An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Monday, February 2, 2009
  • الكشف باللغة عن التاريخ الطبيعي
  • Published at:Not Found
  • الكشف باللغة عن التاريخ الطبيعي والتطور الحضاري

     

     

    يلجأ العلماء في تقدير عمر بعض الكائنات إلى استخدام الكربون المشع ، حيث يستخرجون بذلك مقدار ما فقده الجسم المختبر من الكربون خلال المدة التي انقضت على تكونه إلى يوم اختباره ، ويقدرون ذلك بما يناظره عدد سنين ، ويقدمون لنا رقما غير ذاكرين ما اعترى ذلك الكائن وما تفاعل معه طوال تلك المدة . وتوجيه ذلك أن الأجسام تحتوي على نسبة معينة من الكربون ، الأمر الذي يجعل من المسألة معادلة ذات حدين ، ومحصورة بين بعدين مجردين .

     

              وليس عسيرا على العلماء أن يحتسبوا عمر الأحداث المختلفة بمختبراتهم و بأدواتهم المختلفة ، هذا إذا توفرت لديهم معلومات تدور حولها وتكشف النقاب عنها . غير أن ثمة قاموسا يتضمن الأحداث كافة ، طبيعية كانت أم حضارية ، ويكشف عنها ، ويحدد أزمانها باستقراء العلاقات التي تربط بين نتائجها والقرائن التي ترشحها ؛ هذا القاموس هو اللغة ، أما ما يحدد أزمانها ، فالتراث بألوانه المختلفة . وتوجيه ذلك أن اللغة والتراث يجمعان المعاني التي تعبر عنها الأحداث ، إذ ما اللغة إلا تعبير عن النشاط الطبيعي والبشري  وكل نشاط حدث .

     

              واللغة والتراث ، أدق في الكشف عن الأمور من سواهما ، ذلك بما يقدمان شريطا متواصلا للحدث أو الذات مما يكشفان عنه ، ويتم ذلك بتعقب التغيرات التي طرأت على دلالة اللفظ الذي يعبر به عن الحدث أو الذات.

     

              وجدير بذلك أن الحدث والذات ، قد لا يكون لهما وجود مادي ، ذلك أن الوجود ثلاثة أنواع : واقعي، وهو  ما وصفناه بأنه مادي ، كالجبال والماء والنجم ونحوها مما استقل في جرم . ووجود خيالي تصوري كالرخ والعنقاء والقرينة ، حيث تتربع هذه في أذهان من يؤمنون بها ، ويرسمون أبعادا لها لا تكون واحدة في تصور الجماعات ، على العكس مما يوجد حقيقة ، حيث يكون واحد في تصور الأفراد بالرغم من اختلافهم في مسائل أخرى ، اللهم إلا إذا أخذنا في الاعتبار ما يعرف بالدلالة الهامشية للألفاظ وما تدل عليه ، هذه الدلالة التي تنشأ عن طبيعة العلاقة بين الفرد ومدلول اللفظ ، كدلالة كلمة " أفعى " بالنسبة لثلاثة أشخاص ، أحدهم معجب بلونها ، والثاني لدغته يوما ما، والثالث أكل لحمها . أما النوع الثالث ، فالوجود الذي أخبر عنه في الكتب السماوية كالله سبحانه وتعالى ، والجنة والنار ، والجن و الشياطين .

     

              وسنعرض فيما يأتي لجملة من العلاقات اللغوية تكشف عن عدد من الحقائق الطبيعية والحضارية ، الأمر الذي يرشد إلى ضرب جديد من الدراسات اللغوية جدير بالاهتمام . وأول ذلك الحجارة الرطبة ، واللابة.

     

              نقرأ في كتب علوم الأرض كلمة " Lava " بمعنى الصهير الذي تقذف به البراكين . ونقرأ في كتب التراث وأدب العرب كلمة " اللابة " فأي الكلمتين هي الأصل ، العربية أم اللاتينية ، وهل لنا بوسيلة للاستدلال غير الوسائل المعروفة ، كالنظائر السامية والصيغ المصاقبة، وكثرة الاستخدام ، التي كثيرا ما تقصر عن أداء الغرض ولا تصل بالباحث إلى بغيت ؟ إن استقراء اللغة وخبايا التراث تسعفنا إذا اشتدت بنا الفاقة .

    ولتوضيح ذلك نقول: ما هي اللابة؟ إنها الحرة، أي الغطاء البركاني يمتد على مساحة واسعة من الأرض، شاملاً إياها بطبقة من الصخور والحجارة السوداء النخرة " النَّشَف"، إذاً ما الفرق بين معنى Lava ولابة. إنه فارق زمني. فما تقع عليه " اللابة" من مدلول هو نفس ما تقع عليه Lava إنه كالفارق بين رجل وفتى،  أو امرأة وبنت ... إلى حد ما ، أو كالفارق بين سمكة مقطعة في الطاوة وأخرى في البحر تعوم.

     

    وهل ثم من فارق لفظي؟ لا فارق تقريباً،  ذلك أن الوحدة الصوتية " v " ليس لها ما يناظرها في العربية ، إلا الباء أو الفاء ، أو الواو، مع أنها موجودة في بعض اللغات   " السامية " بنات العربية.

     

    وقد شهدت بلاد العرب كثيرا من البراكين،  استمر نشاطها إلى عهد عثمان بن عفان،  حيث كانت سحب الدخان ما تزال تخرج من بعض الجبال القريبة من المدينة المنورة. (1) والحرة والبركان والأطمة  والنار سواء في الاستخدام العربي قديما . ومن ذلك قول عُرعُرة النميرى  :

                                                                                      ( رجز )

         بِحَرَّةِ القَوْسِ وَجَنْبَيْ مَحْفِلٍ                       بينَ ذُراهُ كَالحَرِيقِِِِ المُشْعَلِ ( 2 )

             

    يصف بركانا أسماه حَرَّة ، مضافة إلى القوس ، قرب جبل محفل فتبدو مقذوفات البركان – ليلا- كالحريق على رأس جبل. وقال آخر :

                                                                                     ( وافر )

    بِحَرَّةِ لََبنَ يَبْرُقُ جانِباها                       رُكودٌ ما تَهِدُّ من الصَّباحِ ( 3 )

              وخلاصة ما سبق . أن العرب ، قديما ، كانت تشاهد البراكين الحية و الصهير الذي تقذفه ، فيسيل من حولها ، ويظل رُطباً رِخوا إلى أن يبرد ويتشكل حجارة وصخورا  فهو في الطور الأول صهير، أو حجم Lava  وفي الطور الثاني " لابة " .

              وننظر الآن في المادة " لوب " التي اشتق منها " اللابة " لنرى أن هذه المادة، وما صاقبها، أصيلة في دلالتها على معنى اللين و التلوّي في اتصال . فمنها الملاب ، وهو طيب وخلوق من مساحيق الأعشاب العطرية والدهون، وكثيرا ما يشبه به سلح الناقة على ألياطها، وهذا يشارك الصهير في بعض صفاته وهي اللين والاتصال وتتبع المنخفضات مع مراعاة الجانب النسبي ، ومنها اللواب ، مرض يغشى البطن والأمعاء . وفلان يلوب من الألم إذا كان يتألم بشدة فهو يتلوى ويتثنى . واللولب مما ضعفت فيه الفاء ( التي هي اللام) واللولب إلى لين واتصال والتواء . ومما يصاقبها المادة " روب" لأن الراء أخت اللام، ومنها الروبة ، وهي من الألبان معروفة ، وقوم روبى أي نيام معفّقون ، وهذان المعنيان يقعان ضمن دلالة المادة لارتباطهما بالاسترخاء والرخاوة .

     

              وننظر في المعاجم الاشتقاقية اللاتينية ، لنجد أن  المادة "Lava " تنصرف لدلالة تقع بعيدا عن مدلول اللابة و Lava التي تعني الصهير ، حيث تشير مشتقاتها إلى ما له ارتباط بالغسل وأداته فقط .

     

              من كل ما تقدم ، نستطيع أن نؤكد أن  Lava  اللاتينية التي تعنى الصهير ، هي دخيلة في اللغات الأوروبية من العربية ، وأصلها فيها هو " لابة ". بدليل المواد المصاقبة لها ، إضافة إلى أن الشواهد تؤكد أن العرب قد شاهدوا الصهير يسيل على جوانب البراكين في وقت متقدم . وإن المادة اللاتينية لا تحمل دلالة ما يشير إليه المصطلح العلمي Lava  .

     

              وهناك شاهدان يؤكدان ما ذهبنا إليه ، فإذا استقرت كلمة لابة في العربية لمعنى الحرة ، أي الأرض المغطاة بالحجارة البركانية ، بغض النظر عن كون الحرة ذات معان ترشح أن تكون اللابة أصلا بمعنى الصهير ، وهذا أمر يقره البيان العربي كأن يكون من باب المجاز المرسل القائم على علاقة اعتبار الكينونة السابقة – أن كان الأمر كذلك فان فيما سنوضحه لاحقا ترجيح لما غضضنا النظر عنه في الأسطر السابقة . فقد أنشد ابن الأعرابي وغيره قول الراجز :

     

    تَسْأَلُنِي عن السّنِين كَمْ لــي

    فقلْتُ : لَوْ عُمِّرْتُ عُمْرَ الحِسْلِ

    أوْ عُمــْرَ نُوحٍ زَمَنَ الفِطَحْلِ

    والصَّخْرُ مُبْتَلٌ كطِيــنِ الوَحْلِ

     

              حيث  جاء في الخبر عن أبي علي  القالي أنه سأل أبا بكر ابن دريد-  رحمهما  الله-  عن زمن كانت  فيه الحجارة رطبة (4)  أي  لينة، واللين  طور  يسبق اليبس  والتصلب. ومعنى الرجز، وفيه شرط ناقص حيث  لم يذكر جوابه- أن امرأة تسأله عن عمره، فرد عليها قائلاً:  لو  عشت  عمر الضب، وبه يضرب  المثل لطول العمر، حيث يقال: أعمر من ضب  - أو عمر نوح عليه السلام – وقد لبث في قومه يدعوهم لدين الله خمسين عاما وتسعمائة عام، أي أنه عاش أكثر من ذلك – نوح الذي عاش قديماً عندما كانت الحجارة ما تزال  رُطبة لم تيبس بعد، أي: لو كان ذلك لكان عمري كذا وكذا،  وليس شرطاً أن يكون لين الحجارة قد عرف في زمن نوح، ولكن المقصود أن يشير إلى قدم ذلك.  كأنه أراد أن يقول: أو عمر نوح أيام زمان، ويؤكد ذلك شاهدنا الثاني وهو قول الطِّرِمّاحِ بنِ حَكيم الطائيّ(5):

                                                                                              (بسيط)

    لنا  المُلْكُ مِنْ عَهْدِ الحجارةِ رُطْبَةً                       وَعَهْدُ الصَّفا بالِّليْنِ مِنْ أَقْدَمِ العَهْدِ.

              يفاخر بطيء قبيلته، فهي مالكة أمر وسط الجزيرة منذ  كانت الحجارة رطبة،  وذلك أمر موغل في القدم.

              وأن تكون الحجارة والصخور " رُطبة وكطين الوحل" وتستمر على تلك الحال ... أمر مستحيل ،  والصواب أن تكون صهيرا سرعان ما ييبس ويتصلب فيكون العهد به مائعاً أو سائلاً،  ومدة مشاهدته كذلك، قصيرين، لكنهما كافيان للتحقق من التحول وإدراك العملية الطبيعية،  ولوصفها والحديث عنها.

              والطرماح – ولعل الراجز مثله أيضاً – لم يشاهد  البراكين، وكذلك جيله، وليس غريباً  أن تتحدث الناس آنئذٍ عن الصهير والحجارة الرطبة فتنسبها إلى " أقدم العهد".

              والذي نود أن نؤكده  في ختام هذا البحث القصير  هو أن الشاهدين الأخيرين  يختلفان في شهادتهما عن الشواهد السابقة،  حيث إن قائلاً قد يدعى أن تلك الشواهد قد تكون منحولة،  أو أنها غير كافية، فيقول: لكن الشاهدين التاليين لا يمكن أن يكونا كذلك، لأن  حجارة الحرار التي تغطيها وصخورها مساحات  شاسعة من أرض الجزيرة العربية كانت رطبة لينة دون  شك.  ويقوم دليلاً على ذلك الحرار ذاتها وطبيعة النشأة علمياً.

              فالشاهدان الأخيران يعكسان ظاهرة لا يتطرق إليها الشك ، وحدثا كان لو لم يشهد به إنسان، حتى لو غطت الرمال الحرار وأخفت الشاهد الطبيعي.

              ونستخلص من  كل ما سلف أن  اللغة  والتراث الأدبيّ خير قاموس يحيط بالأحداث  ما كان طبيعياً  منها أو حضارياً،  ذلك أن  حدثا  ما لا يمكن إلا  أن يترك أثراً  على لسان، لا سيما إذا كان ذلك الحدث من الأمور العظام.

              إن استقراء اللغة  يكشف عن كثير من الأمور  والخفايا، عن براكين كانت ثم خمدت  وهمدت،  وعن صهير استحال حجارة  وصخورا.  ولقد  حفظت اللغة كل ذلك وخلدته بألفاظ وعبارات نتداولها وقد لا نعي ما وراءها لأننا كثيراً ما  نفعل ذلك بطريقة آلية.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

    __________________________________________________

    الهوامش:

    1.  أنظر لذلك  : ابو حنيفة الدينوري – الأخبار الطوال ص 61، والهمذاني – الإكليل 1/33  والمسعودي-  التنبيه والإشراف ص 202 وبلدان ياقوت 6/261 وتاريخ الطبري 1/298.

    2.     بلدان ياقوت 2/259.

    3.     نفس المرجع  3/260.

    4.     الأمالي للقالي 1/231 ، 238.

    5.     الطرماح  - ديوانه – ص 190  والألفاظ الجغرافية للمؤلف ( أطروحة الدكتوراه عام 1977) ص 13.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
  • بشرى said...
  • بصراح اهنيك على المعلومات ارئعه عن تشاد ووواتمناء منك المزيد وشكرن مرا ثانيه ووبمناسبة مرور (50(عام من الستقلا التشادي اهني جميع الشعب التشادي واتمناء لهم الدوم وازدهااار
  • Monday, August 1, 2011
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me