An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Tuesday, February 24, 2009
  • الطاقة اللغوية ودروها في عملية الاتصال
  • Published at:Not Found
  •  

     

     

     

     

     

    الطاقة اللغوية ودروها

    في عملية الاتصال

     

    نشر هذا البحث عام 1979 في مجلة الثقافة العربية الليبية، بعنوان ديناميكية اللغة 1،2، ثم نشر في كتابي " نحو دراسات وأبعاد لغوية جديدة" الذي نشر بنابلس عام 1986  بعنوان " ديناميكية اللغة"، وأخيرا نشر في كتاب اللغة والحواس الذي صدر بنابلس سنة 2000م بعنوانه المدرج اعلاه.

    أ.د. يحيى جبر

     

             

     

     

             

     

     

     

     

     

     

     

     

    الطاقة اللغوية ودورها في عملية الاتصال

             

              لولا الزجاج لما أنار مصباح كهربائي، فهو من الأهمية بحيث يتكافأ مع الكهرباء ذاتها في مجال التنوير. نضغط على المفتاح فينبثق النور من خلال الزجاج. هل تستطيع ان تتصور كيف تكون المصابيح لو لم يهتد الإنسان لصناعة الزجاج؟

              لكن ما هذا الذي يقال؟ أنحن في حديث عن اللغة أم الحديث عن الزجاج والكهرباء؟ حسنا ... فلننتقل ثانية إلى اللغة ... إلى زجاج المصابيح والمرايا.

              عندما يمر التيار الكهربائي في شريط التنجستون داخل المصباح يتوهج الشريط، ويخترق النور الزجاج ليقع على الأشياء فنتعامل معها تبعا لما يتطلبه الظرف الذي نكون فيه.

              وعندما تخطو في الصباح لتقف أمام المرآة، فإن صورتك تقع على المرآة، وتنعكس لتقع على عينك ... فتتعامل مع ملابسك أو شعرك استنادا لما تراه.

              في بعض الأحوال، بل في كثير منها، تنعدم الرؤية أو تكاد، فلا ندرك الصورة في المرآة، ولا الأجسام التي ينتهي إليها النور. انظر في المرآة فإنك لا ترى إلا شيئا واحدا في الوقت ذاته رؤية حقيقية، بينما الأشياء المنعكسة عن المرآة أكثر من أن تُحصى، وما أكثر الأجسام التي يقع عليها النور، ولكنك لا تدركها جميعا.

              ومهما تكن من حال، فإن الخلل في الرؤية والإدراك يرجع لسبب واحد على الأقل من أربعة أسباب هي:

    أولا: انقطاع التيار الكهربائي أو عصب البصر، أو ضعف العين.

    ثانيا: انكسار الزجاج من المرآة أو المصباح أو كثافة زجاج المصباح، أو أن يخالطهما لون يحجب الرؤية أو قسطا منها.

    ثالثا: بعد الأجسام والمنعكسات واضطرابها أو دقتها.

    رابعا: شرود الذهن واشتغاله عن موضوع الإدراك.

     

              إن ما نريد أن ننتهي إليه عقب هذه المقدمة الضرورية، هو أن اللغة تتمثل في اجتماع أربعة أشياء، ولا تصح إلا بصحتها، وأن نقصا أو خللا يعتري أحدها ليفقدها قسطا من الصحة والسلامة، فاللغة تمثيلا بالمصباح المنير هي التيار والنور، وهي الزجاج الناقل بشفافيته، وهي الأجسام المسلط عليها النور، إلى جانب أنها رد الفعل الناجم عن إدراك المرئيات من تحريكها أو تحديدها أو غير ذلك.

               واللغة هي العين الناظرة في المرآة، والمرآة ذاتها، والمنعكس، ورد الفعل الناجم عن إدراك المنعكس، كأن تقف أمام مرآة فترى في المنعكسات عليها شعرك أشعث فتأخذ المشط لتسرحه، أو لباسك مضطربا فتصلح من هندامك.

              واللغة، استنادا لما سبق، هي المعنى المعبر عنه، واللفظ المعبر به وموقع العبارة عن دماغ الشخص المعبر له، ورد الفعل الناجم عن ذلك، وإن نقصا في هذه أو في واحد منها، ليمتد بأثره إلى قيمة اللغة،ويجعلها جديرة بان توصف بالقصور، إلا أن الخلل في الرابع، وهو رد الفعل، ليساوي في مقداره عبثية اللغة عند محدثه. وإلا ما جدوى الحديث مع أصم لا يسمع ما تقوله له؟ أليس ضربا من العبث؟ ما جدوى الحديث مع أمريكي باللغة العربية وهو لا يفقه العربية ... بل ما جدوى الحديث في ظرف لا قيمة فيه للكلمة ما دام لا تترجم عملا وفعلا ... تسمع قعقعة ولا ترى طحنا ... إن أعلى قيمة للغة لا تتحقق إلا إذا اجتمعت العناصر الأربعة وكانت سليمة تماما، وهذه العناصر هي في الحقيقة أركان العملية اللغوية، وأساس قيمتها من حيث هي وسيلة للاتصال والإبداع والتفكير، وهي:

    1.  المعبر عنه، وهو التيار ووهج سلك التنجستون، وهو الجسم الذي ينعكس على المرآة. وينبغي أن يكون واضحا في ذهن المتحدث بصورة كاملة وهو، مع ذلك، قليلا ما ينتهي إلى ذهن المتلقي بالدرجة نفسها من الوضوح، ولذا، فإن رد الفعل كثيرا ما يطابق المطلوب، فيقصر دون او يربو عليه، وتكون المبالغة. ومردّ ذلك إلى ما يعتريه ـ أي المعبر عنه ـ من انحراف عن السمت من جراء مروره بالمحطات التالية من حيث قد تكون كفاءتها غير كافية.

    2.  المعبر به، وهو اللفظ، وقد تكون الإشارة أو نحوها، ولا فرق في المحصلة. زجاج المصباح يشف عن النور وينقله، وصفحة المرآة تعكس المرئيات ... وتنقل ما لا يقع في مواجهتنا وتضعه نصب أعيننا، وكذلك اللفظ؛ حيث يحمّله المتحدث معانيه، فقد يكون بعيرا قادرا، وقد ينوء به المعنى كما ناءت مفاتيح كنوز قارون بالعصبة أولي القوة. وبقدر ما تكون المرآة صقيلة، وزجاجة المصباح شفافة، واللفظ واعيا للمعنى معبرا عنه، فإن رد الفعل يكون جديرا بتوضيح ذلك على النحو المطلوب.

    وكذلك الألفاظ فهي رموز المعاني، فإذا كانت الرموز واحدة لمعانيها عند الناس فإنها تشكل آنئذ وسيلة للتفاهم دقيقة، ولا يمكن أن يحدث بينهم خلاف قط، أما إذا كانت مشوشة فإن فإن الذين يستخدمونها لن يتفاهموا بسهولة، ويكونون أدنى للشجار.

    3.  المتلقي أو ما يفهمه القارئ أو المستمع من العبارة: يتلقى المستمع أصواتا .. والقارئ صورا لرموز يحولها الدماغ إلى تيار حسي، سرعان ما يتمخض عن إدراك ووعي يناظران ما يقابلهما عند الملقي تقريبا.

    إن الإنسان ليس آلة تصوير أو كتابة، بحيث يمكن أن نصنع آلافا منها متطابقة ... ليس هناك اثنان ينطبقان انطباق مثلثين تساوت أضلاعهما. إن الملقي والمتلقي ليضفيان على العملية اللغوية أشياء من نفسيتيهما المختلفتين، نظرا لاختلاف موروثهما ومكتسبهما، ومن هنا ينشأ الخصام في كثير من المناقشات، والمجالس والمؤتمرات، حيث يطغى المنظور النفسي لأطراف النقاش على طبيعة الحديث، ولأن الألفاظ التي تحمل المعاني لا تكون على قدر واحد من التناسب عند طرفي العملية اللغوية. فليست كلمة "ساطورة"، مثلا، واحدة في دلالتها عند الجزار وغير الجزار. لا نقصد الشكل واللون والحجم حسب، ولكن نقصد الموقع من النفس قبل ذلك كله وبعده؛ فهي عند الجزار من المألوفات الوديعة التي يستعين بها لقضاء عمله، وهي من أكثر الأشياء التي تدخل في حياته العملية ... لكنها عند غير الجزار، تلك الأداة المثيرة للرهبة، الثقيلة على اليد والنفس، التي قلما يستخدمها. أرأيت معنى القط عند طفل ورجل، أليس مختلفا؟ ومعنى الأسد عند مروّضي الوحوش أو الذي يقوم على تغذيتها في حدائقها، أو عند إفريقي يراه مرة أو مرتين في الشهر، وعند من لم يره إلا صورة في الكتب؟ أليس مختلفا؟

    من هنا يتخلّق الطابع الذي يتلوّن به المعنى المنعكس على مرآة دماغ المتلقي. فالقمر هو القمر .. لكنك تنظر فيه، فتتشكل أمام عينك صورة ما، وينظر فيه غيرك فلا يرى ما تراه ... فلكل ليلى وكل يغني لليلاه. وبعبارة أخرى، نسمع كلمة "فيل" أو "أسد" فتشدّان الذهن إلى قوة الحيوانين المعروفين، بينما ينشد ذهن غيرك إلى ضخامة الفيل ولبدة الأسد، وينشدّ ذهن ثالث إلى غابات إفريقيا حيث يعيشان، بينما ينشدّ ذهن رابع إلى حديقة حيوانات طاف بها يوما فرآهما، وربما ذكّرتا ذهن خامس بحلقة من برنامج مرئي عرض فيه الأسد والفيل وغيرهما من الحيوانات، ثم تسللت إلى ذهنه ذكريات تربطه بالذين شاهدوها معه، فإذا به يجلس الآن معك بجسمه بينما ذهنه شارد ... وهكذا، فالأمر تماما كالجهة، جهة الجنوب مثلا؛ تذكر الكلمة فلا تحدد الدرجة المقصودة، ذلك أنها تسعون درجة، وما هو جنوب بالنسبة لنا، فهو شمال بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في خط الاستواء، وموقع سورية إلى الغرب من العراق، ولكنه إلى الشرق من البحر المتوسط أيضا.

                       ونظرا لما تقدم، فإن الانعكاس المعنوي الذي تحدثه الألفاظ في ذهن المتلقي يخضع في وضوحه وسلامته لعدة أسباب، ليس أقلها أهمية ما يتصف به المتلقي من توافق نفسي مع الملقي. والذين يفهون ما يسمعون بسرعة فائقة، غالبا ما يكونون على قدر كبير من المرونة، يمكنهم من التوافق النفسي مع محدثيهم، وأهم العوامل في التوافق هو ما سماه علماء العربية الأقدمون بالمقام في قولهم "لكل مقام مقال" فمن هو معك في مقام واحد يكون أقد من سواه ممن ليسوا معك على فهم ما يقال من حديث.

              وتمرّ بأحدهم فتلقي عليه السلام فيرده بمثله أو يزيد عليه، وربما رده ناقصا مرة أخرى، وقد لا يرده مرة ثالثة، أو يتجهم في وجهك ويصرخ بألفاظ نابية في بعض الأحوال. لماذا؟ أنت أنت في كل الأحوال، والمرء هو المرء، ولكن الذي تغير هو الحال والزمان، كثيرون يشاهدون مواقف كهذه يستغربون ويهزون أكتافهم ساخرين، لكن الأمر يكون طبيعيا إن هم أدركوا الجوّ النفسي بينهما ولم تكن نظرتهم سطحية، وكما أن بعض البقاع أيمن من بعض، فإن بعض الأوقات أيمن من بعض أيضا.

              وإذا مررت بقسم اللغة العربية في كلية الآداب، وسمعت أحدهم يقول "الفاعل" فإنك لن تترد في فهم أن المقصود هو محدث الفعل الذي يكون مرفوعا. وإذا سمعت الكلمة في كلية القانون أو في المحكمة، فإن الذهن سينصرف إلى مرتكب الجريمة الذي ينتظر العقوبة ... وإن كنت في بلاد اليمن وسمعتها، فاعلم أن قائلها يقصد الحرّاث في الغالب. كل ذلك بالرغم من أن الكلمة واحدة، وأنت أنت الذي قد سمع.

              وتُستخدم كلمة "بحري" عند عرب حضرموت للدلالة على اتجاه الشرق، بينما يستخدمها عرب "عسير" للدلالة على الغرب، أما عرب الشمال الإفريقي، فيستخدمونها للدلالة على جهة الشمال؛كل يستخدم الكلمة للدلالة على الجهة التي يقع فيها البحر بالنسبة للمنطقة التي يعيش فيها. الكلمة هي الكلمة، والعرب هم العرب، ولكن المكان غير المكان.

              ومن عوامل التوافق النفسي الذي يمكّن العملية اللغوية من أداء رسالتها المتمثلة في إحداث رد الفعل المنطقي، سلامة الألفاظ وملاءمتها لما تحمله من معان، إضافة إلى وضوح المعاني ذاتها، فلا يمكن أن يفهم سامع حديثا بألفاظ غير مألوفة له، وإن كانت عربية، أو بألفاظ غير سوية، كأن يكون المتحدث عييا لا يفصح عن نفسه، إلا بقدر ما تفصح عنه سطور بعض المخطوطات البالية الباهتة. ولا يمكن أن يفهم سامع ما يقصده متحدث يجهل ما يريد، أو يعجز عن تحديده بدقة، إلا إذا كان السامع ذكيا بشكل خارق، فهو يستعين بما يوحي به المقام، كما أن المتحدث لا يمكن أن يفهم إن كان شارد الذهن، أو أصم، أو كانت مفرداتك دنانير جزائرية، بينما هو معتاد على التعامل بالدنانير الكويتية، إذ يعادل الدينار سبعة عشر دينارا جزائريا تقريبا. فالدينار هو الدينار ولكن في المكان الواحد، وليس عند الصرّاف، وقل مثل ذلك إن كنت ممن يقولون ولا يفعلون، فهو يفهم، ولكنه لا يأتي برد الفعل، ولا يستجيب، فإذا بك كالنافخ في قربة مشقوقة ... وإذا بألفاظك ليس لها رصيد معنوي، تماما كالعملة لا رصيد يغطيها ... أوتعجب إن أفلست إذن؟

              إن المتلقي الذي هو ما يرشحه اللفظ الذي حمله الملقي معنى ما، لا يقع في دماغ المتلقي بحيث يكون في  الموقع الذي صدر عنه من دماغ الملقي تماما. ولتوضيح ذلك نفترض أن إشارة ما (المعنى) صدرت عن النقطة التي يتقاطع فيها الخطان الدماغيان: العرض 10ْ والطول 20ْ، وسارت بها في موجة صوتية (الكلمة)، فإنها عندما تصل إلى دماغ المتلقي، لا تقع على نفس النقطة التي يتقاطع فيها خطا العرض 10ْ والطول 20ْ إلا نادرا، وذلك عند تمام التفاهم بين طرفي العملية اللغوية. ولكن الذي يحدث في الغالب، هو أن تقع قريبا منها، على نحو ينعكس في السلوك الذي يمارسه الطرفان، أو ما نفضل أن نسميه رد الفعل.

    4.  رد الفعل: وهو ما يبرز الجانب الديناميكي في اللغة، ويوضح القانون الأثيري للحركة. يتحرك جهاز النطق بإشارة من الدماغ (1) فيستقبلها جهاز السمع وينقلها إلى الدماغ (2) فيوجه أمر إلى الجهاز العصبي للقيام بعمل ما، أو يختزن ذلك في الذاكرة (كثقافة وعلم) يؤثران في السلوك العام. وقد يتم رد الفعل بالقراءة والتأمل، وذلك أن المعاني لا تختبئ وراء الألفاظ وحسب، ولكن في المرئيات وكل المدركات بالحواس المختلفة، ولن يحدث رد فعل مناسب، إن كان المرسل يصدر موجات صوتية (ألفاظا) بينما يكون المستقبل مغلقا صِمَام السمع، أو كانت عيناه مشغولتين بملاحقة بعض المتحركات ... وبهذا يسهل فهم قوله تعالى"ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" إذ أعتقد أن المقصود هو أن دماغ الإنسان لا يمكن أن يدرك بالسمع حدثا في الوقت الذي يدرك بالبصر حدثا آخر. أرأيت الناس يمتحن بعضهم بعضا في شغل كل من يدي الإنسان بشغل مختلف في الوقت الواحد!

    إن الإدراك الحقيقي من قبل الدماغ لا يمكن أن ينصب في الوقت الواحد إلا على شيء واحد، وإن اختلفت قنوات الإدراك متضافرة في ذلك، كأن يشترك السمع والبصر في قراءة القرآن، وهو ما يعرّفه المدرّسون بالتتبيع. أو يشترك الذوق والشم واللمس في إدراك ثمرة ما في الظلام، ذلك أن الطريق التي تصل الدماغ بالعامل الخارجي لا تسمح إلا بعبور رسالة واحدة في الوقت الواحد.

    اسمع: مدير الحركة في المطار يطلب من المسافرين على الخطوط الجوية (س) المتجهين إلى المدينة (ص) أن يتجهوا لبوابة رقم (1).

    انظر: ذلك الرجل ينهض، وآخر هناك، وهذا يجري باحثا عن أطفاله الذين خرجوا يلعبون تحت الأشجار ... أكثر المتحركين يتجهون نحو البوابة رقم (1) لكن هنالك أفرادا لم يقوموا. أهم أجانب لا يفقهون العربية؟ أم هم صم لا يسمعون؟ بل لعل الأمر لا يعنيهم؟ اللهم إلا أن تكون أذهانهم شاردة فهم الموجودون الغائبون. تُرى ما النتيجة في الأحوال كلها؟ إنها بقاؤهم جالسين ... لم يُحدثوا رد فعل، ولم يلبوا النداء. وبهذا نستطيع أن ندرك العوامل التي توجه رد الفعل وتحدثه.

    هنا صورة ص10 تجدها في كتاب اللغة والحواس للمؤلف

    تُرى هل نوري مصباح الكهرباء لنبحث عن كل شيء في الغرفة؟ ألسنا نفعل ذلك للقيام بعمل مخصوص فعلا أو احتمالا بعد حين؟ ما أشبه فعل الذين اتجهوا للبوابة رقم (1) بالعمل المخصوص الذي أوريت المصباح من أجله، وبالجسم الذي سلطت عليه الضوء المنعكس عن المرآة فهو مشرق بينما الأشياء حوله ظليلة.

    إن الكلام إذا لم يحدث رد فعل في المستمع، يتضح في سلوكه، أو يخزن كحصيلة ثقافية، فإنه يكون عبثا من المتكلم، وعليه أن يبحث عن أسلوب آخر، وإنه بذلك ليختصر الوقت اختصارا، كثيرا ما ترفع الأم صوتها في تنبيه أبنائها إلى إطفاء المصابيح عند الخروج من الغرف، أو عندما يكون الضوء المنتشر في الفضاء كافيا، وأبلغ من ذلك أنهم يقولون في المثل: "كموقد الشمع أمام العميان" استخفافا بالفاعل، تماما كما قال شاعر الجاهلية فيمن لا يقوم برد فعل لما يسمع:

    لقد أسمعت لو ناديت حيا                             ولكن لا حياة لمن تنادي

    ولو نارا نفخت بها أضاءت                          ولكن أنت تنفخ في رماد

    إذ استحقّ أن يشبه بالميت الذي فقد الحركة، وبالرماد الذي فقد الحرارة، وهل رد الفعل إلا الحركة، وهل الحركة إلا نتاج الحرارة والعكس؟

    وبناء على ما سبق، فإن رد الفعل قد ينعدم، وذلك في حالين هما:

    الأولى: عدم الفهم الناجم عن خلل في كل العناصر التي ذكرناها، أو في بعضها، وهي المعبَّر عنه، والمعبَّر به، والمتلقّي المنتقل وموقعه من دماغ المرسل إليه.

    الثانية: عدم الاستجابة لما يُفهم؛ نفاقا أو كذبا أو تبلّدا في الحس، ويأسا؛ كالطفل تمد يدك له بالحلوى، فما أن يمد يده ليأخذها، حتى تقبض يدك ... تكرر ذلك مرتين أو ثلاثا، فإن مددتها رابعة، فإنه لن يمد يده ليأخذ حلواك، يأسا من صدقك ... حتى لعابه، فإنه لن يستمر في السيلان تضامنا مع كرامته.

    وقد يتظاهر المتلقي بالفهم وهو منافق، أو قد يدعي عدم الفهم عنادا واستكبارا ومكر السيء، وربما كان من العجز أو تبلّد الحس، بحيث لا يلبي لما يمليه عليه فهمه من رد فعل. وأعتقد ان هذه الأحوال مجتمعة، هي السبب في الواقع العربي المشلول، حيث لا استجابة للتحديات والمخاطر المحدقة بالأمة ... لا من رأى، ولا من سمع!

    وقد يقع رد الفعل قريبا مما ينبغي أن يكون عليه، وذلك لنقص الفهم او الاستجابة، لسبب من الأسباب السابقة، وعندئذ، لا بد من المعاودة والنقاش، والجدال إلى أن تستبين الأمور وتتحدد المواقف. والنادر هو أن يأتي رد الفعل مطابقا للفعل، أي موفيا بالغرض، دون جدال و نقاش، وهذا لا يتم إلا بتمام العملية اللغوية، وبالصدق الذي يصدر عنه الطرفان.

    ومن الظواهر التي تعكس ديناميكية العربية، معاني الأصوات وملازمتها لها بطريقة حتمية. وإذا بدا ظاهر الأمر مخالفا لذلك، فإن باطنه سيوافقه، والباطن أوثق اتصالا بالحقيقة من الظاهر. وعندئذ ينبغي أن نبحث عن الدلالة الأصلية حيث تكون مجهولة أو لم تعد تستخدم، وهي دلالة مادية دون شك.

    فما من أصل لغوي (أو مادة أو جذر) ـ وسنستعيض عنها بعلامة الجذر الرياضية  ـ يبدأ بالصوت المرموز له بالفاء ـ مثلا ـ إلا كان لدلالة تنصرف لمعنى إحداث ثغرة أو حدوثها، ولمعنى الانتشار والفتح، ويمكن تدبّر ذلك في المفردات التالية:

    فتح (الباب)، وفتق (الله السموات والأرض بعد أن كانتا رتقا)، وفت (الخبز)، وفشا (السر)، وفجر (القنبلة والحوض والدمل والضوء الليل)، وفرج (الثوب والكربة) ... وفسر وفصل (الحديث المبهم)، وفرّق (العدو) وفقس (البيض) وفاح (الزهر بشذاه) وفجا (الجو إذا صحا)، والفجوة من قوله تعالى "وهم في فجوة منه" وفغر (الأسد فاه إذا فتحه) وفم (الآدمي والحيوان حيث يمثل ثغرة في الوجه) وغيرها. وقد يقال: ماذا تقول في الفتل، فتل الحبل؟ أين هذه المعاني التي ذكرت؟ أليس الأمر معكوسا؟ فنقول إن الصوت المرموز له باللام، الذي يختتم به فتل ليعكس الأمر في ظاهرة، لأنه يفيد الوصل والاتصال، إلا أن المعاني التي ذكرناها واضحة في الصوتين الأول والثاني (فت) على نحو ما سنوضحه مستعينين بثلاثة خيوط رفيعة على النحو التالي:

    هنا صورة ص 14 تجدها في الكتاب

    فالفتل لا يتم إلا في متفرق أصلا. فالفاء أولا، تفيد التفرق (الخيوط الثلاثة) والتاء ثانيا، وتفيد الربط والجدل، واللام ثالثا، وتفيد الاتصال والامتداد. وكل مفتول يمرّ في المراحل الثلاثة، حتما.

    إن بعض المفردات تنتقل في رحلتها على أسن الناس، إلى معانٍ تتشعب من دلالات تناقض دلالاتها الأصلية، فلا يُعتَدّ بها. كالقرن بمعنى الجبل المنفرد في الصحراء، تشبيها بالقرن من ذوات القرون. لكن جذر قرن يفيد في الأصل معنى الازدواج والاقتران، وليس للانفراد كما رأيت من أمر الجبل المنعوت.

    إن ظاهر الأمر يشير إلى أنه لا علاقة بين الفقير والمعاني التي ذكرت سابقا، لكن التحليل يضع الأمر في نصابه؛ فالفقير فعيل من فقير، وهذا الأصل لدلالة تقع على معنى الانفتاح، ومنه الفقير بمعنى القناة في باطن الأرض تكون بين العيون لتجمع ماءها، ومنه الفقرة من العمود الذي ينتصف الظهر ابتداء من الرقبة، ولا تكون الفقرة إلا مفتوحة (حيث يمتد حبل النخاع الشوكي)، أما الفقرة من المقال، فعلى التشبيه بالواحدة من فقار الظهر. والفقير (إلى الله) هو المفقور، فعيل بمعنى المفعول، على التشبيه بمن أصيب عموده الفقري (كالمبطون والمصدور والمقلوب للمصاب في بطنه وصدره وقلبه على التوالي)، فهو لا يقوى على النهوض، وما (أفقر) من كان هذا شأنه. وأنت ترى أن كلمة الفقير (إلى الله) إنما استمدت معناها من معنى منشعب من المعنى الأصلي الذي يفيد الفتح والانفتاح على نحو معين.

    ولعل جذر بيض يوضح تنوع الوجود التي تسلك فيها المواد للحصول على ألفاظ لمسميات مختلفة. إن دلالة بيض واحدة، ولكن انظر إلى الاختلاف في معاني مشتقاتها ومبانيها:

    البيضة: معروفة.

    البياض: اللون، معروف.

    البياض: الفحم في لهجتي عرب ليبيا ومصر.

    البيض: ليالي البيض، وهي الثانية والثالثة والرابعة بعد العاشرة من الشهر القمري لأنها تعمر بنور القمر.

    البياض: نوع من السمك.

    الأبيض: قرية في جنوب ليبيا، وأخرى في غرب السودان (تضبط بصورة مختلفة) الأُبَيِّض.

    البيّاضة والبيضاء: مواقع مختلفة في بلاد العرب.

              وما من جذر يبدأ بالشين، إلا لدلالة تقع على معنى التفشي والتفريق والانتشار. ولك أن تتقصّى ذلك فيما يلي:

    شفة: حيث لا يكون إلا اثنتان منفصلتان.

    شفر: ومنه مشفر البعير، وهو كالشفة من الإنسان، والشفرة السكين، لأنها تستخدم القطع والقطع تفريق.

    شعب: ومنه الشعبة، وهي الفرقة والفئة. وموضوع متشعب إذا كان ذا فروع كثيرة.

    شعر: ومنه الشعر في الرأس وغيره، والشعير من الحبوب، ولا يكونان إلا كثيرين ومتفرقين

    شعو: ومنه غارة شعواء: متفرقة، وانشعى الحبّ إذا سقط على الأرض وانتشر، والخيل شواعٍ أي متفرقة.

    شعل: ومنه الشعلة، ولا تكون إلا متفرقة الأطراف، أو ما يُعرف بألسن اللهب.

    شعع: ومنه الشعاع، ولا يُرى إلا خيوطا متفرقة، وكذلك الشعق في لهجة عسير وتهامة، وهو الشعاع. والتفرق في الأشعة راجع إلى تفرق أهداب الجفنين. لأن سيل الضياء ينعكس عنها، ويأخذ شكلها وهيئتها وتفرّقه. وهكذا، فإنه لولا أهداب العين لما كان الشعاع، وإن الاشتراك في الصوتين ش، ع ليس مجرد صدفة.

    الشرق: من حيث تنبثق ضياء النهار.

    الشرم: معروف.

    الشرب: الأرض تشرب ماء المطر .. تمصه فيتفشى فيها، وكذلك الإنسان.

    الشظية: (من القنبلة) وفي عسير يقولون: شظى الخشب أو شقفه بالفأس، وشظّف الصخر: كسّره.

    الشق: معروف.

              وكل جذر يتوسطه الصوت المرموز له بالحرف (ح) فهو لدلالة على معنى الاحتكاك والحكّ، وتوضيحا لذلك نورد الأمثلة التالية: السحب، ولا يتمّ إلا باحتكاك سطح المسحوب مع سطح المسحوب عليه. والسحل والذبح، معروف. والسحيل كالصهيل ولكنه للبغال، ويتم باحتكاك أجزاء النطق على نحو معين. والسحق معروف. والزحف والزحام والزحار معروفة. والزحل كالزحف، ولكن إلى الوراء، وإنما سمي الكوكب المعروف زحلا لتراجعه في فلك البروج ليلة فليلة إلى أن يختفي. والوحل معروف، لا يتخلص منه الماشي إلا بشده. والرحل دائم الاحتكاك بمتن الناقة، وغير ذلك مما يسهل توجيهه.

              والثاء في أول الجذر توجه دلالته لمعنى التفريق والانتشار ونحوهما. فالثوم لا يكون إلا آحادا متفرقة وإن اجتمعت أسافلها، والثلاثة من العدد جمع شتيت، والثمر آحاد متناثرة، و"ثمّ" العاطفة، لا تقع إلا بين متباعدين مفترقين، و"ثَمّ" التي للإشارة فهي للبعيد الذي "يفرق" بينك وبينه بون شاسع. والثغر معروف، والثروة لكثرة وتفرّق، والثرى التراب، كذلك، والثعل أو الثعلب إما لشعره المتفرّق، أو لجحره تعدد المداخل والمخارج، والثلّ إخراج التراب وتفريقه.

              إن ما نريد أن ننتهي إليه بعد هذا العرض، هو أن لكل صوت من أصوات العربية، معنى يسهم به مع غيره، في توجيه دلالة الجذر الذي يشترك فيه. وأن هذه الأصوات لا تدل على معانيها بطريقة عفوية، أو صطلاحية تواضعت عليها الناس، ولكنها يعبر عنها بموجات تدرك بالسمع فالدماغ. وبعبارة أخرى، إن حركة جهاز النطق عند إخراجه للصوت، يحكي صورة رد الفعل، ولكن بصورة مصغرة، او صورة المعنى عندما يحدث على أرض الواقع. وقد تنبّه القدماء عندما رمزوا للصوت الأسناني المتفشي بالشكل (ش)، فجعلوه أسنانا متفرقة ونقطا ثلاثة. فتفريق الأشياء المعبَّر عنه بالمفردة ـ التي يتصدرها حرف الشين ـ هو انعكاس او تكبير لحركة جهاز النطق عند التصويت بالشين، حيث ينشر الهواء خارجا بين الأسنان واللسان، وإن الشفتين والأسنان لتتخذ شكلا يسمح بتفريق الهواء الخارج عند التصويت، على نحو نجده مكبرا بالفعل، الذي نخبر عنه بالمشتق الذي تتصدر التاء جذره. وهذا لا يعني أنه لا دور للصوتين الثاني والثالث، لا، ولكن الأول، فالثاني هما الأهم، بينما يوجه الثالث الدلالة فحسب. والمسألة تشبه، بل تطابق، الرقم المكون من ثلاث خانات مثل: 967، فالتسعة ليست تسعة، وإنما هي تسعمائة، والستة ستون، كما أننا عند التقريب لأقرب عشرة نقول 970 ونضيف ثلاثة، ولا نكون قد ابتعدنا، وعند التقريب للمئات نقول 1000 ولا نكون قد ابتعدنا كثيرا بالرغم من إضافة 30.

              وعندما رسموا الميم هكذا (مـ) ، فعلى التشبيه بشكل الفم عند التفوه بها، حيث يبدو التضام والانقطاع بقدر ما تبديها المواد التي تتصدرها الميم أو تنتهي بها.

              إن هذه الظاهرة لا تبرز في لغة غير العربية ولهجاتها المختلفة، في تاريخها الذي يمتد إلى ما قبل الطوفان كالآرامية والعبرية والسريانية والبابلية والسبئية والمندعية والعجزية وغيرها.

              فالحروف رموز توضح حركات جهاز النطق من المتكلم عندما يعبر عن معانيه، ورد الفعل من المستمع تكبير لتلك الحركات، إضافة إلى أنه يشكل استجابة للدافع الذي حرّك جهاز النطق بها. تقول: هات (وتمد يدك)، ويرد المستمع قائلا: خذ، (ويمد إليك يده وفيها ما فيها). "هات" هي الفعل، و "خذ" هي رد الفعل، إلى جانب الحكة المواكبة في الحالين، التي تعكس حركة جهاز النطق عند التصويت بأحرف الكلمتين، حيث تمثل الهاء والتاء هواء يد السائل وفراغها، وتمثل الخاء والذال، امتلاء يد رادّ الفعل بالمادة المطلوبة، وذلك في ترددهما وانتشارهما.

              وقد تتم العملية اللغوية بثلاثة من العناصر، حيث قد يُستغنى عن اللفظ المعبَّر به، وذلك في حالة التفكر والتدبر والتأمل، حين يكون الملقِي هو الملقَى له، فيكون الإنسان فيما يشبه الحوار مع النفس، ويضع نفسه في كل من موضع السائل وموضع المجيب، وبه يتحقق أبلغ الفهم، لن المعاني بين الإنسان وذاته لا تكون إلا واحدة ما لم يكن ثمة ما يثير الشك، ويلبس الأمور بعضها ببعض، وعندئذ لا مناص من معاودة التفكير وتقليب أحوال الموضوع.

              وإنما يتم الاستغناء عن اللفظ المعبَّر به، لأنه لا يكون لازما، إلا في إجراء العملية اللغوية بين طرفين مختلفين، ولأنه ليس أكثر من رمز لا قيمة له في ذاته، وواسطة يرجع الفضل فيها لهواء الزفير التافه، الذي يلفظه الجهاز التنفسي. وما سُمي اللفظ لفظا، إلا لأن الإنسان يلفظه ويلقيه خارجا.

              إن الإنسان عندما يفكّر لا يستخدم الألفاظ، ولكن أرواحها، فتتم العملية باستعادة ما يلزم مما ترسّب في الذاكرة، وببعثه مجددا على نحو مترابط، تماما كما يحدث عند إعادة سماع شريط التسجيل، أو كنسخ صورة جديدة عن عفريتة negative قديمة، وكعملية الاجترار عند بعض الثدييات، ولعل أدق ما يمكن أن تُشبّه به، هو العملية التي يقوم بها العقل الإلكتروني عند تقديم معلومات مختزنة.

              إن ردّ الفعل الناجم عن التفكير ليتوالى أثناء العملية اللغوية، فيُختزَن في الدماغ، أو يُمارَس وينعكس على السلوك، وإنه ليجسّد ديالكتيكية تتمثل في التحليل التحليل، وتصعيد التفكير وتعقيده، بكثرة العلاقات التي تحصل بين لبنات الموضوع الذي نفكر فيه. وتمثيلا لذلك بالعقل البشري الحضاري، فإن الأمر يشبه التطور المادي في الصناعات الكهربائية والإلكترونية؛ حيث بدأت بسيطة غير دقيقة، وتحولت تدريجيا إلى عظيمة دقيقة، وما تزال تتحول.

    كيف يضمن حدوث ردّ الفعل

              تتأثر اللغة والسلوك البشري، بوجه عام، بما يترسب على صفحة الدماغ، منما يرثه الإنسان ويكتسبه من المعارف وطرق التفكير، وإن الفعل الذي يعبر عنه بكلماته، ليصدر عن دماغه متأثرا بتلك الخلفية المنطبعة على صفحته، وإن رد الفعل الذي يمثل استجابة غيره له، لينطلق هو الآخر، عن طريق التلقي المعكوس، موجَّها بما تقتضيه الخلفية، التي تتحكم بسلوك ذلك الغير. وإن الفهم أو الاستيعاب، وهما الأصل في أي رد فعل، لا يتحققان ما لم يكن هنالك تطابق في الخلفيتين، على الأقل في مجال الحدث الواحد والمعلومة الواحدة، وقد نمثل هنا بجهازي الإرسال والاستقبال؛ حيث لا تتحقق العملية الاتصالية بواسطتهما، ما لم يكونا مبرمجين بطريقة واحدة متكاملة، تكون البداية في المستقبل، نقطة النهاية في المرسل، والنهاية في المستقبل، هي البداية في المرسل.

              غير أن ذلك في الجوامد أمر ميسور، لأنها لا تعمل إلا طبقا لما توضع له، وبهذا، فنحن نسمع الصوت واحدا من المذياع ... ومن دار الإذاعة، أما في الناس، فذلك أمر عسير، نظرا للتفاوت الذي جُبل الناس عليه، ولاختلاف مشاربهم الثقافية وموروثاتهم، ولكن هوة التفاوت تصغر، كلما كانت العلاقات التي تربط بين الناس وثيقة.

              واللغة هي أداة الخلق والإبداع، ذلك أن اللغة ليست ألفاظا مجردة من معانيها، ولا هي حجارة في جبل لا وجود لها في خاطر، وإنما هي، على العكس من ذلك، معان وحركات وعلاقات، وما الألفاظ إلا رموز نستخدمها في التعبير عنها، وهذا يقتضي منت وجهة نظر منطقية، أن تكون المعاني قبل الألفاظ ... وقد نضرب مثلا للمعاني التي تتأكم في كلمة "سيارة"، تلك المعاني التي سبقت هذه الكلمة إلى ذهن الصانع الذي صممها، إنه دون شك، كان يفكر فيها ويداخل بينها ويلاقحها، ويقلب النظر فيها قبل أن يكون قد فكّر في اسم لها، وهل يكون الاسم قبل المسمَّى؟!

              لقد مر المصمم في ذهنه بمعاني الاستدارة ونقل الحركة والسير (على الأرض المستوية) والسرعة والتوجيه (يمينا ويسارا) والالتفاف، والبعد، ونحو ذلك قبل أن يضع الكلمة "سيارة"، وهذا يعني أن عملية الخلق والإبداع والتطور، إنما تكون بالمعاني والتفكير بصوت منخفض، يشبه إلى حد كبير جدا، عملية التسجيل الصامت، مباشرة من جهاز الإرسال إلى جهاز التسجيل، دون مرور الصوت عبر الهواء إلى لاقط الصوت.

              وتقليب المعاني والمداخلة بينها، من الأمور التي لا بد لها من حافز، وإن الحافز ليكون أعمق أثرا، كلما كان ذاتيا ينبع من الإنسان، فردا كان أو مجتمعا، ولا سبيل تقود الإنسان إلى ذلك ما لم يكن حيا، ولا حياة إلا بجذور، وجذور الإنسان هي موروثه الحضاري، ذلك الموروث الذي يظل يعمل ويوجه ويحرك، ما دامت الصلة قائمة بينه وبين أهله، فإذا صرموا حبله شُلّ وشلّوا، وتوقف الفعل ورد الفعل وتهدم الكيان الفكري، وتصدعت القواعد والأسس وكان الموت الحقيقي، وإن سارت بالذبيح رجلاه خطوات، فالأمر تماما كما قال الشاعر من قبل:

    ليس من مات فاستراح بميت                                  إنما الميت ميت الأحياء

    فهلا أُخرجت اللغة من قفص الاتهام؟ أليس أهلها أولى به؟

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me