An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, February 9, 2009
  • بريطانيا لم ترحل عن فلسطين بعد *
  • Published at:Not Found
  • بريطانيا لم ترحل عن فلسطين بعد*

    قدمت للنشر في جريدة القدس،

    ولكن الرقيب لم يجزها.

     

              ابتلي العالم الإسلامي، ومنه الوطن العربي، في أواخر الحقبة العثمانية بما يمكن أن نسمية بالهزال الحضاري، فأغرى ذلك خصوم الأمة بها، مما حدا ببعض القادة إلى التفكير ملياً بالأمر على طريق محاولة إنقاذ الموقف والتعامل مع التحديات المحدقة بما تقتضيه، فكانت محاولة محمد علي باشا إنشاء امبراطورية عربية إسلامية قادرة على مجابهة المكائد الغربية والتصدي لها، غير أن محاولاته لم تنجح، إذا اعتبرت خروجاً على سلطان الخليفة، واستشرت المخاطر، وعم البلاء والفساد، وراحت القوى الغربية المعادية تتغلغل في فكر الأمة فكان الفكر القومي على طريق تفكيك الرابطة الإسلامية، بل لقد تخطى الأمر هذا الحد إذ ما لبثت الأفكار الإقليمية، ومنها بعث الكيانات والمسميات القديمة، حتى انتشرت، مما سهل على الدول الغربية اقتسام تركة " الرجل المريض "، وكانت فلسطين من حصة بريطانيا، لتزرع فيها كياناً غربياً يدَّعي حقاً فيها.

     

    بريطانيا واليهود:

              في الوقت الذي أعد فيه شكسبير قصته " تاجر البندقية " وعكس فيها وجهة نظر بعض الأوروبيين في اليهود، وموقفهم منهم، ذلك الموقف الذي جسده مضخماً هتلر في ما فعله باليهود، كانت هناك جماعات أوروبية تنظر تجاه اليهود نظرة مختلفة جداً، وأعني على وجه الخصوص " البيوريتانيين " الذين كانوا يرون ضرورة مساعدة اليهود للعودة إلى أرض ميعاد آبائهم وأجدادهم!! تمهيداً لعودة المسيح عليه السلام إلى الأرض؛ من وجهة نظر بعض الكنائس.

              وفي أواخر القرن التاسع عشر تبلورت فكرة الصهيونية، وبدأت عملها المكثف لجمع شمل اليهود وتوطينهم، وكان ما كان من دعمهم دول الحلفاء في الحرب الأولى، ودورهم في تقويض دولة الخلافة الإسلامية، فنالوا بذلك عطف الدول الغربية، ووقع الاختيار على فلسطين لأسباب عدة أهمها:

    1-  الانسجام مع الرؤية الدينية ( المشتركة ) بين بعض الكنائس واليهود.

    2-  موقع فلسطين الاستراتيجي من العالم بأسره، والإسلامي بوجه خاص.

    3-  تحقيق ثارات مزعومـة على نحو ما يتضح في أقوال قادة الجيوش الغربية التي اجتاحت  شرق المتوسط بعد الحرب الأولى أمثال جورو وألنبي، واليهود عندما دخلوا المسجد الأقصى سنة 1967م عندما هتفوا: محمد مات، خلّف بنات.

    الاستيطان والاستعمار:

              وقعت فلسطين تحت الاستعمار الإنجليزي ابتداء من عام 1917، ولكن حركة الاستيطان اليهودي المنظم بدأت قبل ذلك دون موافقة السلطات العثمانية، ولما كان الغرب حريصاً على فصل المشرق العربي عن مغربه، فقد سارع إلى تنشيط حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين، وارتفعت درجة التناغم الديني بين الإنجليز واليهود حتى أن وزير الأشغال البريطاني في أوائل العشرينات من القرن الماضي صرح علناً أنه يتمنى أن يكون على يديه هدم الأقصى وبناء الهيكل الثالث !!

              وما أن كان 15/5/1948 حتى خرجت بريطانيا من فلسطين بعد أن مكنت اليهود منها بقوة السلاح، وبحيل مررتها عبر عصبة الأمم والأمم المتحدة التي لم تكن يوماً في غير خدمة اليهود وأغراضهم، فأعلن اليهود استقلالهم في فلسطين تحت اسم " إسرائيل " التي ما لبثت أن دخلت الأمم المتحدة، وانتقلت إلى رعاية أمريكية بدلاً من البريطانية، لم لا ونجم أمريكا أخذ يسطع بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية؟!

     

              وخلاصة للفقرات السابقة، نستطيع أن نقول إن الكيان السياسي الذي سعى إليه هرتسل ومرره بلفور في وعده، وتعهدت مراحل إعداده وطبخه على أرض الواقع بريطانيا المستعمرة … إن هذا الكيان هو بذرة ونبتة بريطانية، بعبارة أخرى فإن بريطانيا لم ترحل عام 1948 عن فلسطين إلا بعدما وضعت لها وكيلاً فيها يواصل تنفيذ مخططاتها وسياساتها، مما يعني أن بريطانيا ما تزال تحتل فلسطين بواسطة وكلاء يتفقون معها في التوجهات والأهداف والمنطلقات.

     

    عود على بدء:

              قلنا إن البدايات كانت في أواخر الحقبة العثمانية عندما خارت عزيمة الدولة العثمانية لأسباب داخلية وخارجية مختلفة، وعندما تسرب الفساد إلى البناء الثقافي والاجتماعي، فأصبح الإصلاح السياسي والاقتصادي مستحيلان؛ لأن متانة الأوضاع في هذين المجالين إنما تقوم أساساً على متانة البنية الثقافية والاجتماعية، أي أننا نستطيع أن نقول، ونحن على ثقة، إن جذور القضية متصلـة بضعف الوعي والفاعلية الثقافية والرابطة الاجتماعية، بلفظ آخر: كان يمكن لآبائنا أن يتصدوا للمخطط اللاهوتي الغربي المنسجم مع الرؤية الصهيونية لو كانوا يعون أبعاده، وكانوا يعيشون أوضاعاً ثقافية واجتماعية سليمة ... لقد كان الأوروبيون والصهاينة متقدمين على مجتمعنا قرنين من الزمان في البعد الحضاري!

     

    أجواء النكبة:

              شعب مسحوق يعيش حياة ساذجة، وقيادات سياسية متنافسة، وأنظمة عربية تحت الاستعمار أو في ركابه، واختراقات غربية وصهيونية على غير صعيد واحد، وأمة تتثاءب على بوابة النوم، مطمئنة إلى عددها واتساع بلادها، ومتسلحة بأمجاد الغابرين، ... وفي المقابل جماعات مسلحة تعي ما تريد، وتعمل وفقاً لمخطط مدروس، ودعم من هنا وهناك، وفتيان مسلحون، وسفن ما أن تصل إلى الساحل حتى تحرق، وقيادات سياسية متعاضدة، وإدراك حقيقي للمخاطر المحدقة ... وفي منطقة بين زماننا وزمانهم صحا الناس على أخبار المجازر وأزير الرصاص، لقد خرجت أمي تقودنا، أو تسوقنا ثلاثة، واحد في حضنها، وثان يمسك بطرف ثوبها، أما الثالثة، وكانت وسطاً بين الاثنين، فلم تقو على السير، فضاعت بين بساتين البرتقال وغفلت عنها أمي ...وخرقة أمي علقت بشجرة برتقال، فولت، ولم تعقب، خرجت حاسرة الرأس ... ولم تمض ساعة حتى جاء ذلك العجوز " صالح الجبر " ينادي في النساء من منكن أضاعت ابنتها؟! ... فصاحت أمي: فاطمة! " حبيبتي يابنتي " ... كان، رحمه الله، قد سمع صياحها لا خوفاً، فهي لا تعرف بعد معنى الخوف، ولكن شكوى إلى الله من المجهول.

     

    ولادة المخيم:

              تناثر الفلسطينيون حول ما احتل من بلادهم، وأووا إلى ملاجئ من الصفيح والخيام، ذلوا بعد عز وصحوا على النكبة بأبلغ معانيها وأشدها إيلاماً، لو كان ذلك مجدياً.

              إن المخيم يجسد التمزق الاجتماعي، ويعكس نمطاً من أنماط  التجمع البشري غير المتجانس، وازدادت فيه الغربة الثقافية، على الرغم من تنامي روح السخط والتمرد، لولا الظروف الاقتصادية والسياسية التي طوت كثيراً من مظاهرها، وبالرغم من ذلك رفع الشعب راية النضال، فكان ما كان ممالا يخفى على أحد، من حلو ومن مر، على الساحة الفلسطينية أو على الساحات العربية والإسلامية ... ودخلنا بعد ذلك كله نفق نتنايوهو الأنجلوسكسوني.

     

    نظرية البالون:

              إن قيام إسرائيل في هذا الموقع من الوطن الكبير، وربط ذلك بالوعي والحدم الاجتماعي، يمكن أن نمثل له ببالون منفوخ أو بقربة ممتلئة لا يسقط عليها شيء حتى يريد عنها، لكن، إن نحن قللنا الضغط فيهما عن طريق تنفيس البالون وتسريب الماء فإن أي جسم يسقط عليهما يجد فيهما متكأً مريحاً، حتى إذا أعدنا شحنهما بالهواء والماء فإنه يسقط عنهما تلقائياً.

              وترجمة ذلك سياسياً، أن إسرائيل قامت في هذا الموقع في ظل ظروف من التراخي والهزال، وافتقار المجتمع إلى قوة الحدم التيتولد الضغط الداخلي الكفيل بالمحافظة على السطح مشدوداً متوتراً يحول دون ثبات الأجسام الغريبة فيه، وعلينا، إن نحن أردنا لهذا الجسم أن يزول عن موضعه، أن نعمل على زيادة عوامل التفاعل الداخلي ورفع وتيرة الحدم، بمزيد من الوعي والترابط الاجتماعي.

              وجدير بالذكر أن القوى المعادية ( الغربية والصهيونية ) عملت ما وسعها الجهد على إضعاف هذه العوامل، لإخماد جذوة التغير والتفاعل لتظل قوة الحدم دون الحد اللازم لضمان بقاء هذا الجسم في موقعه، أجل، إن المسألة هكذا بكل بساطة.

     

    إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني:

              في ظل الحقائق السابقة، تسلسل الأحداث المدروس، فإن كثيراً من الجهود المبذولة، سابقاً، وما تزال، لن تتمخض عن أكثر مما تمخضت عن " طبخة الحجارة " التي قرأناها في سيرة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ليلة خرج يتفقد أحوال رعيته، وما كان من أمر العجوز، ومن هنا، كان على الشعب الفلسطيني تحديداً، وبقية أمته عموماً، أن تبحث عن خيارات جديدة، مدروسة محكمة التوثيق والتخطيط، للتعامل ليس مع إسرائيل فقط، بل مع المعسكر الغربي برمته، إذ أن كثيراً من دوله ما زال يضمر العداء للأمة، ولكن، لما كنا لا نملك أن ننشط في أرجاء الوطن الكبير، فإننا على الأقل، قادرون على معاودة النشاط بين أبناء شعبنا في كل مكان، عبر المؤسسات الفلسطينية القائمة، أو مباشرة بالتفاعل مع الجماهير حيثما كانت على طريق تأسيس مؤتمر عام عالمي يجمع شتات الشعب، وينظم صفوفه، وتأطير جماهيره في منظمة التحرير – بإعادة الحياة إليها، أو في أي بناء تنظيمي آخر كخطوة أولى لإنجاز المهمة الأصعب، وهي العمل على إحداث التغيير اللازم لتجاوز الظروف الراهنة، والتنقير عن منهج نضالي جديد، وأخطر مجالات العمل على هذا الطريق هي:

     

    إعادة البناء الثقافي والاجتماعي:

              إن القضية الفلسطينية في جل أبعادها هي قضية " وعي " كانتكذلك وما تزال، ووجه استمرار تلك الحقيقة أن المفاوض الفلسطيني ما زال يستند إلى الشرعية الدولية، وإسرائيل مخالفة لها، وإلى ما تسعف به الظروف دون أن يكون لنا فيها – الآن على الأقل – دور يذكر … فنحن لا نملك شيئاً، وإن كنا نملك ما هو كثير طائل، لولا أن السياسي الفلسطيني كبل نفسه بقيود فرضتها إسرائيل وأعوانها، وتخلقها الظروف التي يلعبون في تحريكها وتخليقها دوراً فعالاً.

              على أية حال، يمكن القول، إن آباءنا لو كانوا يعون أبعاد الاستيطان المبكر، ولو كان سماسرة الأرض يعلمون مدى الخطر الذي يجرونه على مجتمعهم، وسماسرة التبعية الثقافية، ومروجو الأمراض الاجتماعية والتقاليد المستوردة … لما سمحوا لما كان بأن يكون.

              وقـد قرأنا في الآونة الأخيرة كتاباً جريئاً يضع الإصبع على الجرح مباشرة، هو " لا تخف " لمؤلفه عبد الرحيم عراقي من الطيرة، وضح فيه أن تأخرك عن القيام بعمل كفاحي ما بسبب خوفك من العواقب، يؤدي في الغالب إلى خسارة أكبر، وإلى عواقب أوخم … تماماً مثلما يقول حكماء الشعب " مجنون برمي حجر في بئر مئة عاقل ما يطلعوه ".

              مما تقدم، نستطيع أن نقول: لا بد للنجاح في إحداث التغيير اللازم من وعي ثقافي وتكافل اجتماعي. فأين نحن في الواقع من ذينك الشرطين!؟ ولما كان من الصعب التفريق بينهما في المعالجة، فإننا نكتفي بالإشارة إلى الواقع الذي يحياه الفلسطينيون في الوطن والمهجر.

    أ- في الوطن:

    1-  عبر الخط الأخضر(الأحمر فعلاً)([1]) حيث تمكن الإسرائيليون من دك البنيان الاجتماعي للفلسطينيين، وحولوهم إلى " جوييم " يعيشون في " جيتوات "، اللهم إلا من قريب.

              كما تمكنوا من فكفكة البنيان وخلخلته، فبعد أن كانوا شعباً واحداً، إذا بهم أقليات من مسلمين ونصارى، ودروز، وشركس، وبدو، وكم نجحوا في إغراء بعضهم ببعض، كما حدث في يافا والرملة والجليل ومؤخراً في عيلوط ومصمص، ناهيك عن ملاحقتهم أهل القرى بعدم الاعتراف بكثير منها، وتقليص أراضيها، وتهجير البدو من مساكنهم، ونحو ذلك من الممارسات التعسفية، وإخضاع الجماهير إلى الرؤى الثقافية الإسرائيلية.

     

    2-  في الضفة الغربية:

              يعيش الفلسطينيون في الضفة والقطاع حياة متباينة الأطوار من جهات مختلفة. فإلى جانب الدور الإسرائيلي في صياغة الحياة هناك، نجد بعض العلل التي تترجم أثر الثقافة التي سادت في أواخر الحقبة العثمانية وأبان العهد الاستعماري المباشر، نعني الطبقية والإقطاع، إلى جانب ما يمكن أن نسميه بظاهرة المخيم الذي حافظ على حياة الذاكرة بأوضاعه المؤلمة، والتي ما تزال تستنهض العزائم لولا ما أحدق بالشعب من المستجدات والمخاطر قبل أوسلو وبعدها.

              إن المخيم ما زال يدفع الثمن غالياً، في الوقت الذي توقف فيه غيره عن دفع أي ثمن بل، على العكـس من ذلك، يمكن أن نقول، وبصراحة، إن غيره بدأ يقبض الثمن، ويجني الثمر … أعني هذا التحسـن في أوضاع المدن والبلدان المختلفة، نعم ربما كان هناك من يقول إن مشكلة اللاجئين ( المخيم !! ) ستحل – إن شاء الله – في وقت لاحق … لكن هذا القول دليل على أن المجتمع مجتمعان، فلا يصح – إلا في عرف الهزيمة – أن يتقاسم قوم الغنيمة، ويطلب من غيرهم أن يظلوا على الجبل إلى أن تنفضَّ المعركة – التي لا دور لنا فيها سوى انتظار نتائج الأفعال والضغوط التي يمارسها غيرنا على خصمنا الشائك.

              إن مجتمع الضفة الغربية والقطاع في أمس الحاجة إلى دمج قطاعاته، ونسف القيم الظالمة التي تسوده، ما كان منها نتاج الحقبة العثمانية وما كان نتاج الحقبة الاستعمارية المباشرة والاحتلال الإسرائيلي من بعد. بعبارة أخرى إن مجتمعنا بحاجة إلى إعادة تنظيم على أسس سليمة تستمد من قيمنا – هذه القيم التي نحولها في أفواه طلابنا على مقاعد الدرس إلى طبول جوفاء بما نمارسه من أعمال ونشاطات تناقضها على أرض الواقع.

              إني أتساءل عن شكل الوحدة الاجتماعية الذي يمكن أن نجده بين مخيمي الجلزون وقلندية من ناحية ورام الله البيرة من ناحية أخرى، وبين نابلس وكل من مخيماتها بلاطة وعسكر وعين بيت الماء؟!

              ربما ساء بعض القراء أن يقرأ ذلك، فبادر إلى إتهامي بإثارة الفتنة … يالها من حقيقة قديمة جديدة مؤلمة في تاريخ الأمة … حين يعد نقد الواقع فتنة … إنها فتنة ألفناها على صفحات القرون من قديم … وما تزال.

              إن البيئات الثقافية المتباينة في الأرياف والمدن والمخيمات لتقوم دليلاً قاطعاً على سوء ما نحن فيه، لو كنا نشعر، وندرك أن هذه الحقيقة المرة لا بد لها من أن تترك بصماتها على أي مشروع نضالي كأوضح ما تكون وأخطر ما تكون … ولا يضاهيها في ذلك أي تباين كان اقتصادياً أم مدنياً أم غير ذلك. لأن دور الثقافة في صياغة الإنسان والمجتمع هو الأعمق، والأبعد أثراً، وأكثر استمراراً على مر الأيام.

    ب-  في المهجر:

              تعددت مهاجر الفلسطينيين خارج الوطن وتباينت، فمنها – أولاً – ما كان نتيجة للنزوح الاضطراري، ومنها ما كان اختياراً، وسنتناول الظاهرة الأكبر، وهي المخيمات في كل من دول " الطوق " ثم المهاجر العربية طلباً للعمل، والغربية ما كان منها طلباً للعمل فتحول من بعد إلى تهجير أو توطين تآمري يهدف إلى إفراغ الوطن، وتذويب الشخصية الفلسطينية وامتصاص كثير من طاقاتها.

     

    1-  المخيمات الفلسطينية في الدول العربية:

              خرج الفلسطينيون الخروج الأول عام 1948 فتركز معظمهم في ما تبقى من فلسطين وشرقي النهر في المملكة الأردنية الهاشمية، وبنسبة أقل في سورية ولبنان، وبنسبة أقل منهما في كل من مصر والعراق.

              تشكل المخيم هناك، كالمخيم في الضفة الغربية والقطاع من أشتات قدموا إليه من أصقاع الوطن المستباح، قلما نجد أسرة ممتدة اجتمع شملها في مخيم بعينه، بل الغالب في ذلك أن جل الأسر تمزق شملها في عدة مواقع وبلدان … يا لها من ضيعة.

              وفي عام 1967 كان الخروج الثاني، وتركز الهائمون في الأردن، وقليل منهم التحق بأقربائه – لاسيما بعد اشتداد عود الثورة الفلسطينية – فتوجه إلى سورية ولينان، وتفاقمت الأوضاع الاجتماعية – والثقافية من بعد – إلى حد كبير، وانخرط كل جمع مع من يليهم من العرب، وداخلوهم حتى عدوا منهم، أو كادوا، وتخلَّقوا بأخلاقهم، أو العكس، وفي بعض المخيمات – سورية – حافظ الفلسطينيون على هويتهم، وأوتوا من الحقوق ما أوتي السوريون، وفي بعضها الآخر – الأردن – اندمج الفلسطينيون مع الأردنيين في وحدة شعبية لا مثيل لها، وحصلوا على حقوق الأردنيين كاملة، لولا أن المخيم ظل مخيماً، وظلت أدواؤه كما كانت، ولم تتغير أحواله على مدى خمسين عاماً تقريباً بالرغم من اشتغال أبنائه في الوظائف الرسمية وفي الدول المجاورة – الخليج وليبيا -، وبالرغم من بطاقة التموين؟؟

     

              بعبارة أخرى، إن ظروف المخيم الاجتماعية واحدة في الوطن والمهجر، وهي من الصرامة والبؤس والحرمان والاكتظاظ والتخلف بمكان يصعب وصفه، لا سيما مقارنة مع المدن المحيطة بها هنا وهناك.

              وقد سمعنا في الآونة الأخيرة عن برنامج للأمم المتحدة يعمل على التنمية الشاملة للمخيمات ولبقية أرجاء الوطن، وهنا، نتساءل: لئن كان بؤس المخيم سابقاً هو الذي حافظ على اتصال القضية الفلسطينية بجذورها، وأسهم في تأجيج الثورة والانتفاضة، فهل تهدف الأمم المتحدة من وراء ذلك إلى نزع الفتيل، بعبارة أخرى إلى خصي المخيم؟ لكن! أليس للمخيم حق في التنمية … ؟ نعم … ولا …

              الوجه الصحيح في ما نرى أنه لا بد من دمج أبناء المخيم في جملة أبناء الشعب مسكناً ومكاناً واقتصاداً و … باعتباره شعباً واحداً، كما يجب – أيضاً – وبالمقابل – دمج قضية المخيم في قضية عموم الشعب، أي بحيث تصبح قضيته قضية الشعب كله، وألا يهدأ بال لجميع قطاعات الشعب حتى تحقق حلم المخيم – وهو حق – في العودة وتقرير المصير … لا أن يظل المخيم مسيح الشعب … ودافع الضرائب الأول على طريق التحرير التي وصلت إلى سد منيع، أو توقفت وانتهت عند بعض أبناء الشعب.

     

    2-  المهاجر الاختيارية:

    أ-  في البلدان العربية، وغالباً ما يكون الوجود الفلسطيني فيها نتيجة لطلب العمل في هذه البلدان، وربما توطن بعض الفلسطينيين في هذه البلدان بشكل اضطراري، أو تقادم عليهم العهد فيها حتى اندمجوا مع أهلها بالتصاهر والمشاركة ونحو ذلك، ولعل أكبر التجمعات التي شهدتها الدول العربية من هذا القبيل ما كان في الكويت قبل عام 1990، ثم في السعودية فليبيا وهكذا.

              وبالرغم من تفاوت أوضاعهم في هذه البلدان وغيرها إلا أنهم يظلون فيها عرضة للتقلبات التي تطرأ بين حين وآخر، على نحو ما جرى في الكويت عقب عام 1990 وليبيا بعد عام 1993، ولذلك فهم يحافظون على علاقات وطيدة مع امتدادهم في الأردن وسورية والضفة والقطاع.

              وتتسم أوضاعهم الاجتماعية بعلاقات ضعيفة مع من حولهم، وقلما نجد طابعاً فلسطينياً تمتاز به تجمعاتهم أو محافلهم، بل الغالب أن يطغى عليها البعد العربي والإسلامي استجابة للظروف الاجتماعية السائدة في الأوساط التي يعملون فيها.

    ب-  في البلدان الأجنبية ( أوروبا وأمريكا )

              إلى جانب الأعداد الغفيرة من الطلاب الذين يتوجهون إلى دول المعسكر الشرقي سابقاً – وهي لا تختلف في أثرها الاجتماعي والثقافي عن الدول الغربية، إذ يكثر أن يعود الدارس متزوجاً من أجنبية – هناك عدد قليل منهم يتوجه للدول الغربية، وهم غالباً المبعوثون وأبناء الطبقة الغنية، والمؤسف حقاً أن نسبة من هؤلاء تؤثر البقاء في البلدان التي درست فيها لتعمل ضمن ظروف أفضل، ومع مضي الزمن تنزرع في تلك البلدان دون أن تنقطع علاقتها بالوطن وأبنائه، ولكن روح الانتماء لديهم تخفت تدريجياً، لا سيما في الأجيال اللاحقة، ويقتصر الأداء على الدعم المادي.

              وهناك تجمعات فلسطينية لا بأس بها في الولايات المتحدة الأمريكية وكنده وألمانية وأسترالية والدنمرك، وفي غيرها، ولكن بنسبة أقل. والمؤسف أن من هؤلاء من يستجيب لظروف " الوثيقة "([2]) وضيق المخيم، وتكاليف الحياة، فيسقط في شرك التهجير المبرمج ممثلاً في ما يعرف بالتوطن في تلك البلدان وحمل جنسيتها، أو بالحصول على الإقامة الدائمة أو ما يعرف بالبطاقة الخضراء في الولايات المتحدة الأمريكيةGreen Card.

              والمثير للاشمئزاز أن نجد بعض الدول الغربية ( أستراليا على الرغم من موقعها، والولايات المتحدة وكندا ) تطرح من حين لآخر برامج هجرة مدروسة، وهي غالباً ما تستهدف الفلسطينيين في الأردن ومصر ولبنان إضافة إلى الضفة والقطاع، وكثيراً ما يستجيب لها الذين أحبطتهم الأوضاع على الصعد المختلفة – وطنياً وقومياً وإسلامياً، بل دولياً، حيث إن الأمم المتحدة تبني أحكامها وقراراتها على اعتبار نكبة الشعب الفلسطيني واقعاً لا سبيل إلى رفضه، بحجة أن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء … بينما قبلت لليهود أن يعيدوها للوراء عشرين قرناً.

     

              إن ما يعانيه الشعب الفلسطيني دون غيره من شعوب المنطقة، هو حصاد ما زرعته بريطانيا، وإن كل التراكمات وإن أدت، مع الزمن، إلى تغيرات طالت النوعية، وزورت التاريخ، وفتنت الشعب، وزلزلته حتى انقسم على نفسه في الآونة الأخيرة بين راض بأوسلو وساخط عليها، وبين قابل بالتعويض ومصر على حقه في العودة، ولو أدى ذلك إلى تكسر مسننات ساعة الزمن … إن هذه التراكمات والمآسي التي تعرض لها شعبنا في الوطن والمهجر، بكل فئاته، وتناقضاته، لهي من صنع بريطانيا، وأنها بذلك المسؤولة الوحيدة، بالدرجة الأولى عما آل إليه أمر القضية، وحال الشعب، تشاركها في ذلك الولايات المتحدة، وريثها في تبني الحركة الصهيونية ابتداء من أواخر الحرب العالمية الثانية، والأمم المتحدة – المتحيدة – التي


    ([1])  أتدرون لماذا الأحمر: لأنه لا يصح اجتيازه إلا لسائح أو عامل … سائح في وطنه أو خادم يعمل عند اليهود.

    ([2])  نقصد الوثيقة المصرية واللبنانية التي تمنح للفلسطينيين وتحول دون دخولهم مصر ولبنان في بعض الأحيان.

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me