابن المقفع، وإن كان في ما أشار إليه من صفاته ما يبرز عن نظرة علمية وتربوية عصرية.

    فمن صفات المستمع الجيد انه يعرف كيف يستمع إلى الآخرين، وأنه لا يستمع إلى الأشياء المختلفة بأسلوب واحد ... هو ذلك الذي يستطيع انتقاء ما ينبغي أن يميز بين هذه الأفكار وبين الأفكار الثانوية ... وبين ما هو حقائق وما هو آراء في ما يستمع إليه. وإنه هو الذي يستطيع متابعة الحديث بالشكل الذي يمكنه من إكماله في حالة ما لو سكت المتحدث، أو عجز عن اختيار التعبير المناسب ... والمستمع الجيد ينقد ما يسمعه في ذهنه، ويتابع المتحدث في ما يقوله كله، ويعرض ما يأتي به، على ما يحتفظ به في ذاكرته فيقارن بينهما ويلاحق" (خاطر وآخرون، ص168 ـ 169).

    وبعبارة أخرى، فإن المستمع الجيد هو الذي يعي ما يقال ويتفاعل معه بنقده، آخذا ما صح منه عاملا به، ورافضا لما لم يصح. وفي النصائح: "استمعوا وعوا" وفي الصفات المستحبة "من استمع ووعى" وهذا كله مترجم في قوله تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" (سورة الزمر ـ آية 18)، لأنهم يعون ما يستمعون ويعرضونه على ميزان العقل، فيعرفون ما حسن منه ويأخذون به، ويتركون ما سواه.

    وقد أثبتت التجارب العلمية مدى أهمية الاستماع في حياة الإنسان، وأبرزت مكانته بين المناشط العقلية التي يقوم بها في العادة، فقد ثبت أن الإنسان العادي يستغرق في الاستماع ثلاثة أمثال ما يستغرقه في القراءة، كما وجد أن الفرد الذي يستغرق 70% من ساعات يقظته في نشاط لفظي، يتوزع عنده هذا النشاط بالنسب المئوية التالية: (خاطر وآخرون، 163)

    11% من النشاط اللفظي كتابة.

    15% من النشاط اللفظي قراءة.

    32% من النشاط اللفظي حديثا.

    42% من النشاط اللفظي استماعا.

    ويتوزع نشاط الاستماع بين اختبار واختيار وطلب وجواب واستماع بقصد الاستمتاع، وغير ذلك مما يصعب حصره، ذلك أن الموضوعات التي نستمع إليها تختلف من إنسان لآخر، ومن وقت لآخر، ومن حالة لأخرى.

    الاستماع قراءة.

    إن المستمع قارئ من طراز مميز، وفرصته لاستيعاب ما يقرأ عليه أكبر من فرصة القارئ نفسه، وتعليل ذلك بإيجاز يتمثل في أن جزءا من ذهن القارئ يصرف إلى ترجمة الرموز المكتوبة إلى رموز مسموعة ورفع الصوت بها، بينما يختصر المستمع ـ الجيد ـ هذه المرحلة، وجدير بالذكر أن الأصل في اللغة أنها مسموعة لا مكتوبة، لأن القراءة بالأذن أسبق من القراءة بالعين، فالطفل يسمع الأصوات ويعبر بها ثم ينمو فيسمع الكلمات ويفهمها قبل أن يعرف القراءة بالعين.

    وأهم من ذلك أن المستمع لأي حديث كان، مقروءا في كتاب أم يتلى عن ظهر قلب، وفرديا كان أم نقاشا جماعيا، يستطيع أن يستخلص المعاني التي يحملها الحديث من مصادر وإشارات وإمارات كثيرة يتضمنها الصوت المسموع. وتسهم في نقل المعاني، والذي يعنينا هنا ما كان له علاقة بالصوت المسموع، ويمكن إجمال ذلك فيما يلي:

    1.  المفردات لدلالاتها المعجمية والتي تنسجم مع المقام، كالدلالات التي تختلف باختلاف مهنة المتحدث أو لهجته، فدلالة الفاعل عند اللغوي (الاسم المرفوع ....) غيرها عند القانوني (مرتكب الجريمة) وهي في لهجة المصري (العتلة أو الفأس) وفي لهجة اليمني (الحراث) ... وهذا بعد تشترك فيه المادة المكتوبة مع المادة المسموعة.

    2.  التنغيم Intonation، وهو أن الحديث لا يكون على وتيرة واحدة، بل يتراوح بين انخفاض وارتفاع، وتتغير طبقته بما ينسجم مع معانيه ويعكس طبيعتها، وفي ذلك ما يشيع جوا من الطمأنينة والثقة عند المستمع، ويعمل على توضيح معنى الكلام في ذهنه" (مونرو 1978، ص168). وبهذا نصح ديل كارنيجي الخطيب إن هو أراد أن يكون له تأثير عميق في الجماهير بقوله: "لا تجعل صوتك على وتيرة واحدة" (كارنيجي. ت ص 99).

    3.  شدة الصوت Intensity  ، فالصوت قد يكون عاليا مزعجا، أو منخفضا مزعجا بعدم وضوحه، كبعض الهمس، وخيره ما كان وسطا، ولكن درجته تختلف باختلاف المتحدث والسامع والمكان الذي يقع فيه أحدهما من الآخر، كما هي الحال بالنسبة لطالبين في قاعة الدرس، أحدهما في المقاعد الأمامية والآخر في المقاعد الخلفية، وما أشبه الصوت في درجاته هذه بالكتابة في وضوح لونها على الورق، كأن يكون شديدا Bold  أو فاهيا باهتا.

    4.  دلالة الصوت على المتحدث، لقد زود الله ـ سبحانه وتعالى ـ كل إنسان بجهاز صوتي متشابه في تركيبه وطبيعته عند الناس كلهم، ولكنه يختلف في أدائه من إنسان لآخر، فمن صوت عالي النبرة إلى آخر هادئ، ومن صوت مرتفع الطبقة Pitch إلى آخر منخفض، ومن صوت له رنين  Temberإلى آخر مستو بسيط، ويرجع اختلاف الأصوات الآدمية إلى الاختلاف في أشكال الأفواه والأسنان والأنوف والحبال الصوتية.

    وقد توصل العلماء في العصر الحديث إلى حقيقة تؤكد أن الذبذبات الصوتية التي يصدرها جهاز النطق تختلف من إنسان لآخر إلى حد يكفي للتمييز بينهما بدقة، تماما كما تميز خطوط البصمة (الأنامل) بين الناس، وقد هدام ذلك في بعض الدول كالولايات المتحدة إلى تصميم هويات صوتية Sonogram Identity يتم التعرف بها على الأفراد من خلال تسجيل أصواتهم. وفي بعض المواقع تبرمج البوابات على هذه الطريقة، فإذا أراد الموظف أن يدخل أسمع صوته الجهاز المثبت على الباب فيتعرفه، وينفتح تلقائيا، وإن لم يتعرفه لم يستجب له.

    وللتحقق من ذلك يمكن أن يختبر كل منا نفسه، حيث نتعرف الأشخاص الذين نخالطهم، ولو من حين لآخر قد يطول أمدة، بمجرد استماعنا لأصواتهم حتى عبر الهاتف. وإن كانت "البعرة تدل على البعير" وصغير الأمور يدل على الكبير، فإن الصوت هو الآخر يدل على محدثه، من هو، وما هي حاله، وغير ذلك مما يتغير تبعا للمقام.

    ومهما تكن من حال، فإن المزايا التي تتفوق بها المادة المسموعة على المادة المكتوبة لا تنحصر في ما تقدم وحسب، بل هي أكثر من ذلك، لأن إيقاع المادة المسموعة يمثل منظومة متداخلة من العناصر والرموز التي يصعب حصرها، كالنبر ومدة الوقف في أواخر العبارات، وعيوب النطق الخلقية من لثغة ولكنة وغير ذلك مما لا يظهر في الكتابة، ويسهل الوقوف عليه في المادة المسموعة، لأن الملقي إذا كان حسن الإلقاء، يفصّل حديثه، ويأتي به على نحو ما تفعل المرآة في الصورة التي تعكسها، وربما فعل به أكثر من ذلك، فزينه وقلب به الحقائق، وألهب الحماس لقضية باطلة، وكان ألحن من خصمه بحجته، على النحو الذي يعكسه الحديث النبوي الشريف "إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" (صحيحي البخاري د.ت 9/63 ـ حديث صحيح). وما تعكسه القصية التاريخية المشهورة (يوليوس قيصر لشكسبير) من تمكن انطونيوس بخطبته من قلب الجمهور ضد بروتس، بالرغم من انه كان متعاطفا معه أثناء إلقائه خطبته، وبعد ذلك بقليل. وما أُثر من تفوق حافظ إبراهيم على أحمد شوقي في انه كان يلقي أشعاره على الجمهور بنفسه، بينما كان شوقي ينيب من يلقيها بدلا منه، مما أكسب حافظا لقب الشاعر الاجتماعي ومودة الناس.

    وفي هذا وذاك ما يقفنا على أثر الخطابة في الناس، حيث اعتمدها الإسلام في بعض العبادات، وحيث هي من وسائل الاتصال المؤثرة في كل زمان ومكان (الجاحظ 1/144). ولكن شتان ما بين خطيب وخطيب، وإن كان موضوع خطبتيهما واحدا، وهنا يتجلى دور الاستماع في التعامل مع المادة المسموعة. ومما يؤثر عن فيليب د. آمور بعد أن جمع ملايين الدولارات قوله: "كنت أفضل أن أكون خطيبا مفوها على أن أكون رأسماليا عظيما" (كارنيجي 15) وهو ما قاله من قبل العالم العربي يونس بن حبيب "ليس لعيي مروءة ولا لمنقوص بيان بهاء، ولو حك بيافوخه أعنان السماء" (الجاحظ 1/77).

    وقد اجتهد العرب في ثراء المادة المكتوبة بمزيد من وسائل التعبير غير المفردات ومعانيها، فاهتدوا إلى بعض علامات الترقيم، وخصوصا في القرآن الكريم، لما لها من أهمية بالغة في تفصيل المعاني وتحديد مواضع الوقف وصفاته، وكالرمز ألف هاء (أ هـ ) في مصنفاتهم، وهي بمعنى انتهى، أي قف، وهي نظير النقطة (.) في رموز العصر الحديث.

    وهذا وغيره ما هو إلا ترجمات ورموز لبعض ما تمتاز به المادة المسموعة عن المكتوبة، يجتهد الإنسان في كل مكان وزمان في وضعها، ويضيفها لرموز الكتابة ليرتقي بقدرتها التعبيرية إلى مستوى المادة المسموعة.

    ومما اهتدى إليه العرب قديما التبويب والتفصيل، وفي كثير من المخطوطات رأيناهم يستعينون باللون لشد الانتباه إلى كلمة أو عبارة أو نحو ذلك، فيكتبونها بلون مختلف عن اللون الذي يكتبون به سائر الكلام.

    وفي العصر الحديث مع تقدم وسائل الطباعة كثرت علامات الترقيم، ما ارتقى بالماد المكتوبة (المطبوعة) في تعبيرها عن المقام إلى درجة تقربها في ذلك من المادة المسموعة، وتوصل المعنيون إلى وسائط طباعية جديدة من شأنها إثراء الرموز المعبرة، كتغميق لون كلمة أو أكثر دون غيرها، (أبيض وأسود) وكتغيير بنط الحرف (9،12، 14، 18، ....) أو نوعه (بغداد، جيزة، القاهرة) وهذا تقسيم آخر محدث، يوازي التقسيم العربي للخط بين نسخ ورقعة وكوفي وديواني وثلث وغير ذلك.

     

    التسميع والتتبيع

              من أساليب التدريس المتبعة أن يرفع المعلم أو الطالب صوته بالقراءة عن ظهر قلب أو في كتاب، في حين يقوم سائر الطلبة بالاستماع له، وتتبع ما يقرؤه بأعينهم أو في كتبهم أو على السبورة. وفي هذا الأسلوب يتحقق التعليم باستخدام حاستي السمع والبصر معا، كما يتاح للمعلم أن يتحقق من إتقان القارئ لما يقرؤه حفظا وصحة لفظ، إضافة لما في ذلك من إشراك جميع الطلبة في العملية التعليمية في الوقت نفسه.

              وجدير بالذكر أن استماع الأطفال صوت المعلم وغيره من الأصوات الصحيحة السليمة يكسبهم " مهارات سمعية تتمثل في قدرتهم على التحكم في أصواتهم والتمييز بين طبقاتها ودرجاتها" (مونرو، 1978، ص181) ويمكنهم ذلك من توظيف أصواتهم وإمكاناتها المختلفة في التعبير عن ما يدور في أنفسهم بطريقة سليمة معبرة.

              وتتجسد هذه الحقيقة في ما ندركه وهو أن كل طفل يكتسب لغة والديه ولهجتهما بمواصفاتها كلها، بل إن طفلا يحيا بين أبوين يلثغان في الراء سيسجل الراء في قاموسه الصوتي لاما أو غينا، بحسب الصوت الذي يلفظه به والداه، حتى يكبر ويتعلم الصوت الصحيح لهذا الحرف. غير أن قراءة الاستماع كغيرها من أنواع القراءة التي ذكرناها من قبل، قد تتم دون تحقيق أي فائدة، كأن يستمع المستمع إلى حديث دون أن يعيره من الانتباه ما يمكنه من أن يعيه، فهو يستمع أو يقرأ ـ إن شئت ـ بطريقة آلية، وسبب ذلك في كثير من الأحيان راجع إلى أحد أمرين أو إليهما معا وهما:

    1.     اشتغال العقل أثناء القراءة بموضوع آخر، وهذا هو ما يعرف بالشرود الذهني.

    2.  أن المعلمين يشعرون بأن مسؤوليتهم تنتهي بمجرد أن يعلموا الأطفال الربط بين الكلمات المطبوعة وأصواتها الصحيحة. (مونرو، 1978، ص240) بينما الصحيح أن عليهم ان يعلموا الأطفال كيف يفسرون ما يقرؤون ليفهموا، ويتفاعلوا معه، مما يؤدي إلى تحقيق الفائدة المرجوة من عملية القراءة.

     

    تعليم الاستماع.

              سبق أن ذكرنا بعض مواصفات المستمع الجيد من وجهة نظر ابن المقفع، وغيره، وأن هذه المواصفات مكتسبة تحتاج إلى دربة ومراس حتى تغدو طبعا في الإنسان. وقد أثبتت الدراسات والتجارب الحديثة أن الاستماع يمكن أن يكون هدفا للعملية التعليمية، وتسعى إلى تحقيقه، وخصوصا عند الأطفال، ومن ذلك ما قام به برات Pratt من تجربة على أطفال السنة السادسة الابتدائية للتحقق من جدوى برنامج لتعليم الاستماع كان قد أعده خصيصا لهذا الغرض.(Pratt 1953, p.315 – 320)

              إن الإلقاء الجيد، وهو سبيل المحدث إلى الإقناع والتأثير، لا تمتلك ناصيته إلا بالتدريب، ولا تدريب إلا بعد استماع وإصغاء، وللتدريب على الاستماع طرق كثيرة تتمثل في توجيه أسئلة إلى الطلاب وتقويم أدائهم، واختبار مقدار تحصيلهم، مما يعكس صفة استماعهم، ويشكل تغذية راجعة Feedback لتفادي مظاهر إساءة الاستماع في المرات القادمة، ولتحقيق الغرض من الجلوس لدرس الاستماع.

              ومن الأمور التي تساعد في التدريب على الاستماع، اختبار قدرة الطلبة على تخيل المواقف التي يدور حولها الحديث، والقدرة على معرفة النتائج قبل الوصول إليها، ومحاولة إكمال جملة أو بيت من الشعر بالكلمة الصحيحة، أو بكلمة مناسبة غيرها، وتلخيص حديث استمعوا إليه، أو تذكر كلام قبل أسبوع من الزمان على سبيل المثال، أو إصدار الحكم الدقيق على ما يستمعون إليه، وغير ذلك كثير، لا أحد يستطيع القيام به ما لم يحسن الاستماع إلى ما دار قبله من حديث.

              وتوجيه ذلك أن هذه القدرات مجتمعة، لا تتحقق إلا إذا كان الاستماع إيجابيا هادفا Purposeful active Listening   . وهكذا فإن في أنماط التقويم السابقة ما يكشف عن مدى قدرة الطالب على الاستماع، ويقدم له مرآة يرى فيها صفة استماعه حسنا كان أم سيئا.   

              ولتحقيق فاعلية الاستماع وزيادتها، لا بد من الانتباه والتركيز، ذلك أنهما الأساس في قراءة الاستماع، ولولاهما لكان النشاط سمعا عاديا، قد نعي به ما يقال، وقد لا نعيه، لأنه يلج الأذن إلى عصب السمع دون قصد منا.

              وفيما يلي نجمل أهم العوامل التي تتحكم في فاعلية الاستماع وتؤثر في درجة الانتباه سلبا أو إيجابا باختلاف المتلقي، وتلكم هي:

    1.  طبيعة الموضوع الذي نستمع إليه، وذلك من حيث سهولته أو صعوبته، ومن حيث اهتمامنا به، وغير ذلك مما هو صفة له أو لطبيعة العلاقة التي تربطنا به.

    2.  طريقة عرض الموضوع، والأسلوب الذي يتلى به على مسامعنا، فقد يكون المتحدث لبقا مؤثرا، وقد يكون على العكس من ذلك، غير موفق في طريقة إلقائه، يبعث السأم والملل في سامعيه.

    3.  بيئة الاستماع، وهي المكان الذي تتم فيه عمليه التلقي، بمواصفاته المختلفة من ضيق أو اتساع، وحر أو برد، وظلمة أو إنارة، وغير ذلك مما يؤثر سلبا أو إيجابا في عملية الاستماع والتركيز فيما يسمع.

    4.  حال المتلقي نفسه، حيث قد يكون في حال نفسية قلقة، أو حال صحية سيئة، فيؤدي ذلك إلى خلل يتفاوت في نسبته من إنسان إلى آخر في جدوى عملية الاستماع والفائدة التي تتحقق منها.

    5.  جهل المستمع باللغة التي يستمع إليها، كأن تكون لغة أجنبية، أو تكون لغة تخصصية فيها اصطلاحات كثيرة، حتى ولو كانت لغته الأصلية، أو كأن تتكلم معه بلغته لكن بمستوى فوق مستواه.

     

    ومن هنا، فإن عملية الاستماع يجب أن تكون مقصودة بذاتها، يتجه إليها الانتباه ـ أو يوجَّه ـ عمدا، بغية التمييز بين الألفاظ والتعرف إلى معانيها لتحقيق الفهم أو الإجابة على سؤال أو تحقيق متعة، كما هي الحال عند الاستماع إلى الأغاني مثلا، أو التوصل إلى حقيقة نقدية أو غير ذلك من الأهداف التي توجه إليها عملية الاستماع.

    وبعد، فإن الاستماع مهارة نكتسبها بالدربة والقصد، وهي نوع من أنواع القراءة، لا يقل في قيمته وأهميته عن أنواعها الأخرى، بل إن له مميزات يتفوق بها على تلك الأنواع، وفي مقدمتها أن المستمع يعرف أشياء كثيرة عن حال المتحدث غير معاني الألفاظ، تبوح به نبراته وطبقة صوته وشدته ووقفاته وطريقة لغطه وغير ذلك مما يستحيل على القارئ أن يجده في كتاب بين يديه، وإن اجتهد الكاتب في تزويد ما بين السطور بما يعكس شيئا من حاله. إضافة إلى أن قراءة الاستماع هي الأصل في أنواع القراءة كلها، لأن الإنسان لم يهتد إلى قراءة الكتابة، إلا بعد أن اخترع الرموز الكتابية في وقت متأخر نسبيا.

    وكانت قراءة الاستماع، من قبل ذلك ومن بعده، هي النشاط الطبيعي الذي يمارسه الإنسان بفطرته، لا سيما أننا نقرأ بها الألفاظ اللغوية وغيرها من الأصوات الطبيعية التي ليسلها رموز تكتب.

    وحري بالتربويين أن يتنبهوا إلى دور قراءة الاستماع في إذكاء المعرفة، والتزود منها، إلى تخصيص حصص لتدريب الطلاب على اكتساب مهارة الاستماع، وإخضاعهم إلى تجارب يمتحن فيها أداؤهم، ويقوم بها تحصيلهم، تماما مثلما يجري في دروس قراءة الكتابة، وتوجيه ذلك أن حاسة السمع آصل من حاسة البصر، في عملية التواصل بين الناس، ولا يغني التقدم في توظيف الرموز المرئية في العملية التربوية عن المهمة الفطرية التي تنهض بها الأذن في هذا المجال.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

    المراجع.

     

    1.     القرآن الكريم.

    2.     خاطر، محمود رشدي وزملاؤه، طرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية في ضوء الاتجاهات التربوية الحديثة، ط3، مصر، 1986.

    3.     إبراهيم، عبد العليم. الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية، دار المعارف، ط10، القاهرة، 1978.

    4.     مونرو، ماريون، تنمية وعي القراءة، ترجمة سامي ناشد، دار المعرفة، ط2، القاهرة، 1978.

    5.     لطفي، محمد قدري، التأخر في القراءة، ط3، مكتبة مصر، القاهرة، 1985.

    6.     الطوبجي، حسين حمدي، وسائل الاتصال والتكنولوجيا في التعليم، ط5، الكويت: دار القلم، 1982.

    7.     الجمبلاطي، علي، وزميله، الأصول الحديثة لتدريس اللغة العربية والتربية الدينية، ط3، دار نهضة مصر، القاهرة، 1981.

    8.     ابن المقفع، عبد الله، الأدب الصغير والأدب الكبير، طبعة دار الجيل، بيروت، 1981.

    9.  كارنيجي، ديل، التأثير في الجماهير عن طريق الخطابة، ترجمة عزت صالح فهيم وزميله، منشورات دار الفكر العربي، المطبعة العربية، د.ت، القاهرة.

    10.            البخاري، صحيح البخاري، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.

    11.            الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الثانية، منشورات دار الجيل، ودار الفكر، بيروت، د.ت.

    12.            ابن منظور، لسان العرب، منشورات دار صادر، بيروت، د.ت.

    13.            Huez,E.B,Psycology and Padagogy of reading, N.Y. The Mcmillan Aco,1919.

    14.            Prrot, L, The Expeimental Improvement of Listening, Unublished Doctoral Dissertation, State University of Iowa City, 1953.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

          

     

     

     

             

     

     

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me