An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Wednesday, February 4, 2009
  • صياغة العقول؛ دراسة في الديموقراطية والأدب
  • Published at:Not Found
  •  

     

     

     

    صياغة العقول؛ دراسة في الديموقراطية والأدب

     

     

     

     

    ورقة

    من إعداد

     

     

     

     أ.د. يحيى جبر                                    أ. عبير حمد

     

     رئيس قسم اللغة بجامعة النجاح الوطنية         مركز أبحاث الدار الوطنية للترجمة والنشر

     

     

     

     

     

    مقدمة

     

     لمؤتمر الأمن والديموقراطية وحقوق الإنسان

    الذي تنظمه

     

     جامعة مؤتة

    الكرك، حزيران 2006

     

     

     

    صياغة العقول؛ دراسة في الأدب والديموقراطية

     

    تحديد الاصطلاحات:

            يقف المطالع في تراث العربية على مجالين محددين استخدم فيهما اصطلاح الصياغة، وهما: صياغة المعادن، وتحديدا الذهب والفضة، والثاني: صياغة النص الأدبي أو العبارة مهما كان طولها، أما صياغة العقول فهو فتح جديد في مجاله، لا نظن أحدا سبقنا إليه في ما نعلم. ونقصد به تشكيل العقل وفقا لرؤية بعينها، بحيث يُكيّف بطريقة تقود إلى إنتاجه على نحو يُسَهِّل توظيفه لأداء سلوك معين، أو لكي يكون على هيأة بعينها، كأن يكون مُدَجّنا، أو ثوريا، مؤمنا أو ماجنا...إلخ، تماما على الصورة التي تتضح في قول النبي صلى الله عليه وآله: (يولد أحدكم على الفطرة؛ فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وفي قول الشاعر:

    وينشأ وارد الفتيان منا      على ما كان عوّده أبوه

     

    أجل، لقد تداول العلماء حديثا اصطلاح" غسل الدماغ" ولكنه لا يتسع للمعاني التي يستوعبها اصطلاح " صياغة العقول" فالأول يقف عند حد تغيير اتجاه العقل  في حركته المنسجمة مع ما غُذِّي به، إلى وجهة أخرى بإزالة أثر التغذية الأولى بعد إحلال غيرها في مكانها، وغسل الدماغ إنما يكون في مجال بعينه، كأن تقنع إنسانا بقبول الآخر على الرغم مما يكون بينهما من عداوة، أو بالرغم من ظلم الآخر له، وتعديه على حقوقه، على نحو ما نجده في بعض المسلسلات التي تروّج للهزيمة والتنازل عن الحقوق باسم الإنسانية المُتَجَنّى عليها، وتدعو إلى تجاوز الفطرة التي أودعها الله في مخلوقاته، على نحو ما نجده في حكايات "تم" و"جيري" اللذين غالبا ما تنتهي الحكاية بالصلح بينهما متجاوزين العداء لفطري الذي جُبِلا عليه.

     

    والآباء اليوم ليسوا الوالدِين وحسب، ذلك أن المقصود بالأب في هذه السياقات هو المربي، ولو لم يكن أبا المربَّى، فالمدرس قديما وحديثا، وأجهزة الإعلام على اختلاف أنواعها، والسوق بصخبه، والشارع بضجيجه ونحو ذلك، كلها من العوامل الفعالة في تربية النشء وتوجيههم، وتسهم إلى حد كبير في صياغة عقولهم.

     

            ومما يدخل في الإطار بشكل فعال ومؤثر إلى حد بعيد، بل لعله أخطر من كل ما تقدّم، هو تلك الأدبيات التي يتاح (للآباء السالف ذكرهم) أن يستخدموها في تربية (أبنائهم) وتغذية عقولهم ليكونوا في هذا الاتجاه أو ذاك؛ ليكونوا مُدَجَّنين أو ثوريين، متمردين أو خانعين مستخذين، فالأم تصنع لأبنائها طعامهم مما يأتي به أبوهم، مما قد يكون صالحا نافعا أو ضارّا لا يسمن ولا يغني من جوع.

     

            ومن هنا كان لا بد من التأكّد من صلاحية ما يتداوله المربّون، من الأدبيات التي توكل بها مهمة تشكيل عقول الناشئة، تماما مثلما نفعل بالمواد الغذائية إذ نحرص على صلاحيتها، ومنشئها، ومكوناتها، كل ذلك ليكون أبناؤنا ذوي أجسام سليمة، ناسين أن العقل السليم قد يكون في الجسم غير السليم؛ خلافا للمقولة التي لطالما رددها المربون: العقل السليم في الجسم السليم، وكأنهم بذلك يدعوننا إلى الاهتمام بمأكلنا فقط، في الوقت الذي لا يقدمون فيه لعقولنا إلا التبن خاليا من أي شعير.

     

     

     الأدب:

            عرّف العرب الأدب قديما بأنه " الأخذ من كل فن بطرف "، وهذا التعريف - في نظر الباحثين- أولى من سواه، وأخطر، ذلك لما ينطوي عليه من الشمولية التي تتفق مع طبيعة الحياة البشرية من حيث تعدد العوامل الفاعلة فيها. ولسنا هنا بصدد البحث في حد الأدب، ولكن نظرة عجلى في استخدام صيغة الجمع " الآداب" ومجالات استخدامها، لا سيما إطلاقها مضافة إلى كلية "الآداب " وما تندرج في إطارها من العلوم والدراسات الإنسانية – تقفنا على اتساع الدائرة الدلالية التي يتردد فيها معنى هذا الاصطلاح، ناهيك عما ينمّ عنه قول النبي صلى الله عليه وآله:" أدّبني ربي فأحسن تأديبي".

     

            نخلص من كل ما تقدّم إلى أن الأدب هو تلك المدخلات المعرفية المختلفة التي تتصل بالنفس البشرية، وتؤثر في سلوكها وتصوغ  ثقافتها، من النصوص مهما اختلف زمانها وموضوعها ومكانها، وهذا أدنى إلى تعريف العرب قديما للأدب، ولذلك جاءت أعمالهم ذات طابع موسوعي، وفيها من التداخل والاستطراد والتشعب ما  يشهد بذلك.

     

    الديموقراطية

            تطورت دلالة هذا اللفظ عبر العصور كثيرا، فمن المفهوم الأثيني إلى الديموقراطية الليبرالية، والديموقراطية الشعبية المباشرة، إلى ديموقراطية التعليم وغير ذلك من المفاهيم. غير أن الكلمة بدأت في الآونة الأخيرة تأخذ منحى آخر أدنى إلى مفهوم حرية الاختيار، مما يعني بالضرورة لا بالاختيار أن على القائمين على صياغة العقول أن يقدموا لأبنائهم من المواد والنصوص والطعام ما هو متنوع كي يكون هناك مجال للاختيار.

     

     وقد يقال هنا إن الأنواع أكثر من أن يُحاط بها! فنقول: يمكن أن يُراعى تنويع الأجناس والأصناف العليا، دون أن يكون شيء من ذلك على حساب شيء آخر؛ وإلا كانت العملية أشبه بما تمارسه بعض الجامعات حين تتحول فيها المساقات الاختيارية إلى إجبارية لسبب من الأسباب، أو على نحو ما يوحي به القول الدارج:" صحيح لا تقسم، ومقسوم لا تأكل، وكل حتى تشبع!". هناك مجال في الظاهر للاختيار ولكنه في الحقيقة اضطرار وإكراه.

     

    الصياغة مصدر فعله متعد:

            ونعني بذلك أن الإنسان لا يقوم بصياغة عقله بذاته، ولكنه يسهم في ذلك بقدر ما يستجيب للطرف الموجِّه الذي يتولى تلك المهمة، أو تسند إليه، سواء في ذلك الإنسان الفرد أو الإنسان المجتمع، لأن ما ينطبق على أحدهما ينطبق على الآخر، ولا اختلاف إلا في حجم الموجه، فقد يكون مفردا، وقد يكون مجموع الجهات الخارجية من الدولة ومؤسساتها المتعددة، والأجهزة الأجنبية التي توجه برامجها لذلك المجتمع، ناهيك عن التداخل في نشاطات الأطراف المختلفة، لأن العملية قائمة على أساس أن المجتمع بكل أفراده، والموجهات على اختلافها إنما تمثل شبكة واحدة، ومن الصعب أن تصنَّف العلاقات التي تنتظم سائر أنشطتها. والطرف الموجه على نوعين هما:

    1.     ولي الأمر أيا كانت درجة قرابته من الإنسان المستهدَف، والأصل فيه أن يكون أداؤه موجها بشكل تلقائي نحو تشكيل عقلية المستهدف الذي يتولى تنشئته وفقا لما ينسجم مع ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، بحيث تكون المخرجات السلوكية متفقة مع المورث الحضاري للمجتمع،، وتؤدي إلى التواصل الانسيابي بين أزمنة المجتمع الثلاثة: الماضي وابنه المضارع وحفيده المستقبل، مُشَكِّلة بذلك شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

    2.     الجهات الخارجية، وهي إما الدولة بكل أجهزتها، ويفترض فيها أن تحذو في أنشطتها التوجيهية حذو ولي الأمر؛ ذلك أن التكامل ينبغي أن يكون أساسا في نشاطاتهما.

    3.     أو جهات أجنبية غالبا ما تكون معادية، تهدف إلى تشكيل الرأي العام في هذا البلد أو ذاك، وفقا لما ينسجم مع مصالحها، وخططها الاستراتيجية.

    نخلص مما تقدم إلى أن عملية صياغة العقول تكون في اتجاه واحد، من مرسل إلى مستقبل، وفي هذه الورقة لا نريد أن نتطرق إلى الجهتين الأولى والثالثة، ذلك أن ولي الأمر لا يمكن أن (يصوغ) عقل من يتولاه بشكل لا ينسجم مع ما هو عليه. أو هذا هو المألوف في كل مجتمعاتنا. كما أن الجهات الأجنبية، انطلاقا من توجهاتها العدائية، لا تخضع لإرادتنا، إلا بمقدار ما نسلح به مجتمعنا ونحصنه في وجه مخططاتها. ولذل فسينصب البحث على جهود الدولة ومؤسساتها، لا سيما التعليمية والإعلامية، باعتبارهما أكثر نشاطا وأوسع أثرا.

     

    دور الأدب في صياغة العقول:

            يكتسب الدارس ثقافته، ويتّخذ قُدوته، ويُكيف مسلكه استنادا إلى ما يدره من نصوص، ويتلقاه من توجه مباشر، ولعل الأول أفعل من الآخر، لما في من حرية الاختيار، وهذا يعني أن عقله، مع مرور الوقت، يأخذ في التشكُّل على هذا الأساس، أي أن النصوص التي يدرها أشبه ما تكون بالطعام الذي يُغذاه، سينعكس على عافيته، بل عن رائحته لتسري عبر أنسجته إلى من حوله، ولذلك وجدنا التربويين لم يجدوا حرجا في استعارة اصطلاحات المضغ والهضم والتمثيل من أنشطة الجهاز الهضمي لأنشطة الدماغ في معالجة الأفكار. ينتهي بنا ما تقدم إلى التأكيد على دور من يختار النصوص؟

     

            للإجابة على هذا السؤال يجب أن ننبه إلى واحدة، وهي أن الأصل في مؤسسات الإعلام والتعليم، والمنابر الدينية أن تنطلق في عملها من الاستراتيجية التي ينطلق منها المجتمع، التي لا يصح بحال من الأحوال أن تكون مخالفة للاستراتيجية التي ينطلق منها أولو الأمر على الصعيد الفردي؛ ذلك أن الدولة ما هي إلا منفذ لما يريده أفراد المجتمع، ما لم تكن هناك خطة معلنة للدولة؛ تهدف إلى إحداث تغيير جذري في نهج المجتمع برمته، على نحو ما حدث في الصين عند إعلان الثورة الثقافية، وهذه الثورة لا يصح أن تنفذ فعالياتها دون مقدمات ديموقراطية.

     

            وفي الواقع العربي والإسلامي لا ننطلق في رؤيتنا للقضية من منظور إقليمي مفروض: ابتداء بالإرادة الاستعمارية، وانتهاء بالأنظمة التي كرست تلك الإرادة بعجزها عن مقاومة نتائجها، فحافظت على حدودها، واهتمت بمصالحها، وإنما ننطلق من أن أمتنا واحدة، كانت، وينبغي أن تعود كما كانت، فمنطلقاتها واحدة، ولكننا ندرك أنها اعتراها عبر مسيرتها ما زلزل كيانها، ومهّد لأعدائها، وبث الفرقة بين أبنائها، وإن علينا إن نحن أردنا لأمتنا أن تستأنف مسيرتها، أن  نحاكم تاريخنا، وأن نعيد صياغته بموضوعية وعلى أسس علمية، ولعل مؤتمر المؤرخين العرب الذي عقد في جامعة قاريونس عام 1980 كان مصيبا عندما تبنى اقتراحا بهذا الخصوص، ولكن هيهات هيهات! فمن يطبّق؟ بل ما أكثر ما قيل (سوف وس) دون أن يُنجَز منه شيء.

     

             وقد نجم عما تقدّم أن النصوص التي يتألف منها التراث لم تصل إلينا على وجهها الأصيل؛ إذ اعتراها كثير من التحريف، وتعرَض بعضها إلى التشكيك ، وبعضها الآخر منتحل، وما عند هؤلاء مختلف عما عند أولئك، إلى غير ذلك من أوجه الشك والطعن، مما أزرى بكثير من النصوص، وجعلها عرضة للإنكار والرفض، بينما هي صحيحة، ولا عيب فيها سوى أنها مما يرويه هذا الطرف دون ذاك، أو لأن راويها ينتسب لهذا التيار أو لتلك الفئة، لكأن ديننا لم يضع معايير للصواب، ولم يتوصل العلم إلى مقاييس توزن بها الأمور، ولكن هي الأهواء عصفت بالأمة منذ أمد بعيد، فجارت بها عن سواء السبيل، وما نرى طريقا يؤدي على إعادة الأمور إلى مجاريها الصحيحة إلا باعتماد أسس وقواعد يرضاها الجميع ويطبقونها على كل موضوعات الخلاف والاختلاف.

     

     

     

    عرض نصوص التراث على حقيقتها:

    من حق أبنائنا أن يطّلعوا على كل خفايا التراث، ولو لم ترق واضعي المناهج، والأمانة العلمية تقتضي ذلك، بمعنى أنه لا وجه للرقابة التي تفرضها الجهات التي تتولى تصنيف المناهج الدراسية، واختيار النصوص التي تبنى عليها، فلقد أدى ذلك، مع تقادم العهد، إلى نفي التراث الإسلامي (الشيعي) من العالم (السني)، والعكس؛ حتى غدا  كل منهما مُستنكَرا لدى الطرف الآخر؛ خلافا لما كانت عليه الأمور في وقت مبكر من تاريخ الأمة؛ حين كان فقهاء (السنة) يتتلمذون على الإمام جعفر الصادق (السادس من أئمة الشيعة سلام الله عليهم) وغير ذلك من العلاقات الأخوية التي كانت تجمعهم في المحافل والمناسبات وحلقات الدرس، دون أن يجدوا في ذلك حرجا.

     

    من حق أبنائنا أن يعرفوا ما تقوله الأطراف المختلفة في جميع الأحداث التي تركت آثارها المدمرة في تاريخ الأمة، والتي أدت إلى انحرافها عن المسار الذي ارتضاه لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يصح بحال من الأحوال أن تمارس بعض الفئات رقابة مغرضة على ما يقدّم للدارسين، رغبة منهم في تشكيل عقولهم وفقا لمذهب من المذاهب، لأن في ذلك طمسا للحقائق، وتقديما لها بصورة مشوهة مهوشة، ثم بأي حق يقوم هؤلاء باختيار نصوص بعينها؟ من خوّلهم بذلك؟ وأين هي حرية الاختيار التي تمثل الأساس الذي تستند إليه الديموقراطية، وتنسجم مع الفطرة التي جبل الله، عز وجل، الناس عليها حين كرّمهم جميعا.

     

            من حق الدارسين أن يعرفوا ما كان بعض السلف يتبادلونه بينهم من الملاحاة والهجاء لموقف وقفه بعضهم، أو لجناية ارتكبها، أو ذنب اقترفه، أو نقيصة أتاها، ولا يصح أن ينصِّب بعض الناس أنفسهم أوصياء على الأمة؛ فيَحُولوا دون ذلك متذرعين بدرء الفتنة! فكم من حقيقة طمست، وكم باطل ظهر على الحق بحجة درء الفتن، وما يقال من " أن الفتنة نائمة؛ لعن الله من أيقظها".

     

     إن كثيرا من الناس يخلطون، ومنهم وُعّاظ ينجذب إليهم الناس، وعن قصد منهم وإصرار، بين الفتنة التي نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بعثها، وبين كشف الحقائق، فمن قال إن كشف الحقيقة يمكن أن يكون فتنة؟ أإذا قلنا في رجل اقترف ذنبا علم به القاصي والداني: إنه مذنب بما فعل، أفيكون ذلك فتنة؟ إن الفتنة هي تزوير الحقائق، والدس على الناس، ورميهم بما ليس فيهم، بهتانا وزورا، أما أن نذكر حقائق كانت في تاريخ الأمة، ونجد أخبارها في كتب التراث، فمن ذا الذي يحق له أن يحول بينها وبين الناس؟ وبأي حق؟ إن هذا، وأيم الله، لهو البغي بعينه، وهو الطغيان والفتنة العمياء, ولم تصل الأمة إلى ما وصلت إليه من ذل وهوان إلا بأولئك الذين نصّبوا أنفسهم رقباء على الناس؛ وكأنهم وكلاء الله على خلقه، لا يريدون للناس أن يروا إلا ما تراه أعينهم، فصادروا آراءهم، وكمموا باسم الدين أفواههم؛ فاستوت عند الناس الحسنة والسيئة، ولم يعودوا يفرّقون بينهما، ذلك بما حُرِموه من معرفة بالحقائق، أو لنقل بوجهات النظر المختلفة على أقل تقدير.

     

    إن بين الفتنة وكشف الحقائق بونا شاسعا، فهذا حلال أَمَر به الدين، وذلك بهتان وفجور نهى عنهما. وقد أدت هذه الظاهرة المَرَضِيَّة التي تراكمات سرطانية تضخمت مع الزمن، حتى بات علاجها متعذرا؛ ما لم يُقَيَّض لهذه الأمة من يُقيلها من عثرتها، ويرشدها إلى سواء السبيل؛ فتتحرر، إلى الأبد، من ربقة أولئك  الذين حرّفوا الدين، وخرجوا به عن سمته الإلهي، "فالخلافات التي تتحرك في الساحة الإسلامية يقف وراءها عدة عوامل:

    ·        نقص أو قلة المعلومات.

    ·        التعصب.

    ·        العناصر السيئة، أو عديمة المسئولية في الأمة.

    ·        السياسات المنحرفة.

    ·        القوى الاستكبارية الكافرة." (الغريفي ص13)

    وهذا يعني أن ما تشهده الساحة الإسلامية من تمزق وتشرذم ناتج عن هذه الأسباب، ولذلك بات واجبا علينا أن نقوّض آثارها قبل أن يستفحل شأنها.

     

     

     

    من مظاهر الممارسات غير الديموقراطية:

            تبلغ هذه المظاهر حدا يصعب حصره، لكثرتها وانتشارها عبر التاريخ، ولن نقف عند وضع الأحاديث اختلاقا على النبي(ص) مما هو مشهور، ولا عند قضية الانتحال مما هو مأثور متداول، فقد صُنّفت في ذلك كتب كثيرة، ولكن سنحاول في هذه الورقة أن نتقصى أبرز تلك المظاهر وأكثرها حضورا في تاريخ الأدب العربي؛ بمعناه الواسع؛ ويقف في مقدمة هذه المظاهر ما يلي:

    1.     تجاهل بعض النصوص، بغض النظر عن موضوعاتها، وعدم روايتها، وإنكارها من قبل الفرق المختلفة، ومن ينظر في المكتبة الشيعية والأخرى السنية, ومكتبات الفرق الأخرى سيقف دون عناء يذكر على اختلاف كبير بيّن في محتوياتها؛ ابتداء من العناوين إلى الموضوعات والمؤلفين، ولعل ذلك لا يحتاج إلى فضل بيان، أو تمثيل؛ لأن شواهد وأمثلته أكثر من أن تحصى؛ ومن المؤسف أن بعض أجهزة الرقابة تحول دون انتقال الكتب المخالفة لمعتقدات القائمين على الشئون الدينية، إلى بلدانهم، خشية تأثر الناس بالمعلومات الواردة فيها، مما هو صحيح، ولم يكن موضوعَ خلاف سابقا، لولا تكريس التعصب المذهبي، وحرص بعض مروِّجي الفتنة على تعميق الهوة بين الفرق الإسلامية بدلا من السعي لردمها.

     

                لقد بلغ الأمر ببعض الباحثين، قديما وحديثا، أن تعمّدوا طمس بعض الحقائق، وقد نكتفي بواقعة مما دأب عليه كثير من المؤلفين والأدباء؛ أن يغيروا بعض نصوصهم من طبعة لأخرى، ليس ذلك شأن بعض الشعراء، كمحمود درويش مثلا ( انظر: ظواهر سلبية لعادل الأسطة، تقديم يحيى جبر، ومنشورات الدار الوطنية) ولكن بعض المؤرخين فعلوا مثل ذلك، فهذا هو هيكل في الطبعات التي تلت عام 1354هـ من كتابه " حياة محمد " يسقط عبارة (وأن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ) بعد أن كانت وردت في طبعته الأولى، وفي مقالاته التي نشرها ملحق جريدة السياسة المصرية، العدد2571 الصادر في12/11/1350هـ والعدد2785.

     

    2.     اختلاف الروايات، فقد يجمع القوم على رواية حديث أو خبر، ولكنهم لا يُجمعون على كل ما ورد في النص المأثور، وهذه الظاهرة واضحة جدا في كثير من الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي تفسير بعض آيات القرآن الكريم، وأسباب النزول، ومورست في بعض النصوص الأدبية، حتى لقد انعكست بعض الخلافات الفقهية على قواعد النحو العربي، وبعض القراءات القرآنية، كالعطف على الضمير المجرور دون تكرار حرف الجر، ومسح الرجلين أو غسلهما في الوضوء، والوقف اللازم أو الوصل بعد لفظ الجلالة (الله) من قوله تعالى في المتشابه (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)( آل عمران 7) على خلاف بين من ينكر علم الراسخين في العلم بتأويل المتشابه، وبين من يرى أنهم يعلمون به، ولا يخفى هنا ما يترتب على ذلك من اختلاف في الإعراب.

     

    3.     الاختلاف في رواية الأشعار، فبض الكتب وطبعات ديوان حسان بن ثابت لا تروي القصيدة التي قالها يوم غدير خم، مترجما ما كان من خبر عهد النبي صلى الله عليه وآله بالولاية للإمام علي، حيث قال حسان:

    يناديهم يوم الغدير نبيهم       بخمّ فأسمع بالرسول مناديا

    إلى أن قال:

    فقال له: قم يا علي فإنني     رضيتك من بعدي إماما وهاديا

    فمن كنت مولاه فهذا وليه      فكونوا له أنصار صدق مواليا

    وهذه القصيدة رواها قديما من حفّاظ أهل السنة ابن مردويه، والخركوشي وأبو سعيد السجستاني وسبط ابن الجوزي والجلال السيوطي وغيرهم.

        ويندرج تحت هذا الإطار التشكيك في نسبة الأشعار لقائليها، إذا كانوا من الطرف الآخر،وهذه نماذج نلتقطها مما ورد في كتاب غزوات الرسول للداعية محمد متولي الشعراوي (مكتبة التراث الإسلامي- مصر،د.ت.):

    ·        وكان مما قيل في يوم بدر من الشعر: قول حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله، ومن أهل العلم من ينكرها له(ص79).

    ·        وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم بدر، ولم ير  ابن هشام أحدا يعرفها من أهل العلم(ص80).

    ·        وقال عبيدة بن الحارث بن المطلب في يوم بدر، يذكر مبارزته هو وحمزة وعلي عدوّهم، وما كان من إصابة رجله يومئذ، قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له(ص83).

    ·        وقال علي بن أبي طالب يذكر إجلاء بني النضير وما تقدم قبل ذلك من قتل كعب بن الأشرف، ويقال: بل قالها رجل من المسلمين غير علي.(ص164).

     

    فما بال هؤلاء الرواة ينكرونها لمن وردت منسوبة إليه، ولا يثبتونها لقائل بعينه؟ أليس في  ذلك ما يثير الشك؟ حتى تلك التي يثبتونها ما أسرع ما يقللون من شأنها، بدعوى أنها لشيعي، أو أن في سلسلة روايتها شيعي! وكان التشيع لآل البيت أصبح جناية.

     

    4.     طمس الأخبار، وإغفالها، فسكينة بنت الحسين لا نجد من أخبارها في الكتب التي يُرَبّى عليها الطلبة إلا ما قيل من نقدها قول الشاعر:

    أهيم بدعد ما حييت فإن أمت     فوا عجبا من ذا يهيم بها بعدي

    إذ قالت: الأفضل لو قال:                 فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي

    لا يعرّفون بها ولا يذكرون من أخبارها ولا ما جرى معها في كربلاء.

     

        وما بالهم لا يدرّسون أبناءنا ما قاله ذلك الشاب من بني سعد يوم الجمل، حين قال لطلحة والزبير:"أما أنت يا زبير فحواريُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدك. وأرى أمكما معكما ( يعني أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شيء، واعتزل وقال:

    صنتم حلائلكم وقدتم أمكم      هذا لعمري قلة الإنصاف

    أمرت بجر ذيولها في بيتها   فهوت تشق البيد بالإيجاف

    عرضا يقاتل أبناؤها دونها     بالنبل والخطي والأسياف

    ( الخلفاء الراشدون، عبد الوهاب النجار، ط دار الفكر،د.ت.ص387)

     

        إن حجب هذه الحقائق عن الناس لا ينفي أثرها، ولا يمحوه من سجل الأحداث، ولكن ذلك يؤجل المعرفة ببعض الحقائق التي من حق أبنائنا أن يعرفوها، للاتعاظ ومعاودة النظر في مجرى التاريخ، عسى أن يكون في ذلك معتبر لمن أراد أن يعتبر، ولئن كان ذلك دمّلا في جسد الأمة، فحريّ به أن يُفجر قبل أن يكبر ويستشري في  سائر البدن..

     

    5.     يعمد بعض أساتذة الأدب العربي إلى صرف أنظار الدارسين عن نصوص وردت في أمهات الكتب التراثية، وفي كتب الأحاديث الصحيحة كيلا يطلعوا على ما يمكن أن يؤدي إلى تغيير أفكارهم التي صيغت وفقا لرؤية مذهبية معيّنة، فالأستاذ( س) لم يكن يدرّس طلابه الأبيات التي وجهها يزيد بن مفرّغ الحميري لمعاوية بن أبي سفيان عندما استلحق زياد ابن أبيه بنسبه، معيِّرا إياه بذلك، وهي(في ديوانه ص230-232):

    ألا ابلغ معاوية بن حرب   مغلغلة عن الرجل اليماني

    أتكره أن يقال أبوك عف   وترضى أن يقال أبوك زان

    فأشهد أن رحمك من زياد   كرحم الفيل من ولد الأتان

    وأشهد أنها ولدت زيادا     وصخر من سميّة غير دان

    وذلك أن زيادا كان واليا لعلي على خراسان، فأغراه معاوية بذلك لينقلب على الإمام ففعل، وما كان من ابن مفرغ إلا أن هجاه بهذه الأبيات. فما الذي يمنع أن يتعلّمها الدارسون، أليسوا جميعا في ذمة الدّيّان؟ أليس أننا بتعلّمنا ما كان من أخبار أسلافنا ما يزوّدنا بتغذية راجعة من شأنها أن تحصن مجتمعاتنا اليوم؟. ولكن للمغرضين مآرب أخرى!.

     

        ومن الطريف أننا نتعاطف كثيرا مع بني أمية بحكم ما تربينا عليه من نصوص، حين نرى أبا مسلم الخراساني يزلزل أركانهم في المشرق، ونرى واليهم هناك (نصر بن سيّار) يستصرخهم وهم، كما وصفهم، نيام، ويرسل القصيدة بعد القصيدة مشفوعة برنّة حزن حرّى، إذ قال:

    إنّا وما نكتّم من أمرنا      كالثور إذ  قُرِّب للناخع

    أو كالتي يحسبها أهلها  عذراء بكرا وهي في التاسع

    وفي ميميته الباكية إذ يقول:

    أقول من التعجب ليت شعري    أأيقاظ أمية نيام

    وإن النار بالعودين تُذكى      وإن الحرب أولها الكلام

    فإن كانوا لحينهمُ نياما          فقل هبوا فقد حان القيام

    بل نتعاطف أيضا مع عبد الرحمن الداخل الذي جدد ملكهم في الأندلس، في الوقت الذي نتعاطف فيه مع بني العباس؛ وهم الذين استأصلوا شأفتهم، ولم يدعوا في المشرق أمويا، لولا ما فعلوه بأبناء عمومتهم من آل البيت، وكأننا وكأنهم المعنيون بقول الشاعر(عبد الوهاب النجار،الخلفاء الراشدون،ص 320):

    إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ       نصيب ولا حظ تمنى زوالها

    وما ذاك من بغض له غير أنه      يُرَجِّي سواها فهو يهوى انتقالها

     

        إن في هذا ما يوضح إلى أي مدى يمكن تشكيل عقول الدارسين ومشاعرهم تجاه الأحداث التاريخية والأفكار المطروحة، حتى لكأنّ الدارس كرة يتقاذفها مصممو المناهج، أو عجينة يشكلونها كيفما شاءوا..

     

        ويعدّ الأدب من" أخصب المجالات للدس والتزوير والكذب، فقد سار الكثير من الأدباء في ركاب السلطات المستبدة، وأصبحوا أبواقا تمجّد الأنظمة والحكام. فهذا أبان بن عبد الحميد يتقرّب من هارون الرشيد بشعره وأدبه، فينال منه أموالا طائلة مكافأة لأكاذيبه وافتراءاته..وهذا غياث بن المهدي يضع أحاديث كاذبة لتبرير لهو المهدي العباسي فيحظى بالعطايا الكثيرة(الحكيم،مناهج البحث التاريخي، طهران، ص 13،14).

     

        ومن قبيل ما تقدّم ما رواه إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة عن ابن البوّاب قال: جلس المعتصم يوما للشراب، فغنّاه بعض المغنين قوله:

    وبنو العباس لا يأتون "لا"    وعلى ألسنهم خفّت "نعم"

    زيّنت أحلامهم أحسابَهم      وكذاك الحُلم زين للكرم

    فقال: ما أعرف هذا الشعر. فلمن هو؟قيل: للبيد، فقال: وما للبيد وبني العباس؟   ( يريد أنه لم يدركهم) قال المغنّي: إنما قال:

    وبنو الديّان لا يأتون

    فجعلتُه" وبنو العباس".فاستحسن فعله ووصله.( ديوان لبيد ، ط2، منشورات دار الكاتب العربي ،بيروت1417هـ ص297،298) وفي هذا ما يوضح أن بعض الأدباء كانوا يتحيّنون الفرص للتزلّف من الخلفاء والولاة ، ولا يتحرجون من تغيير الحقائق.

    6- التشكيك  في نسبة بعض الكتب لأصحابها، على نحو ما نجده في خبر نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب، إذ يشكك بعضهم في نسبته إليه، ويتهم شارحه، ابن أبي الحديد، بالتشيع لأنه أنصف عليا وأبناءه،  بينما الحقيقة أنه كان معتزليا.

    7. إغفال الحقائق التاريخية، وانتقاء المعلومات، ففي كتاب طه الدليمي "الحقيقة الكاملة لأعداد سكان العراق سنة وشيعة"، استوقفني طويلا حرصه على استنكار كثرة المنتسبين لآل بيت النبوة في هذا الزمن؛ فقد أشغل فكره بالحساب والمعادلات، لينتهي إلى أنه لا يعقل أن يكون عددهم بهذا القدر الذي يتناقله بعض الناس، متجاهلا أن الأمور لا تخضع للقياس، وأنه استنادا لنظرية الاحتمالات فإن الزوجين قد يصبح خلفهما بعد خمسة قرون ملايين، وأن المليون قد يصبحون بعد المدة نفسها صفرا.

           

    يضاف إلى ذلك ما ورد في فتح الباري لابن حجر العسقلاني من علماء القرن التاسع الهجري، من "أن الموجودين من ذرية علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج، ممن يتحقق نسبه، وقس على ذلك، ولا التفات إلى كثرة من يدّعي أنه منهم ( من الأوس والخزرج) بغير برهان" ( فتح الباري7/154 نقلا عن هامش الكتاب المذكور ص42). وهذا قبل 600 عام، مما يعني أن العديد تضاعف بشكل كبير؛ بالرغم من الأعداد الغفيرة التي قتلت من آل عليّ على أيدي الذين أعلنوا الحرب عليهم، على النحو الذي يرويه كتاب " مقاتل الطالبيين " للأصفهاني.

     

     

     

    خلاصة البحث:

            يتبيّن لنا مما تقدم أن الأدب العربي، ودرسه وتدريسه، قد مرت بظروف متفاوتة في مواتاتها وموافقتها لما ينبغي أن يكون عليه وضعها الطبيعي، وخضعت عبر تاريخها الطويل، وبسبب اتساع الرقعة الجغرافية التي احتضنتها، إلى عوامل كثيرة أدت إلى اضطرابها، وقد انبنى على ذلك ما أدّى إلى تفاوت في تشكيل العقل العربي والإسلامي على نحو خطير، نلمس كثيرا من نتائجه وترسّباته إلى اليوم، بل لقد تمكن أعداء الأمة من التسلل مباشرة، أو باستدراج مريديهم، من حيث يدرون أو يجهلون، إلى حمى الأمة، وبث روح الفُرقة بين أبنائها، لا ننكر أن ثمة خلافات تاريخية بين الفرق الإسلامية، ولكنها لا تستدعي استمرار تشتت الجهود، وتبديد الطاقات، ولا الاستمرار في انتهاج السبل التي تؤدي إلى تكريس الشقاق، وإذكاء الفرقة؛ فلقد حان لنا أن نفوِّت الفرص على كل من يكيد لهذه الأمة، ويَحُول دون وحدة منطلقاتها، والسعي نحو إنجاز مشروعها الحضاري.

     

             ولما كان للأدب بمفهومه الواسع ما له من دور في صياغة العقول، فقد بات لازما على كل معنيّ بهذا الأمر أن لا يحجب المعرفة عن الناشئة، وان ييسر لهم الاطلاع على كل خبايا التراث، بمعنى أن نتسلح بالجرأة في وضع الأصابع على الجراح؛ وإن آلمتنا، فلا يظل الألم الذي يصاحب فجر الدمّل مبررا لاستمراره قنبلة موقوتة في جسد الأمة، أو حائلا بين أبنائها والمعرفة.

           

            إن الانتقائية المذهبية للنصوص التي تقدّم للناشئة، وتودع في المكتبات، بغضّ النظر عن موضوعاتها، لا تؤدي إلا إلى مزيد من التضليل وحجب الحقيقة، وإلى صياغة عقول الناشئة بشكل نحن نريده. نعم، لا بأس في ذلك، فمن حق الولد على أبيه (والآباء شتّى، منهم المدرِّس والإذاعة والصحيفة) أن ينشِّئه كما يريد، وهذا ما كفلته على المستويين الفردي والاجتماعي، وثيقة جنيف لحقوق الإنسان، ولكن من قال إن الأبناء يجب أن يكونوا نسخة كربونية عن آبائهم؟

            لعل في المعطيات التي تقدّمها حركة التاريخ والتطور الاجتماعي ما يؤكد ضرورة الانفتاح على عالم المعرفة وولوج أبوابه المختلفة، فها نحن نسمع، يوما بعد يوم، بعالِم من هنا وآخر من هناك، قد تحول عن مذهبه أو ديانته إلى الإسلام، وما كان ذلك ليكون لولا الانفتاح على عالم المعرفة دون قيد أو حد. إن الخطر الحقيقي يكمن في الجهل، واستمرار التحسس من الآخر، أيا كان. ومما نحفظه منسوبا للإمام علي بن أبي طالب:" لا تعلّموا أبناءكم ليكونوا أمثالكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم." وهذا ما يشهد به واقع الحياة في دورتها، ولعل في انفتاح أبنائنا على الحاسوب ما يوضح مدى سبقهم لنا.

     

            إن تحصين الأبناء ضروري، وكذلك الإشراف على توجُّهاتهم، وإرشادهم في مرحلة المراهقة، ولكن لا ينبغي لنا أن نُلزم أبناءنا بتقليدنا، بل علينا أن نطلق العنان لعقولهم كي يسوسوا أنفسهم، ويُسهموا في صياغة عقولهم، وتزويدها بما يَرَونه مناسبا، ولعل في الواقع الذي تحياه الأمة، وهو مبنيّ على أسس منهجية إلزامية، تكرّس التقليد ، وتَحُول دون حرية الفكر ـ إن في ذلك سببا من أهم الأسباب التي أدت بنا إلى هذا الواقع المتخلف، مما يجعل التغيير ضرورة ملحّة، وفي قول الله عز وجل ( لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ما يؤكد ذلك.

     

            فلنُعِد النظر في المناهج، ولنفتح أبواب التاريخ على مصاريعها، ولا يخشينّ أحد من كشف الحقائق، ولا من سطوع شمسها، وإذا حث الدين على الاعتبار والاتعاظ بالآخرين، فما أحرانا بأخذ العبرة من تاريخنا، وأنعم بها من تغذية راجعة، فهذا أوان المصارحة والمكاشفة، وتحرير العقول من رؤى العبيد، لو كان عبد يملك حريته، أو كان فاقدُ شيء مُعطيَه!.

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me