An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Tuesday, March 10, 2009
  • العين بين العلم واللغة
  • Published at:نشر هذا البحث ابتداء أواخر سبعينات القرن الماضي في مجلة الثقافة العربية بليبيا، ثم طور ونشر من بعد في مجلة اللسان العربي بالمغرب
  •  

     

     

    العين بين العلم واللغة

    أ.د. يحيى جبر

    أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية

    نشر هذا البحث ابتداء أواخر سبعينات القرن الماضي في مجلة الثقافة العربية بليبيا، ثم طور ونشر من بعد في مجلة اللسان العربي بالمغرب

     

    قال عز من قائل: "ألم نجعل له عينين؟ ولسانا وشفتين" (1) صدق الله العظيم

    تبين هاتان الآيتان مدى الترابط بين العين واللغة، إذ المعنى ـ والاستفهام تقريري ـ أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مزودا بعينين يبصر بهما، ويدرك الأشياء من حوله، وبلسن وشفتين يعبر بهما عما يراه، وهذه هي اللغة في أجلّ معانيها؛ أن تكون تبصّرا في المرئيات من آيات الله ومخلوقاته، وتفكّرا في ملكوت الله وعظمته، وتداولا للفكر بين المرء ونفسه على طريق الإيمان ورسوخ المعرفة بالله، ثم تعبيرا عن ذلك كله باللغة تعبدا وتعميما للفائدة.

    ومن هنا كثر ورود الآيات التي تدعو الإنسان إلى السير في الأرض والنظر في عواقب الأمم الغابرة، والقرون الخالية، ومعالم الطبيعة والأفلاك وغيرها. على نحو ما نجده في قوله تعالى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين" (2) . وقوله "أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده"(3) وقوله "فانظر إلى آثار رحمة ربك كيف يحيي الأرض بعد موتها" (4). وقوله عز وجل "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (5) صدق الله العظيم.

    وقد تنبه العلماء المسلمون إلى هذه الحقيقة من قبل، ويتضح ذلك في كثير من أقولهم، ومن ذلك على سبيل المثال قول ابن حزم في معرض حديثه عن الأجرام السماوية (6) " أما معرفة قطعها في أفلاكها، وآناء ذلك ومطالعها وأبعادها وارتفاعها واختلاف مراكز أفلاكها، فعلم صحيح يشرف به الناظر فيه على عظيم قدرة الله عز وجل، وعلى يقين تأثيره وصنعته واختراعه تعالى للعالم بما فيه، وفيه الذي يضطر إلى الإقرار بالخالق".

    ومثل ذلك قول البتّاني في علم صناعة النجوم والمواقيت والأهلّة ومواضع النيرين (7) ومسير الكواكب ... " وسائر مناسباتها إلى ما يدرك بذلك، من أنعم النظر وأدام الفكر فيه من إثبات التوحيد ومعرفة كنه عظمة الخالق، وسعة حكمته وجليل قدرته ولطيف صنعه." (8)

    وهكذا، فإن العبن سبيل الإنسان لإدراك كنه هذا الكون وما ينم عنه من عظمة المبدع جل وعلا، ومن هنا كانت مصيبة الإنسان في بصره شديدة، إلا أن يهديه الله إلى التذرع بالصبر، ويعوضه عنه بصيرة وإيمانا، ومن هنا أيضا، يسهل أن نفهم لماذا جعل الشارع في العين نصف دية (9) ذلك أن العينين هما نصف الإنسان، ومن تسبب في عمى امرئ فكأنما تسبب في موته؛ لأنه يحرمه بذلك نعمة الإدراك، ومتعة التأمل المؤدي إلى الإيمان.

    ويرجع إلى ما تقدم قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن الله قال "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته عنهما الجنة" (10) يريد عينيه. انظر إلى هذه التسمية: حبيبتيه! وإلى هذا الجزاء: الجنة!

     

    العين واللغة:

    تنصرف كلمة العين في اللغة إلى عشرة معان، ذكر أحمد بن فارس (11) تسعة منها في قصيدة خصها بالعين ومعانيها، حيث ضمن كل بيت واحدا من معانيها، وهذه المعاني هي:

    1.     سحاب ينشأ من قبل القبلة، وتحديدا من قبل البحر الأحمر في اتجاه الحجاز.

    2.     عين الإنسان وغيره.

    3.     ما ينبع منها الماء.

    4.     عين الركبة، أو ما يعرف ببعض البلدان "بصابونة الرجل".

    5.     الثقب في المزادة والقربة ونحوهما، يتسرب منه الماء.

    6.     الواشي والجاسوس.

    7.     العين في الميزان، وهو أن ترجح إحدى كفتيه على الأخرى.

    8.     المال الحاضر، أي الدنانير والدراهم تدفع نقدا بمعنى cash في الإنجليزية.

    9.     والعين هو الحرف الثامن عشر من الألفبائية العربية.

    10.          أما عاشرها، ولم يذكره ابن فارس، فهو ما يستخدم عند إرادة التوكيد المعنوي، حيث تقول: جاء فلان بعينه أو عينه، وهي هنا ترادف كلمة "نفس" أو "أم" أو "ذات" في لغات العرب.

    وجل هذه المعاني من المجاز لعلاقات مختلفة، ولكن أكثرها قائم على التشبيه؛ فالسحاب عين لتدفقه بالماء. وعين الماء على التشبيه بالباصرة من وجوه عدة؛ أولها أن كلتيهما تكون في صلب، وثانيهما جامع الشكل، وثالثهما السيلان: هذه بالدمع وتلك بالماء، وقل مثل ذلك في العين بمعنى الثقب في القربة ونحوها.

    وعين الركبة على التشبيه بالشكل، والجاسوس عين لأنها وسيلته في تجسسه على الناس، والميل في كفة الميزان عين فعلى تشبيهها بعيني الإنسان في وجهه، ولا سيما إذا كان أحول.

    والمال الحاضر عين لمثوله أمام العين، فهو بذلك خلاف الدين والمؤجل، وقريب من هذا ما يستخدم في التوكيد المعنوي، إلى جانب أن في قولنا: جاء بعينه ما يوضح مكانة العين في الإنسان، فهي هو، وهي أدل ما فيه عليه. والعين الحرف من حروف اللغة إنما سمي به لأنه أول أحرف كلمة عين ورسم على هيئة (ـعـ ، ع ) وهي هيئة الفم عند التلفظ بها.

    ويشتق من العين الفعل عانه يعينه، بفتح ياء المضارعة، إذا أصابه بالعين، وهو من الحسد، قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" (12) صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

     

    العين مرآة:

    تختلف العين عن غيرها من مواضع الحس، فهي جهاز إراديّ على نحو تلقائيّ، وهي أكثر تعبيرا عن وجدان المرء وأحاسيسه، وأصدق وأبلغ حتى من الكلام، إذ كثيرا ما ترسل الدمع في حالتي البكاء والفرح، أو تزمهرّ عند الغضب على نحو ما يترجمه قول العبّاس بن الأحنف:

    لا جزى الله دمع عيني خيرا                        وجزى الله كل خير لساني

    نمّ دمعي فليس يكتم شيئا                          ورأيت اللسان ذا كتمان

    كنت مثل الكتاب أخفاه طيّ                      فاستدلّوا عليه بالعنوان (13)

    فهي إذن تكشف المكنون، وهي عنوان الإنسان، ولا عجب، فإنها مرآة الصحة بنوعيها؛ البدنية والنفسية. وإن كثيرا من الأطباء يستدلون بها على بعض الأمراض والأدواء في البدن.

    ويضاف إلى ما تقدم أن للعين لغات بين الناس تعبّر عن المحبة والرضا، وعن الكره والبغضاء، وغير ذلك مما تكون عليه العلاقات البشرية، على نحو ما يتجلى في قول عمر بن أبي ربيعة:

    ألا قل لهند احرجي وتأثمي                     لا تقتليني لا يحل لكم دمي

    أشارت بطرف العين خفية أهلها              إشارة محزون ولم تتكلم

    فأيقنت ان الطرف قد قال مرحبا             وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم (14)

     فقد أشارت منها إشارة محزون، وحملتها رسالة فهمها عمر، تماما كما يفهم الكلام الصريح.

     

    العين أجلّ الحواس:

    تعد العين أهم الحواس على الإطلاق، ذلك بما تُغني عنها في كثير من الأحوال، وبما هي أداة الملاحظة والاستقراء اللذين يقوم عليهما العلم، وبما هي مصداق العلم وموضع التثبت مما يتوصل إليه الإنسان في مجاله، والأدلة على ذلك أكثر من أن يحاط بها، وفيما يلي، أورد طائفة من هذه الأدلة تبدي حقيقة ما نحن بصدده:

     

    أ . التقويم القمريّ:

    يلاحظ العالم باللغات وعلم الفلك أن التقويم القمري سبق التقويم الشمسي بقرون طويلة، وأن الشعوب قديما ـ ولا يزال كثيرا منها إلى يومنا هذا ـ كانت تعتمد دورة القمر في التعليم على حدود الزمان واختلاف طبائعها وأهويتها، ذلك لأنها مما يدرك بالحس البصري، ولأن اعتماد الإنسان على حسه سبق اعتماده على عقله بزمان، ومصداق ذلك قول مدبر الكون عز وجل " هو الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" (15) وقوله: "ويسئلونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج" (16).

    ويتضح ما أسلفنا في أن الألفاظ التي تدل على الحد الزمني "شهر" أي ثلاثين يوما، او دونها ـ هي مدة دورة القمر ـ وردت في كثير من اللغات مشتقة من الألفاظ التي تدل على القمر، بل هي الألفاظ نفسها في كثير من اللغات، ومن أمثلة ذلك:

    1.     في العربية:

    حيث تنصرف الكلمة "شهر" لدلالة أصلية على معنى الهلال، ثم للحد الزمني المعلم عليه بدورة القمر، أي ثلاثين يوما، أو دونها بقليل، فكأن الهلال "الشهر" يعلن "بشهر" بداية الحد الزمني لدورة قمرية كاملة تؤقت عادة بثلاثين يوما "شهر"، منذ ظهوره بادئ الأمر في أدنى الأفق الغربي إلى أن يعود ثانية في الزمان والمكان نفسه.

    وقد وردت هذه الكلمة "شهر" لدلالتها على الهلال في شعر ذي الرمة، حيث قوله في رجل أنه:

    ..........................                 يرى الشهر قبل الناس وهو نحيل (17)

    أي يرى الهلال وهو مستدق لا يكاد يُرى. وجدير بالذكر أن الكلمة لا تزال باقية لدلالتها هذه (الشهر = الهلال) في لهجة قبيلة بني شهر من بلاد عسير في جنوب المملكة العربية السعودية. (18) يقولون: طلع الشهر، إذا رأوا الهلال.

    وقد أخطأ الجواليقي حين عدّ اللفظ لهذه الدلالة في المعرّب. (19) وإن شابه نظيره في السريانية سهرا (20) وفي العبرية: سوهر (21)، إذ لا تعدو الكلمة أن تكون عادية(سامية)  مشتركة، أو مما يعرف عند المستشرقين باللغة السامية الأم Proto Semitic وأولى ما تكون هذه اللغة أن تكون العربية، ولكن للمستشرقين مآرب أخرى.

     

    2.     في الفارسية:

    حيث تنصرف كلمة "ماه" لكل من القمر والشهر (30 يوما) (22).

    3.     وفي السواحيلية:

    وهي لغة شرق إفريقية، تستخدم كلمة "مويزي" في التعبير عن كل من القمر والشهر (23).

    4.     وفي البربرية وبعض لهجاتها كاتاركية:

    تستخدم كلمة "تليت" بمعنى شهر، وبمعنى قمر كما تستخدم كلمة أيور بمعنى قمر وحسب. (24)

    5.     وفي اللاتينية:

    Luna، وتعني قمر، وكذلك في الروسية، Nova Luna وتعني شهر، وترجمتها الحرفية "قمر جديد" (25)، وتعني شهر، وهذاشبيه بتسمية الشهر بالعبرية ـ غير ما تقدم ـ :حودش وتعني "حادث" وتناظرها، كما في قولك: لكل حادث حديث، أي لكل مستجد من الأمور حديث، وهل الشهر إلا دورة قمر تستجد؟

    6.     وما نرى Moon  بمعنى قمر بعيدة عن Month بمعنى شهر في الإنجليزية (26).

     

    ب . سبق الألفاظ التي يعبر بها عن جهتي المشرق والمغرب في الظهور على الألفاظ التي يعبر بها عن جهتي القطبين (شمال، جنوب)، إذ لم تخص هاتان الجهتان بلفظين لازمين إلا في القرن الهجري الثالث، حين بدأ اللفظان (شمال، وجنوب) ينسلخان تدريجيا من دلالتيهما على الريحين المعروفتين (ريح الشمال وريح الجنوب) اللتين سميتا بهما نسبة للبلاد التي تهبان من قبلها: بلاد الشام وبلاد اليمن، أي عن شمال الكعبة المشرفة وعن جنبها الأيمن (27) ـ ويلتصقان بدلالتين وجههما الفلكيون العرب شمالا وجنوبا. وأظهر ما يتضح ذلك في كتاب الأنواء لابن قتيبة (المتوفى سنة 296 هـ) (28)، الذي نظن انه أول من استخدمها للدلالة على الجهتين المعروفتين.

              أما قبل ذلك فكان يستعاض عنهما بالظروف المبهمة مضافة إلى ما يحدد الاتجاه مثل: تلقاء مدين، وشطر المسجد الحرام، ونحو وشمال ويمين من قول العرجي (على سبيل المثال):

    شِمال من غاربةٍ مُفرعاً               وعن يمين الجالس المنجد (29)

    ومن ذلك أيضا قولهم: شق سهيل، وشق الجدي، وبحري كذا، وعن يسار أو شآمي كذا، ونحوها مما لا يزال مستخدما إلى يومنا هذا.

    ويتضح ذلك في أن الألفاظ الدالة على الشرق والغرب (المشرق والمغرب) والمنسوب إليهما (شرقي وغربي) كثيرا ما وردت في القرآن الكريم وفي أدب صدر الإسلام، بينما لم ترد فيها ألفاظ صريحة في دلالتها على جهتي الشمال والجنوب، ونورد فيما يأتي شواهد لما تقدم حيث جاء في القرآن أقواله تعالى:

    "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" (30)

    "وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" (31)

    " ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله" (31)

    " رب المشرقين ورب المغربين" (32)

    " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها" (34)

    وأنبه هنا إلى أن عرب الجاهلية كانوا يستخدمون مشتقات من الأصليين (شرق وغرب) غير أني لم أقف على الكلمتين: الشرق والغرب في أشعارهم لدلالتيهما، وقد شاعتا بعد الإسلام تأثرا بالقرآن، ومن قبيل ذلك ما ورد في قول أسماء بن خارجة الفزاري:

    ما أصبحت في شرّ أخبية                    ما بين شرق الأرض والغرب

    بنت الذين نبيهم نصروا                    والحق عند موطن الكرب (35)

    وتوجيه ما تقدم أن جهتي المشرق والمغرب قد اشتق لهما ألفاظ من الأصليين اللذين يعبر بهما عن ذينك الحديثين اللذين يقفان على طرفي نقيض، ويعكسان صورة للحياة والموت، على أعظم ما يكون من حال، لا يتبين حقيقتها إلا العارفون، وذلك الأصلان هما (شرق وغرب)، ولا يسند الفعل منهما إسنادا حقيقيا إلا للشمس، وهي أوضح الأجرام كافة، ولا تقع العينان في الدنيا على أجل منها.

    وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالألفاظ التي تستخدم في التعبير عن الظواهر الطبيعية والمظاهر الحياتية بعامة، فقد سبقت جل مفردات اللغة إلى الظهور، مع ألفاظ الأسرة وأعضاء البدن.

     

    ج . الدراسات الميدانية والعلوم التجريبية، حيث تكون أدق من سواها؛ ذلك لاعتماد الملاحظة والنظر وسيلة إلى جمع المادة المختبرة. ولا شك في أن المخترعات والأجهزة الحديثة إنما قامت على أساس الملاحظة. أما تراهم يزودون الأجهزة بمؤشرات (عدادات أو ساعات أو أضواء) تقوم دليلا على سلامة سير العمل في أجزائها المختلفة أو على تعطله، وهي مما لا يدرك إلا بالعين، وقد نذكر هنا، تحديدا، المؤشرات التي تكون قبالة مقعد السائق في باخرة كان أم سيارة أم طائرة، وإشارات المرور، والمكواة، وجل الأجهزة الكهربائية والإلكترونية من ساعات وحاسبات ونحوها.

    أخلص مما تقدم إلى القول إن العين هي أخطر أعضاء الجسم التي تستمر بغيرها الحياة، هذا ما لم يكن لنا أن نصنف الحياة؛ فنعد كثيرا من أشكالها والمتمتعين بها في الموت والموتى، أو في البهائم على الأقل. فكم من كفيف هو أفضل من بصير. وما أجمل قول أبي فراس الحمداني في هذا المعنى:

    لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها                   إذا لم يكن للمبصرين بصائر

    وهل ينفع الخطيّ غير مثقف                    وتظهر إلا بالصقال الجواهر (36)

     

    العين والمعرفة:

              ولم نقل العين والعلم، لأن المعرفة أوعى وأشمل؛ فكل علم هو بعض المعارف، وليس العكس صحيحا. ثم نلفت النظر إلى ما تقدم في الفقرة السابقة، حيث ضمناها ما يؤكد أهمية العين في مجالات العلوم، وما ينعقد على فعلها من صناعات وتقنيات ونحوها.

              ولكن للعين دورا أعمق من ذلك و أعظم، وهذا الدور يبدو واضحا في أثرها في العقل وفلسفة الحياة. وفي لساننا العربي من الألفاظ والمعاني ما ينم عن تلك العظمة وذلك العمق، ولك أن تستبين ذلك في تقليب المفردات الآتية:

    1.  الرأي: وهو الفكرة ووجهة النظر اللتين يستخلصهما الإنسان من موضوع ما، جراء اختبار بعض المقدمات والإرهاصات. واشتقاق الكلمة من الأصل (رأي) وهو أصلا لدلالة تقع على فعل العين، وهو الرؤية. فكأن الرؤية بالعين تقود إلى تمام المعرفة على نحو ما سنبينه، إذ فرق أهل اللغة بين:

    ـ الرؤية بالعين على الحقيقة.

    ـ الرؤيا بالعقل الباطن لما يراه النائم.

    ـ والرأي بالعقل ـ والقلب.

              كما فرق النحاة بينها كذلك، فجعلوا الأولى والثانية في درجة واحدة، وهما تأخذان مفعولا واحدا، بينما جعلوا الثالثة وحدها، وهي تأخذ مفعولين.

              ومفعول الأوليان مادي محسوس، أما مفعولا الثالثة فالأصل فيه مبتدأ وخبر، فقد يكونان معنويان كلاهما، أو أحدهما، وغالبا ما لا يؤولان بمركب إضافي، أو تربطهما علاقة معنوية لا ترى بالعين، بل تعلم وتدرك عن طريق العقل.

              فالمفعول في قولك: رأيت رجلا، مادي محسوس، وكذلك الأمر في قول يوسف عليه السلام "إني رأيت أحد عشر كوكبا" (37) حيث المقصود "في منامي". وهما في قولك: رأيت السيارة جميلة. إن قصدت الرؤية القلبية ، فماديان. أما إذا أردت البصرية، فإن جميلة تنصرف للحالية. وهما في قولك رأيت العلم نافعا، معنويان.

              وتوجيه أن يكون للفعل "رأى" مفعولان، أن الرؤية في قولنا "رأيت رجلا" وقعت على مادة محسوسة، والمحسوس لا يكون إلا منقطعا في جرمه، واحدا في مكانه، ولذلك كان مفعولا واحدا. أما قولك: رأيت العلم نافعا، فالمعنى: رأيت نفع العلم، والعلاقة بين العلم وانفع واحدة في المعنى، أما لفظا فهي مركبة تركيبا وصفيا على الخبرية في الجملة الأولى، وتركيبا إضافيا في جملة المعنى، الجملة الثانية. والعلاقة إنما تكون بين متعدد، وأقل المتعدد اثنان، لذا كان هناك مفعولان: أول وثان. وقل نحو ذلك في قول خداش بن زهير: (38)

    رأيت الله أكبر كل شيء                محاولة  وأكثرهم عديدا
    حيث المعنى علمت كبر الله عز وجل.

     

    2.  البصيرة والبُصر، وقد تفتح الباء والصاد. بمعنى الإدراك الداخلي، والعلم بالشيء والخبرة به. قال تعالى "أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" (39) أي على علم، والله بصير بعباده، أي عليم. ومن هنا صح لنا أن نصف الأعمى بأنه بصير، وعلى جهة التفاؤل لقبوا أعشى همذان، ميمون بن قيس أبا بصير، بل إن هذه الكلمة "بصير" تستخدم في بعض اللهجات العربية الحديثة (في شمال إفريقية وجنوب الجزيرة العربية) بمعنى أعمى، وهي بذلك من الأضداد، أما على جهة قصد العارف بالأمور، وإن لم يكن يرى، أو على جهة قصد التفاؤل وتجنب استخدام لفظ "أعمى". لأن الناس تكره مثل هذه الألفاظ، لا سيما أن العمى ورد في القرآن الكريم نقيضا للهدى، وبمعنى الضلال، كقوله تعالى: "وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم" (40) وقوله:" ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى" (41)

    والكلمة في ذلك كتسميتهم الأسود أكحل أو أزرق تحرجا من انصراف الذهن إلى ما انغرس في عقول المسلمين جراء قوله تعالى:" يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" (42) حيث كنى ـ سبحانه ـ بالأسود عن الخسران وسوء المنقلب.

    والبصر كما هو معروف، هو فعل العين المعروف، أي إداركها المرئيات من حولها. ولما كان هو والرؤية سبيل الإنسان إلى العلم، فقد صرف الرأي والصر والبصيرة (43)، لمعنى العلم أيضا.

     

    3.  النظر: وهو أيضا فعل العين، وفلان ذو نظر في الأمور، إذا كان عارفا بمجرياتها، عالما بدقائقها التي تخفى على العامة. وتتضح هذه الدلالة للنظر في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام، قبل أن يخرج من حيرته "فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم" (44) حيث المعنى أنه استقرأ هيئة النجوم واستخلص منها ما علم وجعله يقول "إني سقيم".

    ويتضح أثر العين في أحداث العلم والتثبت في الأمور كلها، في أن الشارع اعتمد شهادة الإبصار دون شهادة السمع وغيرها في بعض الحدود والأحكام، كصوم رمضان برؤية الهلال، وكما هي الحال في حد الزنا على سبيل المثال.

    وقد سبق أن ذكرنا أن حاسة البصر تسد مسد بعض الحواس، ويتضح ذلك في حالة الصمم سواء كان ناتجا عن بكم أو غيره، حيث يدرك المرء بها ما يدركه غيره بسمعه. وقل مثل ذلك في حالة التفاهم مع أخرس أو عييّ. والعين تغني عن حاسة اللمس في أحوال الكشف عن خشونة الأجسام وملاستها، كما تغني عن حاستي الذوق والشم في بعض الأحوال، عندما يكون تمييز مصدر الطعم أو الرائحة بوساطة العين أمرا ممكنا.

    ومرد خطورة العين إلى أنها ترتبط بالدماغ ارتباطا أوثق من ارتباط غيرها من الحواس الأخرى، ولأنها أكثر تأثيرا من غيرها وأدق في التحقق مما يقع خارج الجسم، أما رأيت أن الإنسان يشم الرائحة أو يسمع الصوت أو يلمس الشيء، فإذا لم يتحقق منه استعان بعينه ليصل إلى القول الفصل؟

    والأدلة على مكانة العين هذه، وعلى دورها هذا، كثيرة جدا، ولكن منها ما هو قاطع في دلالته، حاسم في توكيده، وفيما يلي نورد جملة من تلكم الأدلة:

    أولها: قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام "رب أرني كيف تحيي الموتى" (45) والرؤية هنا مادية؛ لأن إحياء الموتى إنما يكون ببعث الحركة فيهم، والحركة تدرك بحاسة البصر، وقد تدرك بغيرها، غير ان المقام لا يرشح سواها، حيث النص على الرؤية واضح.

    وليس ما أسلفت مقصودا لذاته، إنما المقصود البناء عليه، حيث كان رده تعالى عليه "أولم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي" إذا فالرؤية هي سبيل الإنسان إلى الإيمان وهي دعامته، وتؤدي إلى طمأنينة القلب، وهي مزايلة الشك، والتيقن، وهذان هما أساس للعلم وثلاث أثافيه.

    وثانيهما: أن الإذاعة المرئية ـ التلفزيون ـ طغت على الإذاعة المسموعة، وتكاد تبطل دورها لولا ما تمتاز به الموجات المسموعة من قوة وقدرة على الانتشار الواسع. وسبب ذلك هو أن المسموعة تخاطب الأذن، أما المرئية فإنها تخاطب العين إلى جانب الأذن.

              وفي هذا ما يوضح أهمية التتبيع أو القصّ عند تلقي الدرس، وهو أن يقرأ الطالب أو غيره ـ وهو يسمع ـ فيمر بأصبعه تحت كل كلمة تقرأ، ويمر على رسمها بعينه، وهذا يعني إشراك حاستي السمع والنظر في عملية الإدراك. ومن هنا أيضا كان الجهر في تلاوة القرآن الكريم وتجويده سواء من مصحفه أم عن ظهر قلب، لأن في ذلك إدخالا للمعرفة به عن طريقين: السمع والإبصار، وذلك آكد له وأوثق.

              والبصر أدق في نقل المعلومات من السمع، وإلا لكان شيوع أشرطة العرض الصامتة في أوائل هذا القرن دليلا على العبث والانتكاس، ولما استطعنا أن نعلل اهتمام مراكز التدريب والتعليم بالدوائر المرئية المقفلة، وغيرها من أشرطة الخيالة (السينما) في التثقيف والدعاية ونقل المعلومات. إذ أن في ذلك ما يقوم دليلا كافيا على دور العين في نقل المعلومات، على نحو أتم من دور الأذن وغيرها من أجهزة الحس. ونحن نرى أن توجيه ذلك يتم على النحو التالي:

              العين تدرك الواقع الذي تكون عليه المرئيات، بينما تدرك الأذن موجات صوتية يترجمها العقل إلى معان، أي أن الأذن تتعامل مع رموز المرئيات والمعاني التي هي الكلمات، وليس معها هي ذاتها. وبعبارة أخرى، أن العين تدرك الأشياء مباشرة، أما الأذن فعلى نحو غير مباشر، وإنما تكمن الدقة في المباشرة، فأنا أرى السيارة فأعرف أمتحركة هي أم لا، وأعرف ما نوعها وكم حجمها وما لونها ... الخ، ولكني أسمع صوتها فلا أعرف شيئا من ذلك أكثر من أنها سيارة، وقد لا تكون متحركة (أي تسير) بل قد يكون الصوت صادرا من آلة أخرى، أو يكون مسجلا على شريط جهاز، كما هي الحال فيما يعرف بالمؤثرات الصوتية التي تستخدم في البرامج الإذاعية مسموعة ومرئية.

              وأبعد مما تقد أن الإذاعة المرئية الملونة أوقع في النفس من غير الملونة (أبيض وأسود) وتوشك هذه الأخيرة على الاختفاء من المتاجر والمنازل. وتوجيه ذلك أن للون دلالة على حامله (45)، ولتوزيعه أثر كبير في تحديد أبعاد الجرم الذي يصطبغ به، مما يجعلها تقدم صورة حقيقية أو تكاد. واللون وتوزيعه إنما يدركان بحاسة البصر، أما ترى أن معلومات المصابين بعمى الألوان تكون مشوشة، وهل يكون لأحدهم أن يقود مركبة على طريق فيه إشارات مرور ضوئية؟ أو أن يعمل في مصنع للدهانات والأصباغ؟

              ويؤكد ما نحن بصدده، ما لاحظته أثناء إقامتي في الجماهيرية العربية الليبية وفي المملكة العربية السعودية، عند تعريب أسماء بعض السلع التجارية، وإليك ثلاثة أمثلة توضح ذلك:

    أ‌)   لقد ترجم القوم في الجماهيرية كلمة "سبورت" وهي اسم نوع من اللفائف المحلية، واستبدلت بكلمة "رياضي" غير ان معظم الناس ظلوا يستخدمون الكلمة الإنجليزية مدة طويلة، ومنهم من لا يزال يستخدمها إلى يومنا هذا، بالرغم من استبدالها على العلبة بكلمة رياضي، وأنا على يقين من أن ذلك غير ناجم عن "عقدة الخواجا" التي يعاني منها كثيرون، ولكن مرده إلى أن الشركة القائمة على تعليب التبغ قد فاتها أن تغير لون العلبة، أو تعيد توزيع أبعاده، ولولا ذلك لكان الأمر مختلفا جدا.

    ب‌)  وقل مثل ذلك في أمر (الببسي كولا) و(ميرندا) و (بيتر صودا) حيث عربها القوم باستخدام الأسماء (كوثر) و (مرادة) و (تبر) ... ولقد كان العربي ذكيا عندما احتفظ بالتناسق بين الأخيرتين وبديلتيهما، غير أن زجاجات هذه المشروبات وأبعادها وألوانها بقيت كما هي، فظل الأمر كما كان، وما أقل أولئك الذين يستخدمون الأسماء العربية لتلكم المشروبات.

    وتتضح علاقة اللون بدلالة الاسم الذي يعبر عن حامله في انه من الأهمية بحيث يشكل جزءا من الذات. ولذا فقد سأل بنو إسرائيل ما لون البقرة التي كلفوا بذبحها، (47) ذلك إمعانا منهم في إظهار الرغبة ـ الكاذبة ـ في إنجاز أمر الله بدقة. أما الحقيقة فهي أنهم كانوا يماطلون ويحاولون التعجيز. ولذلك أيضا، كانت المباني التي تصاغ فيها الصفات اللونية، هي المباني نفسها التي تصاغ فيها الصفات التي يعبر بها عن نقص الأعضاء والعيوب الجسدية، أعني بذلك مبنى أفعل فعلاء. حيث نقول: أحمر حمراء، أصفر صفراء، كما نقول: أعضب عضباء، وأعور عوراء.

    ج) أبو مدفع، وأبو بس، كنيتان أطلقتها عرب جنوب الحجاز، على نضائد ريوفاك (Rio Vac) وعلى لفائف كرافن أ، Craven A  نظرا لأن على الأولى صورة سهم ثخين شبهوه بالمدفع، ولأن على الثاني صورة قط، هي العلامة المسجلة لذلك النوع من اللفائف. والصورة إنما تدرك بالعين، ملونة كانت أم غير ذلك.

         وأضيف إلى ما سبق، أن معظم المعاني إنما تدرك بحاسة البصر، وقد يشاركها في ذلك بعض الحواس. كالطول والقصر، والعلو والانخفاض، والجمال والقبح، ونحو ذلك، إضافة إلى كل الذات والأجرام، مما يؤكد أن العين هي الطريق الأعظم الذي يصل بين العقل والعالم الخارجي.

         ويهمني، ونحن بصدد تعريب بعض المفردات، أن أنبه إلى ضرورة مراعاة الملاحظات السابقة من قبل القائمين على شؤون التعريب في الوطن العربي. كما أنبه ما لسلامة عقل الأعراب من قدرة على التعريب على نحو  يكون أمثل من تعريب المتخصصين أحيانا، ذلك ما لم نختلف في علاقة اللفظ المعني بالمدلول، أهي محدودة أم هي مطلقة.

    وثالثهما: ويرسخ ما نحن بصدده من تأكيد دور العين في أحداث العلم والمعرفة، والتثبت من الحقيقة المطلقة، أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس بعرض المسموع على محك الشك حتى تثبت صحته، ولا يكون ذلك إلا بالعين في الغالب، ويتضح في قوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة" (47) أي لا تتعجلوا بالحكم استنادا لما تسمعون، وتريثوا حتى تتأكدوا من حقيقة الأمر. والتبين إنما يكون بالمعاينة.

         وقد سمعت أعراب الربع الخالي ـ وحواشيه الشمالية والغربية ـ يتمثلون بقولهم: "بين الصدق والكذب أربع" يعنون بذلك أربع أصابع المرء، غير الإبهام، تغطي الفجوة بين عينه وأذنه، أي بين موضع اليقين وموضع ما ينبغي عرض ما يتلقاه من معلومات على المحك، محك الشك والظن اللذين هما مخايل الفطنة والذكاء، وهما عصمة للمرء من الوقوع في المزالق، ولذلك فإن الباري عز وجل لم يحرّم الظن كله، وإنما قال "إن بعض الظن إثم" (48) بل لقد ورد الظن في بعض آيات الكتاب المبين بمعنى اليقين كما في قوله تعالى "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، وأنهم إليه راجعون" (49) أي يوقنون ويعلمون، ودليل أن المعنى هو اليقين ـ هو أن الله سبحانه وتعالى مدحهم في هذه الآية. (50)

         كما نرى أن الله سبحانه وتعالى فرق في بعض الآيات بين أنواع من الظن، كقوله عز من قائل "وظننتم ظن السوء"051). وقوله تعالى: "إن الظن لا يغني من الحق شيئا" (52) حيث المعنى هو "تغليب القلب على أحد حائزي  ظاهر التجوز، فكلما قويت الدلائل والإمارات في الشيء المظنون لحق بالعلم، وإن ضعفت لحق بالظن، ولذا قال أوس بن حجر:

    الألمعي الذي يظن بك الرأي              م               كان قد رأى وقد سمعا
    فألحقه بحاسة البصر والسمع لحدسه المصيب؟" (53)

         ومن الناس من لا يصدق حتى يرى ما يحدث حقيقة، وهذه طبيعة فطر الله الناس عليها، ولذلك كانت معجزات الأنبياء مما يدرك بالعين في معظم أحوالها. ومن هنا كان فضل "الذين يؤمنون بالغيب" (54) على الذين تيسر لهم فرصة المشاهدة.

    قيل في تفسير الآية: هم الذين يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت والبعث، فهذا غيب كله.

    وقيل: الغيب ما غاب عن الناس.

    وقيل: القدر.

    وقيل: هم المؤمنون الذين لم يروا النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا سيما اللذين الذين تأخروا عنها في الزمان على نحو ما يبدو في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ نعم قوم بعدكم يؤمنون بي ولم يروني، وغير ذلك من الأقوال كلها، تقوم على عدم المشاهدة فكان إيمانهم تبصرا وتدبرا ورأيا سديدا. ولم يكن مشاهدة ولا اضطرارا بل عن علم راسخ ومعرفة مكينة.

              وليس يعني ما سبق أن العين لا تكذب صاحبها، بالرغم من بلوغها مكانة خطيرة في تقرير المعارف وبلورة القواعد والنظريات العلمية، وإن كثيرا من الخدع تنطلي على العين وهذا الأمر يعرفه المشتغلون بالخدع المصورة (السينمائية والتلفزيونية) ذلك أن لقدرة العين على الإدراك حدودا من حيث كمية المنظورات، أو عدد الحركات، فإذا تجاوزت حد طاقتها انطلت عليه الحيلة، فكأنما سحرت، كما فعل سحرة فرعون بأعين الناس حين غلبوا موسى عليه السلام على نحو ما يتضح في قوله تعالى "سحروا أعين الناس" (56) ومن كذّب العين صاحبها وخادعها، قول الأخطل التغلبي:

    كذبتك عينك أم رأيت بواسط             غلس الظلام من الرباب خيالا

     والمعنى أوهمتك أنها رأت وهي لم تر (57) وهذا شأن العين عندما ترى السراب على نحو ما ورد في القرآن الكريم وفي أشعار العرب.

     ولأن العين تخدع أحيانا؛ وأن المرء قد يفاجأ بما يرى فلا يكاد يصدقه، فقد أسند الله عز وجل التكذيب المنفي (التصديق) إلى الفؤاد في قوله تعالى: "ما كذب الفؤاد ما رأى" (58) ذلك أن الرؤية كانت بالعين، فكأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فوجئ بما رآه في معراجه، فعرضه على فؤاده وعقله، وهما كثيرا ما يردان في القرآن الكريم لمعنى واحد تقريبا، فصدّق الفؤاد ببصيرته التي تعلم عظمة الله، صدق ما رآه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعينه رؤية إبصار.

    ويتضح مما تقدم، أن العين عي أداة الملاحظة والتبصر، وهي مرآة الجسم، وسر قسط كبير من جماله، ولذلك فلا عجب إن كثر فيها الغزل عند الشعوب كلها، ولا تراها إلا معبرة عن حال صاحبها، ومن هنا جاء قولهم فلان قرير العين، وفي هذا الأمر قرة عين لي ولك، وأعاد الله ـ عز وجل ـ موسى ـ عليه السلام ـ إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن.

    والعين هي الجهاز الذي يرشد العقل إلى الحقائق؛ إيمانية كانت أم علمية. فهي مفتاح الإيمان والعم، ذلك بما تتطلع عليه من آيات الله ومخلوقاته، ومن هذا يتفرع أثرها في توجيه النشاطات الاجتماعية وفي مقدمتها اللغة، ذلك بما هي البوتقة التي تدخر فيها المعارف وتحفظ، لتصبح من بعد نظريات وقواعد علمية، ما أشبهها بعلب المصانع.

    ولما كانت هذه هي حقيقة أمر العين، فإن في الحديث القدسي الذي أشرنا إليه آنفا، ما تؤكده هذا الحقيقة، حيث جعل الله عز وجل الجنة جزاء فقدهما مع الصبر، ولا عجب في أن جعل الشارع فيهما دية كاملة، كالنفس، ذلك أن النفس دونهما تفقد أبرز معالم الحياة، وكشف زينتها وهو النظر.

    وما أشبه العين بالكهرباء؛ هذه تعمل بسرعة تلك، وتخلف آثارا توازي آثارها وتناظرها: الكهرباء تولد مجالا مغناطيسيا حول ما تجري فيه، فتنجذب إليه الأشياء. أما البصر فيولد جاذبية من نوع آخر، وهي الإيمان بالله والانجذاب إليه، فيا لها من علاقة عمادها التواد والمحبة، لا التناقض والجدل.

    وسبحان الله الذي صرف الناس عن عبادة مخلوقاته من شمس وكواكب مما يرونه رؤية عين وبصر، قد تنطلي عليها الأمور، ووجههم إلى عبادته هو، وهو يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار، وإنما يدرك بالتبصر في ملكوته، وتقليب النظر في آياته ومخلوقاته، والبصيرة أسمى من البصر، والرأي أسمى من الرؤية، وما يدرك بالأسمى أسمى مما يدرك به، وأجل وأحق بالعبادة.

    وما أشبه العين في الجسم بالشمس في الكون ذي النهار مبصرا، بل إن العين لأكبر، والشمس إنما تخدم بطلوعها العين، فتستنير سبيلها.

    أيها الإنسان إنك أكبر من الشمس بعينيك، لكن حذار حذار ألا تتبصر فيما تبصر، وألا تتدبر قوله تعالى: "أولم يتفكروا في أنفسهم" (59) وصدقت ربي قائلا: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق" ( 60) رأيناها وتينا، تباركت ربنا وإليك المصير.

     

    نتائج الدراسة

     

    1.  إن العلاقة بين العين واللغة تتجاوز القراءة، وقد سبقت معرفة الناس بالقراءة، ذلك أنها ،كالكتابة، مستحدثة، إلا إذا كانت عن ظهر قلب، فيستوي بذلك الأعمى والبصير.

    2.     العين مرآة الصحة النفسية والبدنية، ونمّام يكشف عن حاليهما.

    3.     العين أخطر الحواس كافة، وهي مؤنس الإنسان، ومنبع جماله، وجهاز إرشاده.

    4.     وهي سبيل الإنسان إلى المعرفة، وإلى العلم ذي القواعد، وإلى الإيمان بالله واليقين.

    5.     التتبيع، أي أن يمر المستمع بأصبعه وعينيه، أو بعينيه وحدهما على ما يسمعه أو يقرؤه، نافع في العملية التعليمية.

    6.  للون وتوزيعه علاقة كبيرة في تيسير عملية التقصي وتعميق الفهم، لذا فهو ضروري في العملية التعليمية، وما ينضوي تحتها كالتعريب والترجمة.

    7.     جل أجهزة السلامة الحديثة مصممة على أساس روعي فيه طبيعة عمل العين.

    8.     الأعراب أسلم طبعا من سواهم، وقد يستعان بسليقتهم في التعريب ونحوه.

    9.     العين أولى بالتصديق من الأذن، فلا تصدق ما تسمع حتى تتثبت منه، لأن الأذن سهل خداعها.

    10.            والعين هي الأخرى قد تخدع: فعليك بالعقل يزن الأمور، ويقابل بين ما هو معقول، وما هو غير ذلك.

    11.            إن الإنسان بعينه أكبر من الشمس، ذلك ما تبصّر فيما يبصر.

    12.     ضرورة التفكر والتأمل صعودا في الكون الصغير خارج الإنسان، وحدورا في الكون الكبير داخل الإنسان، انطلاقا من قول الفلاسفة، إن الإنسان هو الكون الأكبر، وما يقع خارجه حتى الأفلاك هو الكون الأصغر، ذلك أن الله سخره كله لخدمة الإنسان ... وسخر الإنسان لعبادته جلت عظمته.

     

     

    الهوامش

     

    ·   يراجع بخصوص هذا البحث ما يبق أن نشر في مجلة رسالة الخليج العربي العددين الرابع عشر والخامس والعشرين من بحثينا: اللغة والحواس، واللغة والأذن.

    1.     سورة البلد ـ الآيتان 9 ـ 10

    2.     سورة النمل ـ الآية 69.

    3.     سورة العنكبوت ـ الآية 19.

    4.     سورة الروم ـ الآية 50 .

    5.     سورة فصلت ـ الآية 53.

    6.     ابن حزم ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل، ط. مصر 1317هـ. ج 5، ص37.

    7.     النيران هما الشمس والقمر.

    8.     البتاني ـ زيج البتاني، بعناية المستشرق كارلو نالينو ص6.

    9.     سابق ـ السيد، فقه السنة، منشورات دار الكتاب العربي، ط3، بيروت سنة 1977/560.

    10.            البغا ـ الدكتور سعيد وزملاؤه، نزهة المتقين، شرح رياض الصالحين، منشورات مؤسسة الرسالة، ط5، بيروت، 1981/68.

    11.            ابن فارس ـ الصاحبي ـ المقدمة، الصفحات يه ـ يو، الاتباع والمزاوجة ص23 ـ 25. ت.

    ياقوت الحموي ـ معجم الأدباء 4/ 90، 91

    ابن بنين ـ اتفاق المباني وافتراق المعاني ص 107، 108.

    ابن منظور ـ لسان العرب 13/ 246، 247.

    وبحثنا في مجلة الدارة، العدد الثالث / السنة الحادية عشرة/ ص118 ـ 127 بعنوان قصائد المعاني.

    12.            ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم 1/145.

    13.            أبو الفرج الأصفهاني ـ الأغاني 8/345.

    14.            عمر بن أبي ربيعة، ديوانه، ط دار صادر ص 366.

    15.            سورة يونس عليه السلام ـ الآية 5.

    16.            سورة البقرة 189.

    17.            اللسان (شهر) 6/101.

    18.            سمعت ذلك منهم عندما كنت أعمل مدرسا في تنومة عامي 1388هـ و 1389هـ.

    19.            الجواليقي ـ المعرّب ص207.

    20.            Payne Smith. Syriac Dictionary, Oxford, 1903 P.362.

    21.            Ben Yehud,s English Hebrew Dictionary, U.S.A 1964, P.181

    22.            تعلمت ذلك أثناء دراستي في المرحلة الجامعية الأولى.

    23.            أخذت ذلك من أخ مصري كان يعمل مدرسا للعربية في كينيا حيث تنتشر هذه اللغة.

    24.     تعلمت ذلك من البربر أثناء إقامتي بينهم في غات وغيرها، ومن بربر الجزائر والصحراء الكبرى حيث جمعت جل مفرداتهم في قاموس أدرجته في كتابي "رحلة البربر من المشرق إلى المغرب" دراسة تاريخية ولغوية، الذي آمل أن يرى النور قريبا.

    25.            Lewis + Dhorot, Latin – English Dictionary, Oxford 1951.P. 1801

    26.            Hornbby, A.S. Oxford Advanced … Oxford, 1974.P.556.

    27.            انظر بحثنا (ما وراء اللغة) المنشور في مجلة الدارة الصادر في شهر سبتمبر سنة 1980م.

    28.            في حديثه عن الأبراج 185 وما بعدها.

    29.            ديوانه ص 11 انظر أبو الطيب اللغوي ـ شجر الدر ص 109، وابن بنين، اتفاق المباني 169 والجالس، الآتي جلسا وهي نجد.

    30.            سورة مريم ـ الآية 16، وسورة النور ـ الآية 35 (صفة الزيتونة).

    31.             سورة القصص ـ الآية 45.

    32.            سورة البقرة من الآية 115، ومثله بها 142، 258 وفي الشعراء 28، والمزمل9 والكهف 76.

    33.            الرحمن 17 وانظر الزخرف 38.

     

    34.            الأعراف 137 ومثله في سورة المعارج 40 والصافات 5.

    35.            الأصمعيات 49.

    36.            ديوان أبي فراس الحمداني ص106.

    37.            سورة يوسف الآية 7.

    38.            أبو زيد ـ النوادر ـ ص27 ويروي "محافظة" "مكان" "محاولة" "وأكثره جنودا" في آخره. انظر اتفاق المباني لابن بنين ص211.

     

    39.            سورة يوسف ـ الآية 108.

    40.            سورة النمل ـ الآية 18.

    41.            سورة الإسراء ـ الآية 72.

    42.            سورة آل عمران ـ ىلآية 106.

    43.            انظر الهامش رقم 36.

    44.            سورة الصافات ـ الآية 89.

    45.            سورة البقرة الآية 260.

    46.            انظر مقالتنا "أركان الحضارة البشرية: الحرف واللون والعدد والدرجة" المنشورة في مجلة الفيصل عدد 101 سنة 1985.

    47.            سورة الحجرات ـ الآية 6.

    48.            سورة الحجرات ـ الآية 12.

    49.            سورة البقرة ـ الآية 46.

    50.            ابن بنين ص 212.

    51.            سورة الفتح ـ الآية 12.

    52.            سورة يونس ـ الآية 36.

    53.            ابن بنين ص 214 وديوان أوس ص 53.

    54.            سورة البقرة ـ الآية 3.

    55.            انظر للأقوال والأحاديث المختلفة ابن كثير 1/40 ـ 42.

    56.            سورة الأعراف ـ الآية 116.

    57.            ديوان الأخطل ص41.

    58.            سورة النجم ـ الآية 11.

    59.            سورة الروم ـ الآية 8.

    انظر الهامش رقم 5 وسورة فصلت ـ الآية 53

     

     

     

     

    ثبت المراجع

     

    1.     القرآن الكريم.

    2.     ابن بنين.

    ـ اتفاق المباني وافتراق المعاني ـ تحقيق يحيى عبد الرؤوف جبر، ط دار عمان، 1985م.

    3.     ابن حزم.

    ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل، ط مصر سنة 1317هـ.

    4.     ابن فارس.

    ـ الصاحبي، ط المكتبة السلفية. القاهرة سنة 1910

    5.     ابن قتيبة.

    ـ الأنواء، مطبعة حيدر آباد الدكن، الهند سنة 1956.

    6.     ابن منظور.

    ـ لسان العرب، ط بولاق بمصر، سنة 1300 هـ.

    7.     أبو زيد.

    ـ النوادر في اللغة، بعناية سعيد الخوري، ط بيروت سنة 1967.

    8.     أبو الطيب اللغوي.

     ـ شجر الدر، تحقيق محمد عبد الجواد، ط دار المعارف. بمصر سنة 1968.

    9.     أبو فراس الحمداني.

    ـ ديوان شعره، ط بيروت سنة 1967م (دار صادر).

    10.                        أبو الفرج الأصفهاني.

    ـ الأغاني، ط دار الكتب المصرية، القاهرة ابتداء من سنة 1926م.

    11.                        الأخطل التغلبي.

    ـ ديوانه، المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت سنة 1891م.

    12.                        الأصمعي.

    ـ الأصمعيات، تحقيق أحمد شاكر وزميله ، ط دار المعارف بمصر سنة 1956.

    13.                        أوس بن حجر.

    ـ ديوان شعره، تحقيق محمد يوسف نجم، ط بيروت 1926م.

    14.                        البتاني.

    ـ زيج البتاني، بعناية المستشرق كارلو نالينو. الطبعة الأولى.

    15.                        البغا (سعيد وزملاؤه).

    ـ نزهة المتقين، شرح رياض الصالحين، منشورات مؤسسة الرسالة ط5 بيروت سنة 1981م.

    16.                        جبر، يحيى عبد الرؤوف.

    ·        1،2 ـ اللغة والحواس، واللغة والأذن: بحثان منشوران في مجلة رسالة الخليج العربي، العددين 14، 25 على التوالي.

    ·   3،4 ـ قصائد المعاني وما وراء اللغة، بحثان منشوران في مجلة الدارة السعودية. العدد 3 من السنة الحادية عشرة، وعدد سبتمبر سنة 1980 على التوالي.

    ·        5 ـ أركان الحضارة البشرية، مجلة الفيصل، عدد 101.

    17.                        الجواليقي ـ أبو منصور.

    ـ المعرّب، تحقيق أحمد شاكر، ط دار الكتب المصرية، القاهرة، 1361 هـ.

    18.                        الحموي ـ ياقوت.

    ـ معجم الأدباء، نشرة مرجليوث، ط هندية بالموسكي، مصر سنة 1923.

    19.                        سابق ـ السيد.

    ـ فقه السنة، منشورات دار الكتاب العربي ط3، بيروت سنة 1977.

    20.                        عمر بن أبي ربيعة.

    ـ ديوان شعره، ط دار صادر بيروت سنة 1967.

     

    المراجع الأجنبية

     

     

    2.     Ben Yehud,s English Hebrew Dictionary, Oxford. 1903.

    3.     Hornbby, A.S. Oxford Advanced Dictionary, Oxford, 1974.

    4.     Lewis + Dhorot, Latin – English Dictionary, Oxford 1957.

    5.     Payne Smith. Syriac Dictionary. U.S.A 1964.

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me