An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Wednesday, June 10, 2009
  • لغتنا بين المجتمع والبيئة
  • Published at:المنهل
  • لغتنا بين المجتمع والبيئة

     

    أ.د. يحيى عبد الرؤوف جبر

    المنهل/ جدة، عدد 441، السنة 52

    عدد خاص بالهجرة واللغة والتراث

                 يدخل البحث في علاقة اللغة والمجتمع بعضهما ببعض في مجال علم اللغة الاجتماعي، أو ما يُطلق عليه اسم Sociolinguistics هو مجال جديد لم يعرفه المتقدمون إلا من إشارات عابرة غير مقصودة، نظفر بها أشتاتا هنا وهناك، ولكنها لا تصلح لأن يُبنى عليها علم له قواعده وأسسه.

    ·   وفي هذه السطور، سنعرض لأثر التغيرات الاجتماعية على اللغة، وما تعكسه اللغة من واقع المجتمع، وما تعبر عنه مما هو ترجمة عملية لمعانيها.

    ونبدأ فنقول: إن قراءة عابرة في كتاب فقه اللغة وسر العربية لأبي منصور الثعالبيّ، تقفنا على كثرة المفردات التي كان العرب يستخدمونها، في التعبير عن المسمى الواحد، في أطواره وأحواله المختلفة، من متوارد الألفاظ أو مترادفها أو ما تقارب منها.

             وقد أحصيت في كتابي "الألفاظ الجغرافية في التراث العربي حتى نهاية القرن الهجري الثالث" نحوا من ثلاث عشرة كلمة أطلقها العربيّ على الغبار ... ونيفا وأربعين أطلقها على السراب، مما قام عليه شاهد.

             غير أن المتمعن في العربية المستخدمة اليوم، ليجد أن معظم تلك المفردات قد أوت إلى زوايا مظلمة، حيث استسلمت إلى سبات عميق، بل، لقد مات بعضها؛ فلم يعد يستخدم على الإطلاق.

             ونسأل: هل كانت القبائل العربية التي استقرت في الأندلس ـ على سبيل المثال ـ بحاجة إلى لفظ أو ألفاظ للتعبير عن الغبار والسراب، وهما من الظواهر التي لا تكاد تتكون هناك؟..

    ·       أليس عدم حضور "الشيء" مبررا لعدم حضور ما يعبر به عنه، وهو اللفظ؟ ... ولو إلى حد ما.

    لقد رحلت القبائل العربية إلى تلك البلاد، وفي معجمها اللغويّ ألفاظ للغبار والسراب ـ ولكن إلى حيث لا غبار ولا سراب ـ فإذا بتلك الألفاظ تتساقط كالغبار، وتضمحل تدريجيا كالسراب .. وإذا بالإنسان يتكيف مع بيئته ويتخذ منها أباً ويجعل من نفسه ابنا، ويبدأ في استخدام مفردات يعبر بها عما يستجد في حياته، من أمور ومعانٍ وعلاقات لم تكن تدخل في حياته من قبل بشكل أو بآخر ـ كأحاديثهم عن المياه الجارية، والجنان الوارفة الظلال، فلا عجب إن وجدنا شاعر البوادي الرمليّة (ابن الجهم) يمدح الخليفة العباسي بوفاء كالكلب، ومقارعة كالتيس، وذلك حيث قال:

    "أنت كالكلب في حفاظك للودّ  وكالتيس في مقارعة الخطوب"
    بل لقد سبقه الشاعر الجاهليّ، عمرو بن معديكرب الزبيديّ إلى هذا المعنى فقال:

    "نازلت كبشهم ولم أر من نزال الكبش بدا"
    ولا عجب أيضا، أن نجد ميسون بنت بحدل الكلبية، تضيق ذرعا بنعيم معاوية، فتطلب البادية بأبياتها المشهورة. وأن نجد بعض الفلكيين والحُسَّاب يشبهون الأزياج والأبراج والكواكب بالحيوانات، ويسمونها بأسمائها.

    ·   أوليس عجيبا بعد ذلك أن ننتظر من ابن الأحقاف وكثبان الصحراء الكبرى أن يحدثنا عن فيوردات النرويج وجبال الأنديز قبل اليوم؟ .. بل أما تراه سيكون غريبا أن يحدثنا إنسان عن "الربابة" بعد قرن، حيث يبدو أنها ستكون قد انقرضت؟

    إن الذي نريد أن نصل إليه، هو أن الشيء ـ مسمى كان أو معنى ـ يكون أولا ثم يكون اللفظ المعبر بع عنه، وإلا فلماذا لم تكن اللغات قديما ثرية ثراءها الراهن؟ .. أليس لأن المسميات والمعاني التي يستخدمها أهلها تزداد حينا بعد حين؟ والمعنى والمسمى أكبر من اللفظ في الدلالة باستمرار، ولا يمكن أن يساويهما او يفوقهما في الدلالة قط "وذلك انه رمز موجز مختزل مختصر" تماما كالبيضة من الدجاجة في دلالتها عليها .. الدجاجة هي المعنى أو المسمى، هي الأصل، واللفظ هو البيضة .. يمكن ان تصبح دجاجة، لكن بعد عمليات ومعاناة وإبداع. وكذلك اللفظ، يمكن أن يغطي المسمى أو المعنى، وذلك بشرحه وتفسيره وتحليله، وتطبيق معناه وترجمته إلى الواقع، وهذا يتطلب خلقا وإبداعا.

    ثم نسأل: هل هناك حجر في المكان (ص)؟ والجواب هو احتمال الحالين. لكن، متى يكون الجواب نعم وحسب؟ .. يكون ذلك عندما تكون هناك علاقة ما بيننا وبين الحجر هناك .. هل للحجر قيمة ما لم يكن مستخدما بحال؟ .. ما قيمة حجر على بعد مائتي كيلومتر في باطن الأرض؟ .. ما قيمته ما لم تكن بيننا وبينه علاقة ممكنة؟ .. ومن ناحية أخرى ما قيمة اللفظ "مسعندل" مثلا ما دام أنه لا معنى له ولا يستخدم؟ .. بل كلمة (ثور) ما دام مسماها يخرج تدريجيا من دائرة الاستخدام، أما نلاحظ أن هذه الكلمة أصبحت تستخدم بمعنى "بليد" بقدر ما تستخدم للدلالة على الحيوان المعروف، إن لم يكن أكثر. ما قيمة "النور" عند فاقد البصر .. وكذلك ألفاظ الألوان .. ويقابل ذلك في عالم المسميات والمعاني أقحوانة نبتت وترعرعت ثم تصوّحت في أرض قفر دون أن يتمتع بشميمها إنسان .. أو درة في قاع محيط لم يهتد إليها غواص؟ .. كلنا نذكر قصة ذلك الذي تاه في الصحراء وأخذ منه الجوع والعطش كل مأخذ .. فلقي صرة فيها ذهب، ترى ما نفعه؟ وهل الذهب عنده مثله عند إنسان ساكن الحاضرة؟

    ·   كيف يمكن أن نتصور الحال من رجل أو طفل يستخدم كلمة "ثور" وهو لم يرَ ثورا قط، ومن كفيف يستخدم كلمة نور وقد خلق كفيفا؟ أتكون لغتهما سوية؟ وهل يتكلمان اللغة نفسها التييتكلمها من رأى ثورا وعرف طباعه، ومن نعم بالنور وبهجة الإشراق؟ .. إن الألفاظ تحيا وتموت، وتمرض وتتجمد، تبعا لحال مسمياتها والقيم والعلاقات التي تعكسها معانيها. أفتعني الكلمة "جيران" معناها الأصليّ الآن؟ أهي مستخدمة استخدامها القديم .. أو الكلمات كريم .. حسن .. خير .. صديق .. محترم، ونحوها أيضا؟

    ونسأل بعد ذلك: أين تكون المعاني والعلاقات والدلالات وصور المسميات؟ خارج الإنسان أم بداخله؟ فإن كانت تقع خارجه، فلماذا هذا الاختلاف في الألفاظ من مكان لآخر؟ ..

    أليس الناس سواء في النسبة التي تمثل في ما بينهم وبين الأشياء؟ أليسوا سواء في أن الأشياء تقع خارجهم؟

         لكن الذي نراه، أنه مادام الاختلاف قائما، فإن ذلك يقتضي تبريرا آخر: هو أن تلك الأشياء؛ "العلاقات والدلالات وصور المسميات والمعاني" إنما تقع داخل الإنسان، وبذلك تختلف، لأن الإنسان مختلف عن غيره من الناس ـ ليسفي ذلك أدنى شك ـ وبذلك يضفي عليها من اختلافه، فتختلف في مقاديرها وأبعادها من إنسان لآخر .. ومن مكان لمكان. وبالتالي تختلف الألفاظ إلا بقدر ما يمكن أن تترابط به بين الناس من علاقات أخرى تطغى على الفروق والاختلافات .. ومرد ذلك إلى كثرة الاتصال وأدواته وعمقه، فالطائر هو الطائر .. والذبابة هي الذبابة .. والشجرة هي الشجرة .. أما الإنسان فليس هو الإنسان.

    ·   ولما كانت الأشياء السالفة الذكر تقع داخل الإنسان، فهو من الحركة والنشاط بقدر ما تنشط هي فيه وتتحرك، وهي مما يوَرَّث ويُلَقّن بالتعليم، وهي أيضا مما يُكتسب بالتدبر والتأمل والتفكير.

    وفي اعتقادنا أن ما ينطبق على الإنسان الفرد ينطبق على الإنسان المجتمع، فبقدر ما تكون "المعاني والعلاقات والدلالات والقيم وصور المسميات ـ والخيال الذي هو أداة الإبداع" بقدر ما تكون نشطة متحركة يكون المجتمع كذلك، وركودها كركود الماء والهواء، فيه فسادها وفسادهما.

      وأين تقع الألفاظ "اللغة" من هذا التفاعل والأثر المتبادل؟ إنها تقف موقف النغم من الأصبع أو نحوه، والوتر .. الصوت كامن في الوتر، والأصبع أداة التحريك .. والنغمة المطربة ـ او المزعجة ـ هي الكلمة أو اللفظ، ومن هنا كانت اللغة ظاهرة اجتماعية.

    إذاً المعاني والعلاقات والدلالات وصور المسميات كامنة في الإنسان، هي أداة حركته ونشاطه، فبقدر ما تكون الأولى تكون الحركة، وقانون الحركة انه لكل فعل رد فعل، فإن لم يورث الإنسان ذلك، أو لم يصل إليه بمفرده، فذلك يعني انه لن يتحرك.

      وإذا كانت حركة المجتمع لا تتسم بالسرعة الكافية، فذلك يعني أن ثمة خللاً؛ إما في موروثه وخلفيته، أو في ما توصل إليه واكتسبه مجددا. وبعرض واقع الأمة العربية على ذلك، فإننا نجد أن في الموروث الحضاريّ للمجتمع العربيّ، ما يشهد بحيوية هذه الأمة وحركتها، وقد قام الدليل الملموس على ذلك قديما، ولئن كان في الموروث الحضاري شيء يُتَّهم، فذلك الذي اخترق العقلية العربية في عصور الانحطاط، التي خيَّمت على العالم الإسلاميّ فترة من الزمن، يضاف إلى ذلك أن المكتَسب الثقافيّ العربيّ الحديث، فيه من العيوب ما شوّه الصورة المنعكسة على المرآة، لو كان لها في ذلك ذنب.

      إن وجود اللفظ لا يستلزم وجود المعنى .. تماما كالنغمة تسمعها فلا ينبغي أن تكون سمعتها من أصبع ووتر، حيث قد تكون مسجلة على شريط .. وقد يقال: ما الفرق؟ .. فنقول كبير جدا: فأنت تسمعها مرة واحدة فقط من الأصبع والوتر، ولكنك تسمعها هي هي مئات المرات من آلة التسجيل إن شئت. وكذلك اللفظ: تسمعه وتقرؤه ملايين المرات في المعجم مع معناه الملاصق له، ولكنك لا تستخدمه للمعنى المثبت نفسه أبدا.

    أن نفاخر بضخامة المعجم العربيّ، لا يعني أن كل ما تعكسه ألفاظه من معان هي حية في مجتمعنا العربيّ بالممارسة. وبعبارة أخرى، إن الانتفاخ في المعجم العربي هو ورم لا شحم، فلا بد من الموازنة والانسجام بين الألفاظ والمعاني، وهذا لا يتحقق إلا بتحقيقه على أرض الواقع.

    إن الحاجة تكون ماسة إذا كانت لما فيه علاج لمشكل تغلغل في الأعماق، بحيث يبدو مستعصيا .. وإن تقدم العربية رهين بتقدم بتقدم المجتمع .. ولا يمكن لمجتمع أن يتقدم ما لم يصدر كل فرد فيه عن المعاني التي ورثها، وعن ما اكتسبه مما لا يتنافر مع ما ورثه.

    إن السيارات والطيارات بوصفها أجهزة وآلات، كانت أولا معاني جزئية في ذهن الصانع .. جرّب وجرّب فتوصل إلى الهيئة والنظام اللذين تتحقق بهما السيارة الفكرة، ثم كان اللفظ.

    تكون المخترعات والمستجدات التطبيقية أفكارا في ذهن الفاعل، ثم تتبلور وتترجَم على أرض الواقع .. وكذلك الفكرة والمعنى؛ يكونان ثم يُجاء باللفظ.

    لقد كان آباؤنا يصنعون المواد ويسمونها، وإنا لنجدها في المعاجم المختلفة عربية كانت أو أجنبية .. وكانوا يولدون المعاني .. فتتولد الألفاظ المعبرة عنها تلقائيا.

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me