An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Tuesday, February 10, 2009
  • ما وراء اللغة
  • Published at:Not Found

  • مـــا وراء  اللغـــــــــــة

     

              نعني  بهذه  العبارة ما  تنبىء عنه اللغة  من خلال التبصر في العلاقات القائمة بين ألفاظها ومدلولاتها،  من أمور كانت وما تزال موضوع مناظرات شتى، كالخلاف حول ما إذا كانت اللغة  توقيفا أو  اصطلاحا،  الأمر الذي نجده في مصنفات ابن فارس، وابن جنى وغيرهما.  وأين تقف العربية  من اللهجات " السامية" بل من

    " لغات"  كثير من الأمم.  إلى غير ذلك من الأمور،  وسننفذ إلى مسارب  هذا الموضوع عبر البحث في ألفاظ الجهات الرئيسية  ودلالاتها والعلاقة بينها.

              لقد تنبه المتقدمون إلى جوانب من العلاقة بين الإنسان  والكون، يحسن أن  توصف بأنها غيبية أو  حدسية،  ذلك أنها قائمة على معارف سطحية،  ويعتذر لهم بقصور عصرهم عن بلوغ مستوى هذا العصر في النبوغ العلمي والفكري.  ومنهم من ذهب إلى أن العالم، أو الكون هو صورة أخرى للإنسان  وأن الأجزاء في كليهما متناظرة ( المقدسي في البدء  والتاريخ)  فالعينان والشمس هما سبيلا الرؤية،  واليدان من الإنسان  هما القطبان من الكون، والقفا هو المغرب والتراب هو  اللحم، والحجارة تناظر العظم،  والماء الدم،  وغير ذلك مما لا يخفى على طالبه ...  وسنكشف، فيما بعد،  عن حقيقة ترشح هذا المذهب.

     

              وإذا كان الزمان فصولاً  أربعة.  وكان بين الفصول ما  ينسب في  طبعه إلى طبيعة الفصلين اللذين يمتد بينهما، وكان الزمان ذا حدود وعلامات  دقيقة من ثانية إلى  دقيقة فساعة فيوم فأسبوع فشهر فعام ...  وإذا كان نهاره غير ليله في طبعه،  فإن المكان أقسام ونواح أربع هي المشرق والمغرب والشمال والجنوب،  وبين كل جهتين  متواليتين جهة،  بل جهات فرعية تنسب إلى كلتا الجهتين تبعا إلى قربها  من إحداهما،   ويقسم المكان درجات طولاً  وعرضاً،  يحدد بها. وتقوم  علامات  عليه كأجزاء الزمان.  وإذا  كان ما بين حَدََََّّّي كل فصلين متواليين من فصول الزمان تسعين يوماً ( أو تسعين وحدة  زمنية)  فإن ما بين حَدَّي  كل جهتين متواليتين تسعون درجة (  أو  وحدة  مكانية).

     

              وقد مثل ذلك في الإنسان حيث تليه أربعة اتجاهات هي القبل والدبر والجنبان،  ويلاحظ القارىء أننا أغفلنا جهتي الفوق والسفل من الكون،  ومن الإنسان،  كما أغفلنا مثل ذلك في الفصول،  حيث هي ستة أيضاً،  ذلك أن التقسيم الشائع قاصر على طبائع الجو نهاراً،  أما  ترى أن ليل الصيف كنهار الربيع،  وليل الربيع كنهار الشتاء الخ.....  ولتوضيح ذلك  نقول:  إن الشمس تمر في ثلاث " محطات" تطوق الأرض  عرضاً  هي  المداران  وخط الاستواء،  فتكون  الطبائع الأرضية  في " حال  ما " عند  مرورها بإحدى  المحطات،   فهي إذاًً "ثلاث أحوال"  غير أن هذه  الأحوال ليست لكل الكرة،  إنما هي  للنصف الطولي المشرق.  فإذا احتسبنا النصف الآخر،  كانت ست أحوال، أي ستة فصول.

     

              وسبب هذا  الإغفال،  أن الكون كري،  وليس في الكرة فوق وتحت،  ثم إن الجهات الأربع تحدد بعلامات تقوم عليها هي المشرق والمغرب، وما عن يمين ممتد ما بينهما وما عن شماله ،  على العكس من الجهتين الأخريين،  حيث لا يقوم الدليل عليهما إلا  بالحساب، وسبب  إغفالنا فصلين،  راجع إلى أن الشمس تمر" بمحطة" خط الاستواء مرتين ينجم عنهما أربع أحوال كل اثنتين منها متشابهتان،  الأمر الذي يسوغ  إغفال اثنتين.  وقل في الإنسان  ما يقال في الكون،  حيث إن  انتشاره على الأرض  كرّي أيضاً. 

     

    وأن التناظر والترابط بين الأربعات السابقة واردان،  وتوجيه ذلك على النحو  التالي:

              الصيف: العامل فيه الشمس المشرقة ( المشرق ) = قبل الإنسان وعيناه.

     

              الخريف: العامل فيه ميل الشمس عن سمت المكان ( جنوب أو شمال)=  جنب الإنسان.

              الشتاء:   العامل فيه ابتعاد الشمس أكثر عن سمت المكان ( غرب ): قفا  الإنسان،  حيث أنها تكون كالغاربة عنه.

              الربيع:   العامل فيه عودة الشمس إلى  وضعها في الخريف ( شمال أو جنوب): جنب الإنسان.

              وتختلف طبائع الفصول،  وكذلك طبائع الجهات ووجهات الإنسان،  وفي بلاد العرب تلتقي معظم الطبائع،  فالشتاء بارد إلا أن تهامة  تكون دافئة فيه،  والصيف حار،  إلاّّ أن المنطقة من الطائف إلى عدن تكون معتدلة فيه،   وأمطار الشتاء تهطل على شمالها إلى وسطها،  وأمطار الصيف تهطل على جنوبها إلى وسطها أيضاً،  ولذلك ،  رأيت أهل وسطها،  ولا سيما أهل مكة يتجهون للتجارة في الشتاء جنوباً إلى اليمن،  وفي الصيف شمالاً  إلى الشام،  ليس  اتقاء للمطر أو البرد أو الحر وحسب،  ولكن طلباً  للمحاصيل التي تنتجها تلك البلاد،  عقب موسم المطر السابق على أوان الرحلة،  ولذلك منّ الله عليهم أن سخر لهم تلك الطبائع في قوله: ]لإيلافِ قُرَيشٍ إيلافِهِمْ،  رِحْلَةَ الشِِّتاءِ والصَّيْفِ،  فَلْيَعْبُدوا رّبَّ هذا البَيْتَ،  الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوْعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[. صدق الله العظيم.

     

              أما اختلاف طبائع الجهات،  فليس أدل عليه من  ملاحظة ما يحدث فيها،  فالشرق  مبعث الضوء والنور من الشمس والقمر على التوالي،  ومبعث  المعرفة والإلهام  والوحي والفلسفة التي تضيء الروح وتسمو بالإنسان،  والغرب  مغرب الشمس،  ومصدر الظلام  ومصدر المادية التي تجذب الإنسان إلى الأرض.

     

              أما الشمال  والجنوب،  فالاختلاف بينهما ظاهر في تقاطيع الأرض وتضاريسها فاليابسة في نصف الكرة الجنوبي أقل بكثير من الماء فيه، ومن اليابسة في النصف الشمالي، وطبائع الأرض أو البحر هنا وهناك  ليست واحدة،  أما ترى العلماء يقولون: إن حيتان نصف الكرة الجنوبي لا تنتقل إلى  نصفها الشمالي.  أما السماء،  فنجوم النصف الجنوبي غير نجوم النصف الشمالي،  سواء في توزيعها أو في لمعانها أو غير ذلك.  وقل مثل ذلك في طبائع الجهات،  ولنأخذ  مثلاً  لذلك بلاد العرب  وهي مقصودة بهذا الأمر دون غيرها، حيث  إن  جنوبها خير من شمالها في طبيعته،  وإن الرياح التي تهب من جنوبها خير من التي تهب من شمالها،  وهذه  مسألة اتبناها وأدافع عنها بالدليل الحاسم.

     

              أما  جوانب الإنسان الأربعة فهي كسابقتها في  اختلاف طبائعها،  وفي ما أوجده الله  فيها من جوارح .  ففي قبله  عيناه:   وهما شمسه،  ومعظم حواسه،  وسبيلاه إلى التناسل  والبقاء.  وفي قفاه "مغرب"  شمسه حيث لا يُرى ولا يُرى ما يليه،  إلا  بمرآة  تكون كالقمر إذا حجب الأفق الغربي الشمس.  وفي شقه الأيمن كبده ومرارته بينما قلبه في شقه الأيسر،  ويمناه (  جنوبه ) خير من شماله (  شماله )  على  نحو ما سنفصله فيما بعد.

     

              والفصول  والجهات والطبائع أمور نسبية، فما هو إلى الشمال منك يكون إلى الشرق من غيرك أو إلى الجنوب منه،  وهكذا،  وما هو عن  يمينك يكون،كذلك، عن يسار غيرك أو من ورائه، والصيف هنا ربيع هناك . وشتاء هنا وصيف هناك ، وحر هنا وبرد هناك وهكذا ، وكذلك الزمان ممثلا في جزئه الأعظم ، وهو اليوم ، بليله ونهاره فالساعة الآن السابعة صباحا ، هنا ، وهي السابعة مساء ، هناك ، أو أقل ، أ و اكثر ... فالآن ليل ونهار ، وما الزمان إلا ليل ونهار متحركان أبدا . وسبب انتظامهما وازدواجهما هو أنهما يتحركان على محيط دائرة ( الكرة عدد ضخم من الدوائر ) ولولا ذلك لكان الزمان أكثر من يوم وليلة . وأنت ترى أن بين كل اثنين متواليين من الفصول أو الجهات أو الليل والنهار ، أو الطبائع ما ينسب إليهما ويأخذ منهما كالحال آخر النهار إلى دخول الليل ، آخر الليل إلى ارتفاع الشمس فوق الافق الشرقي، حيث لا يكون الضوء خالصا ، ولا الظلمة خالصة ، وإنما هي ظل من ضياء وظلمة . ويمكن القول عقب ذلك كله أن لكل من الأربعات السابقة حدين اثنين و حسب ، وما الاثنان الآخران إلا حلقتا وصل بينهما ، فيهما من طباعهما ما يجعلهما وسطا بينهما ، غير انهما تتدرجان ففي طبعهما بنسبة الى مبدأ الحركة فيهما تجارة ما يليهما . ويسهل تصور ذلك بالتمثيل بالليل والنهار أي الظلمة "الخالصة " والضوء "الخالص" ، حيث يربط بينها ظل الفجر الى الشروق وظل الطفل إلى  الغروب. والظل خليط من الضياء والظلمة، غير أن بداية ظل الفجر أدنى إلى الظلمة ،وبداية ظل الطفل أدنى الى النور ويزداد الضوء في ظل الفجر كلما دنا الشروق ، وكذلك الظلمة في ظل العشيّ  كلما دنا الغروب حتى يستحيل الأول ضياء ، فيكون النهار ، والآخر ظلمة فيكون الليل .

     

    وسنتعقب، فيما يأتي ،الألفاظ التي تعبر عن الجهات الأربع ،وما يناظرها في بدن الآدمي ، وما توحي به العلاقات بينها وبين نظائرها ومدلولاتها من علم وحقائق.

     

    ألفاظ  الجهات هي الشرق أو المشرق ، والغرب أو المغرب ،والشمال والجنوب ونظائرها في الخلق الآدمي القبل او القدام ، والدبر أو الخلف  والجنب الأيمن والجنب الأيسر أو  الأشأم.

     

              وقد ظهرت الألفاظ التي يعبر بها عن الجهتين المعلَّم  عليها بالشمس  قبل غيرها،  ذلك أنها تعكس دلالتين تقعان على حدثين ليس أجل  منهما في أثرهما،  وهما  إلى ذلك يمثلان الحياة والموت،  ونقصد بهما  الشروق والغروب.  وأنت  ترى أن اثنتين منهما صيغتا  في مبنى اسم المكان،  حيث يعلم بالموضع أو الاتجاه الذي يكون منه شروق الشمس،  على جهة الشرق،  وبالموضع أو الاتجاه الذي يكون فيه غروبها على جهة الغرب.   وكل مادة تبدأ بشين فراء فيه تنصرف لدلالة تقع على معنى الخروج والظهور وكل مادة تبدأ بغين فراء أو غين وحسب  فهي لدلالة تنصرف  لمعنى  الاحتجاب  والاختفاء،  ولك أن تقلّب ما في ذاكرتك  من المفردات لتقف على هذه الحقيقة.

     

              ولما كان  اعتماد الإنسان قديماً  على حسه أكثر من عقله،  وكان الشروق والغروب يُدْرَكان بحاسة البصر،  وكانت هذه الحاسة أشد الحواس توجيهاً للإنسان  وتأثيراً  على معارفه وعلومه،  فقد أدى ذلك إلى ظهور تلك الألفاظ في اللغات منذ أمد بعيد  وقبل الألفاظ التي يُعبر بها عن الشمال  والجنوب(1).

     

              وكان  الناس والعرب أقصد،  يعبرون عن جهتي الشمال والجنوب دائماً،  وغيرهما أحياناً، وبالظروف المبهمة مضافة إلى علم ما،  كأن يقولوا:  دون كذا،  أو قِبلَ كذا،  وتِلقاء كذا ( تلقاء مدين)  وشطر  كذا  ] شَطْرَ الَمسْجِدِ الحرام[  وعن يمين أو شمال كذا...  الخ،  ويدلنا  على هذا،  أن أدب الجاهلية وصدر الإسلام،  والقرآن الكريم جاءت خالية من ألفاظ مفردة يعبر بها صراحة عن تينك الجهتين،  على العكس من الجهتين الأخريين.  ذلك أن الشمال والجنوب إنما يُدْرَكان بالحساب،  ثم أنهم كانوا يعبرون عنهما بذكر  الجَدْي أو الحوتِ للشَّمال،  وسُهيل  للجنوب،  كأن يقولوا شِقّ  الجدي،  أو اتجاه الحوت أو نحو ذلك،  غير أن هذا الأسلوب قد ظهر عقب الإسلام،  وأكثر وروده في كتب  الحُسّاب  والرحّالة من الجغرافيين،  وقد يبادر قارىء فيقول: " إن كلمتي "  الشَّمال والجنوب" كانتا  معروفتين عند العرب قديما،  فأقول نعم،  لكن لدلالتين مختلفتين،  على نحو ما سنبينه فيما بعد.

     وقد استخدم العرب في التعبير عن الجهتين اللتين يعبر عنهما بطلوع الشمس وغروبها الألفاظ التالية:

    (أ‌)       " شرق " وقد وردت منسويا إليها  في القرآن الكريم حيث قوله تعالى: ] وَاْذْكُرْ في  الكِتَابِ مَرْيَمَ إَذِ  انْتَبَذَتْ  مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيّاًً [ (2).

     

    (ب‌)     "غرب"  وقد وردت منسوبا إليها في القرآن الكريم أيضا،  حيث قوله تعالى: ] وَمَا كُنْتَ  بِجانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ  قَضَيْنا إلى موسى  الأمْرَ[ (3).

              (ج،د)      المشرق  والمغرب،  وقد وردا في قوله تعالى: ] ولله  المشرق والمغرب فأينما تولوا  فثم وجه

                          الله،  إنّ  اللّه واسع  عليم[(4)  أي ما فيهما.

              (هـ،و)     المشرقين  والمغربين،  وقد  وردا في قوله تعالى: ] ربّ  المشرقين وربّ  المغربين[(5)، 

                          وقد قيل هما مشرقا الشمس ومغرباها صيفاً وشتاءً.  وقيل: بل هما مشرقا الشمس

                          والقمر ومغرباهما(6).

              (ز،ح)  المشارق والمغارب،  وقد وردتا في قوله تعالى: ]وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق                                           الأرض ومغاربها[ (7)،  قيل هي مشارق الشمس ومغاربها في أيام السنة،  وتكون ما بين مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ، وهي  نحو من ثمانين ومائة مشرق ومغرب(8)،  وقد كثر استخدام هذه المفردات بعد الإسلام  تأثراً بالنص القرآني،  ولا سيما عقب اتساع الدولة الإسلامية، ومن ذلك قول أسماء بن خارجة الفزاري:

                                                                                                        سريع

    ما أصبحت في شرّ أخبية            ما بين شرق  الأرض  والغرب.(9)

                                                                                                   

     

     

     

    ومن ذلك قول عوف بن محلم يمدح المأمون:

          رجز

    وابن الذي دان له المشرقا  م                  ن طرّاً،  ودان له المغربان.

     

              ويناظر المشرق في العبرية       مزراح،  وأراه قريباً  من  "مسرح" بجهر السين  لتوائم  شدة الضوء،  أي حيث تبدأ الشمس سروحها،  وفي التجربة cherqa وهي سواء والشرق.  أما "المغرب" فيناظرها في العبرية

     معراف،  وفي السريانية:  معربا،  وفي هذا التناظر إشارة إلى  اتفاق " الساميين"  في اشتقاق الكلمات الدالة  على تينك  الجهتين  من  مادتي " شرق وغرب" في معظم لغاتهم.

              أما  الكلمتان: شمال وجنوب فلم تعرفا لدلالتيهما  على  الجهتين  اللتين تنحوان  تجاه القطبين متعامدتين  مع جهتي المشرق والمغرب – إلا بعد القرن الهجري الثاني بعد ما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية،  واستقر العرب في البلدان المفتوحة،  ونشطت حركة التعريب والترجمة،  مما أدى إلى ضرورة البحث عن لفظين يخصان بتينك الجهتين،  سواء كان ذلك ناجماً  عن حاجة الناس  إليهما في تحديد المواقع، أو نتيجة لازدهار  علم الفلك.  وقد تمخض عن ذلك التحول إلى استخدام الكلمتين ( شمال وجنوب) لدلالتين تجاوران دلالتيهما على الريحين اللتين تهبان من قبل الشام واليمن: الشمال والجنوب.

     

              لم ترد هاتان الكلمتان في شعر الجاهلية وصدر الاسلام لدلالة على غير الريحين اللتين تهبان من قبل اليمن والشام.  ولم تردا في القرآن  الكريم قط  وأول ما وردتا لدلالة على الجهتين في أنواء ابن قتيبة المتوفى سنة 286هـ  وإنما كان عرب الجزيرة يعبرون عن تينك الجهتين بمنسوب أو ذي علاقة لفظية بالشام واليمن.  وقد تغيرت دلالتا الكلمتين،  وانفتق إطارهما فأصبحتا تستوعبان الجهتين إلى جانب الريحين المذكورتين، ذلك لعلاقة الظرفية،  حيث إن الجهتين هما مهباهما.  كما عبروا عن الجهات بذي علاقة بالشام واليمن،  ثم باسمي الريحين،  فقد عبروا عن الريحين بذي علاقة بالشام واليمن،  فقالوا نسبة: شآمة ويمانية،  وهما نعتان أقيما مقام موصوفيهما وسترد شواهد ذلك فيما بعد.

     

              وقد قرن العرب بين ريح الشمال وما يتشاءم به،  وبين ريح الجنوب وما يتفاءل به.  وأسوق فيما يأتي جملة من الشواهد توضح ذلك،  قال أبو كبير الهذلي:

                                                                                             طويل

    إذا كان عام مانع القطر ريحه                           صباً   وشمال قرة  ودبور (11)

    حيث عد الشمال في الرياح، ومنه قول عدي بن زيد:

                                                                                            (خفيف)         

    وحبيّ بعد الهدوء تزجّيه  م                    شمال كما يزجّي الكسير (12)

     

             

     

     

     

    حيث أسند سوق السحاب للشمال أي لريح الشمال،  ومن ذلك في ريح الجنوب قول حميد بن ثور:

                                                                                            (طويل)

    ليالي أبكار الغواني وطرفها                    إليّ،   وإذ ريحي لهنّ جنوب(13)

     

    ومنه أيضاً قول عدي بعد البيت السابق:

     

    فاستدرّت به الجنوب  على أل  م             حزنة فالحنو، سيره مقصور.

    حيث أسند مري السحاب واستدرار المطر للجنوب.

     

              وأنت تلاحظ أن الشواهد الأربعة السابقة تنطق بحقيقة تتمثل في ربط ريح الشمال بالقحط  وسفر السحاب،  والبرد،  بينما لم تذكر ريح الجنوب إلا مع ما ينسب إلى الخير والغوث،  لذلك نعت حميد بن ثور ريحه بأنها جنوب،  كناية عن المواتاة، ولذلك ايضا ، قال عدي بن زيد " فاستدرت به الجنوب "حيث شبه فعل ريح الجنوب بالسحاب بفعل الرجل اذا استدر الناقة لحلبها . ونحن نعلم أن المطر كان ـ وما يزال _ أبرز العوامل التي تحكمت في حركة الإنسان وتوزيع جماعاته ليس في الجزيرة العربية وحسب ، ولكن في شتى بقاع المعمور.  ومما يؤكد ما ذهبنا اليه قول لبيد بن ربيعة العامري :

                                                                                         (كامل)

    مرت  الجنوب له الرّباب بوابل      ومجلجل قرد  الرّباب  مديم  (14)

              حيث  أسند  مرى السحاب إلى الجنوب،   ومما يدل على ذلك أيضاً،  أنهم سموا بناتهم بتلك الريح لاقترانها باللين والخير.   

    ومن ذلك  جنوب بنت  العجلان(15)،   وجنوب  الهذلية الشاعرة(16)،   وجنوب  صاحبة  عبد  الله  بن سلمة الغامدي،   وقد ذكرها في شعره حيث قوله :

                                                                                            (وافر)

    كأن بنات  مخر  رائحات           جنوب ، وغصنها الغضّ  الرّطيب  (17)

     

              ومن  الشواهد  التي تعكس  موقفهم من ريح الشمال،  ذلك  الموقف المقترن بالكراهية  والتشاؤم -  قول طرفة بن العبد البكري:

                                                                                                    (طويل)

    فأنت على الأدنى شمال  عريّة                          شامية  تزوي الوجوه بليل(18)

     

              حيث شبهه في  إضراره بأقربائه  بريح الشمال الباردة التي تقشع السحب وتحول دون المطر،  وتضطر المرء إلى أن يزوي وجهه اتقاء لها.

              وتوجيه  ذلك جغرافيا،  أن ريح الشمال تهب شتاء،  وتكون باردة،  وغالبا ما يصاحبها القحط والجدب،  ذلك أن السحب التي تقلها،  ما أن تبلغ أطراف الجزيرة الشمالية حتى  تكون قد هراقت ماءها على السواحل الشرقية الجنوبية من البحر المتوسط فيخف السحاب،  وتنخرق الريح مسرعة،  فيزداد البرد، ويتأزم الحال،  ذلك أنها تضيف إلى شح المطر بردا شديدا. أما الجنوب،  فهي على العكس من ذلك، إذ تهب صيفاً،  أي في الفترة التي تهطل فيها الأمطار الموسمية على جنوب الجزيرة العربية،  إلى مكة المكرمة (19) .  فبالإضافة إلى ما يصاحبها من مطر عادة،  فهي تلطف الجو.

     

              غير أن العرب قد نسبوا الفضل في المطر إلى الرياح،  ذلك أنها تأتي بالسحاب فذهبوا إلى أنها تستدرها،  بل لقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث اعتقدوا أن الرياح تلقح السحاب،  ومن ذلك الرياح اللواقح،  وهي التي تسبق المطر،  والريح العقيم،  وهي الشديدة التي تسفر السحاب،  وما ذلك إلا من المجاز،  وقد ورد شيء من ذلك في القرآن الكريم حيث قوله تعالي: " وأرسلنا الرياح لواقح"(20) وقوله: " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم"

    (21) ومن قبيل ذلك أنهم نعتوا الرياح بما تنعت به الماشية في هذا المجال،  فقالوا: ريح حائل،  والحائل من الإناث التي لم تعشر وقد انصرم أوان النزو.  قال الطرماح بن حكيم:

                                                                            (مجزوء الكامل)

    قلق لأفنان الرّياح م                   للاقح منها وحائل (22)

     

    وقال النابغة الشيباني:

                                                                                          ( كامل)         

    مرّ الدهور مع الشهور تنوبها                         ومن الرياح لقاحها وعقيمها (23)

    وقال  كثيّر عزة:

                                                                                          (طويل)

    إذا مستثابات الرّياح تنسّمت                 ومرّ بسفساف التراب عقيمها.(24)

     

    ريحا الشمال والجنوب، والإنسان:

    لهاتين الريحين،  بل للريح بعامة،  علاقة بالإنسان ذات شعب كثيرة،  وأبرز الرياح أثراً في حياة العرب في جزيرتهم،  هما تانك الريحان،  وإن أخطر ما يكشف علاقة الريح بالإنسان،  هو ما يعبر به عن الإنسان من أسماء هي في الواقع مشتقات مما يعبر به عن الريح من مواد اللغة.

              فالإنسان روح:  وقد عرضنا هذا الموضوع في حديثنا عن الحركة والحياة، والريح أصلاً "روح" ثم قلبت الواو ياء،  بدليل الجمع " أرواح"، إذ تصدق في جمع الروح والريح.  قال النّمر من تولب في جمع الريح:

                                                                                         (كامل)

    وبوارح الأرواح كل عشية                      هيف تروح وسيهك تجري (25)

    أي: الرياح الحارة التي تهب في النصف الثاني من النهار.  قال رؤبة ابن العجاج:

    ( رجز)

     

    تنفحه الأرواح والبرق الشري (26)

    أي سوقه من مكان إلى آخر.

     

    والإنسان نفس والريح نفس: يقال في التعداد سبع أنفس  ونحو ذلك.  وقال إسحق بن خلف البهراني في الريح:

                                                                 ( مجزوء الكامل)

      وكأنّما ذرّ الهباء عليه أنفاس الرّياح (27)

    أي: كأن الرياح قد أثارت عليه الغبار الدقيق،  وإضافة الكلمة للرياح من قبيل إضافة الشيء إلى مرادفه أو ما هو في معناه.

     

    والإنسان نسمة والريح اللطيف نسيم أو نسمة: ومن ذلك في الريح قول الشاعرة:

                                                                                            (طويل)

    وهبّت له ريح الجنوب وأنشرت              له ريدة يحيى الممات نسيمها (28)

    وأنشرت: هبت مساء،ريدة: لطيفة طيبة.  وقال الطرماح:

                                                                                     ( مديد )

    ليلةً،  هاجت جماديّة                ذات صرّ جربياء النّسام (29)

    أي : ريح شمالية باردة الأنسام.

     

              ولا غرابة في الأمر،  اذ ما الريح والنفس والنسيم إلا هواء متحرك،  والهواء المتحرك في مجراه من الجهاز التنفسي هو سر الحياة.  وما أشبه الروح بالهواء(الريح) في اللطف والخفة والأهمية.  الهواء لا يكون ريحا إلا بالحركة،  والإنسان لا يكون  ذا روح إلا بالهواء المتحرك  في مجراه الطبيعي منه.  وليس الهواء نسيماً  ولا نفساً إلا بالحركة،  وكذلك  الإنسان فهو لا يحيا إلا بهما  ما  تحركا في مجراهما منه.

     

              وتخرج روح  الإنسان فلا تعود نفساً ما لم تتنفس فيه الريح،  أو يتنفس هو الريح،  وتخرج روح الإنسان فلا يعود  نسمة ما لم تتحرك فيه الأنسام.

              وهذه  الحقائق ترتد بنا إلى ما شبه بعض المتقدمين الإنسان به،  حيث قيل إنه نظير الأرض وما حولها.  فالعينان شمسه،  والأرض بطنه،  وما يليه تحته،  وهكذا الأمر  الذي يسوغ القول أن حيز الغلاف الغازي- رئتاه والهواء المتحرك روحه،  والفضاء فوق ذلك هو الفجوة حول عنقه أو عنقه.  والهواء ألطف العناصر الأربعة،  والروح ألطف ما في الإنسان،  وكذلك نفسه.

              وارتباط  دلالات المفردات السابقة بمعنى الحركة،  يكشف عن حقيقة فطرية ذلك أن الهواء الساكن سرعان ما يفسد فلا يعود صالحا،  ويفقد صلاحيته للإستنشاق  واستمرار الحياة.  ولذلك كانت التهوية ضرورية جداً،  وما التهوية إلا "  تحريك"  الهواء  باستبداله.   وكل متحرك ذاتيا  حي (30).  أو صالح للحياة،  من حيوان أو نبات أو نحوهما والماء المتحرك – الجاري – لا ينجس ولا يتغير،  أما  الراكد فإنه  سرعان ما يتغير،  والإنسان المتحرك  والمجتمع المتحرك يحملان الدليل على حيويتهما.

     

              ولست أظن أن الإنسان هو الذي رسم ما سبق أن وضحته من علاقة بينه وبين الهواء المتحرك،  أو أنه  هو  الذي قام بتوجيه تسمية الروح والنفس والنسمة،  أو أن الصدفة كانت من وراء ذلك.  ربما كان له أثر في بعضها،  لكننا نستبعد أن يكون له أثر في بعضها الآخر.

     

              وتبرز  العلاقة بين الإنسان والهواء في كلمة أخرى وفي دلالتهما.   وهي  الجُشْأَةُ(31)  وتعني الريح التي تهب قبل شروق الشمس،  آخر الليل،  كأنه تجشأ بها.  وجشأة  الإنسان تخرج من ظلمة  جوفه.  وهذه خارجة  من ظلمة الليل.  غير أن هذه الكلمة لا تشير إلى أبعاد عميقة  كتلك التي  أشارت إليها  المفردات السابقة،  ذلك أنها مجازية الدلالة.

     

              ومما  يوضح أهمية الهواء للإنسان – ونحوه – هو أن الهواء  يمثل المجال الرئيسي الذي يستطيع الإنسان أن يتحرك  ويباشر عمله فيه،  كما أنه المجال الرئيسي الذي تباشر أخطر الحواس نشاطها فيه،  أعني السمع والبصر والشم،  فهي،  ولا سيما الأوليان،  لا يمكن أن  تعمل عادة إلا في الهواء.

     

    ريحا الشمال والجنوب وما يرادفهما:

                                                   

              تسمي العرب ريح  الجنوب  " اليمانية " وأكثر  ما وردت في آثارهم  هو أن  تنسب للسرعة، وقد تكون كذلك قبل المطر أو بعده.  قال أبو ذؤيب الهذلي:

                                                                                       (وافر)

    ولا متحيّر باتت عليه                   ببلقعة يمانية  نفوج (32)

    أي سريعة،  وباتت عليه:  إما بالمطر أو بما تذروه عليه  من قمش الأرض  ودقاقها.  وقال شبيب  بن البرصاء:

                                                                                             (طويل)

    وحتى رأيت الحيّ  تذري عراصهم               يمانية  تزهى الغمام دروج(33)

    أي  تثير الغبار.  وتزهي الغمام:  تذهب به وتبدده.

    دروج:  مسرعة  وإنما سميت يمانية نسبة إلى اليمين،  لأنها  تأتي  من قبل اليمين، وهذا  من باب نسبة الشيء إلى  جهته.

     

              وكذلك الحال بالنسبة لريح الشمال،  حيث سموها شآمية،  لأنها تهب على بلاد العرب من قبل بلاد الشام (34).  كما  تسمى أيضا "الشّمل"  ومن ذلك قول  مالك بن الريب:

                                                                                                  (متقارب)

    ثوى  مالك ببلاد العدوّ                   وتسفي عليه  رياح  الشّمل (35)

    أي  تسفي عليه الرمل والتراب.  وهي الشّمال،  ومن ذلك قول الكندي:

                                                                                          (طويل)

    فتوضح  فالمقراة لم يعف رسمها      لما نسجتها من  جنوب  وشمأل (36)

    أي:  امحت آثارها بما جاءت به ريحا الشمال والجنوب من غبار.

    وهي  الشأمل أيضا،  ومن ذلك قول أحد بني العنبر في نخلة:

                                                                                              (طويل)

    تدحّى  وتسمو في السماء برأسها             وإن هبّ يوماً شأمل لم تحلّل.(37)

     

              أي:  ريح  الشمال،  وخصها لشدتها،  وفي ذلك بيان لقوة النخلة  وقدرتها على المقاومة.  وأنت ترى أن المفردات التي يعبر بها عن الريح  التي تأتي من قبل بلاد الشام وهي ( الشمال،  وشمل،  وشأمل، وشمأل) من مادة واحدة، بإسقاط الهمزة  من الأوليين إن كان ذلك هو الصواب،  وسنناقش هذه المسألة فيما بعد.

     

              وأود  هاهنا أن أشير إلى العلاقة اللفظية بين الألفاظ السابقة  وكلمة "الشّمال" التي تطلق على اليد اليسرى،  فهي جميعا من مادة "شمل" فيما  قد يبدو.  ويناظر  هذه العلاقة اللفظية علاقة  دلالية  معنوية بينها.   فقد تبينت أن العرب كانت  تكره ريح الشّمال  وتتشاءم بها،  ولم  تذكرها بخير،  ذلك أنها  تسفر السحاب،  وتأتي ببرد شديد،  وقلما  تجىء بالمطر،  كما  تكره الشِّمال  وتعبر بها عن المعاني  المكروهة كما سترى.

              أما الجنوب،  فكانت محببة إليهم،  وقد سبق أن ذكرت  شواهد لذلك،  وأضيف هنا دليلاً آخر  على تيمنهم بالجنوب ومكانتها القريبة من أنفسهم،  ويتضح ذلك في إطلاقهم عليها اسم "  النُّعامى" وهو مشتق من المادة "نعم" ومنها النعمة والنعومة  والنعيم،   وهي لمعان محبوبة،  أما  تراهم يسمون  بناتهم " نعيمة  بل أما  ترى الله أسمى نفسه (المنعم)؟ وأضاف جنته للنعيم قال أبو  ذؤيب الهذلي في سحابة:

                                                                                          ( وافر)

    مرتها النّعامى  فلم تعترف           خلاف النّعامي  ، من الشام ريحا.(38)

     

              أي:  استدرت ريح الجنوب تلك السحابة،  ولم  تعرض لها ريح غيرها،  قادمة من قبل الشام فتسفرها.

     

              ومن أسماء الجنوب:  الخزرج(39)،  وقد  وردت لعلاقة بالمطر في شعر أبو ذؤيب الهذلي، وهي

    " الأزيب" بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تعالى ريحاً اسمها  الأزيب،  وهي فيكم الجنوب"(40)

    والأزيب:  الرجل الناشط إلى عمله(41).

     

    الشمال واليمين:

     

    تنصرف كلمة "شمال" في العربية إلى دلالة تقع  على ما ينسب إلى شق البدن  الأيسر،  ما كان منه، أو فيه،  كاليد، أو يليه  من الأجسام أو الجهات، إضافة إلى الدلالة على ما يكره  وما يكنى به عن  الإثم  والخسران. ونحو ذلك،  أما اليمين فهي لعكس ذلك في كل شيء،  وليس هذا الأمر عند العرب وحدهم،  بل هو عند غيرهم من الشعوب،  وسنبين جانباً من ذلك في حينه،  والشواهد لذلك في العربية أكثر من أن تحصى،  وإليك  تفصيل ذلك في القرآن الكريم وآثار العرب:

     

     

     

    (أ‌)       شواهد ارتباط اليمين بالفلاح والحق  والخير: قال تعالى: ] وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين[  (42) حيث جاء بعده قوله ] في  سدر  مخضود  &  وطلح  منضود&   وظل ممدود &وماء  مسكوب & وفاكهةكثيرة & لا  مقطوعة ولا ممنوعة & وفرش مرفوعة& [  إلى آخر  الآيات،  مما يشير إلى فلاحهم  وأنهم  أريد بهم خيراً.

     

     

    والميمنة  هي اليمين،  مفعلة منها،  اسم مكان،  ومنه قوله تعالى: ] أصحاب  الميمنة & ما أصحاب الميمنة & [ (43) إذ المقام لبيان مكانتهم عند الله ........ وبمعنى أصحاب البركة والسعادة ،  ومن ذلك قوله تعالى ] فمن أوتي كتابه بيمينه  فأولئك يقرءون  كتابهم (44) [ كناية عن  السعد وحسن العاقبة.

     

    (ب) شواهد ارتباط اليمين بالقوة: قال تعالى:     ] والسّموات مطويات بيمينه،  سبحانه وتعالى عما يشركون [(45) المراد باليمين  القدرة، والقوة، لأن اليد – اليمنى – هي أداة القوة ،  ومن ذلك قول الشماخ بن ضرار، يمدح عرابة   الأوسي:

                                                                                          (وافر)

    إذا ما راية  رفعت لحرب                   تلقاها عرابة  باليمين. (46)

       (ج) ونتج عن ذلك أن انصرفت " اليمين" إلى معنى الحلف والقسم،  ذلك أن القسم انما يكون تأكيداً  للعزم،  والقوة سبيل إنفاذ ذلك،  واليمين اليد هي الأداة،  ويرشح ذلك، بل يؤكده، أن العرب كانت تبسط أيمانها عند التحالف أو الحلف والقسم.

     

              أما الشّمال فهي لعكس ذلك في العربية،  ويكنى بها عن الخسران،  بدليل قوله تعالى: ] وأمّا من أوتي  كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابية [ (47) لأنه يعلم أن  ما فيه شهادة بقصوره وباستحقاقه العذاب الأليم،  فهو يتمنى لو لم يتسلمه.

              ثم أما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتناول الطعام والشراب باليمنى  دون اليسرى (الشمال) لأن  الشيطان يستخدمها في ذلك،  والشيطان رمز الشر.  وأنه نهى عن استخدام اليمنى في الاستنجاء  والاستجمار،  وأنه حبذ   النوم على الشق الأيمن دون الأيسر،  وأنه أمر بتسجية الميت عليه،  أيضاً.    ثم أنك إذا صليت داخل   الكعبة   استقبلت ركنها اليماني،  دون سواه.  أو  ما  ترى أن القلب في الشق الشمال،  وأنه كما يقال – مصدر العاطفة وهي القائد إلى المراتع الوخيمة ما لم توجه.  وأن الشارع أمر بقطع يمنى السارق لا يسراه،  لأنها كانت أداته في سرقته.  وأن الناس تنكر العسر  في الأيدي وتعده عيبا. ومما يرجح ما أسلفت أن العرب كانت تتطيَّر بالبارح  من الطير،  وهو ما جاء عن شمالك،  وتتفاءل بالسانح،  وهو ما جاء عن يمينك،  والبارح في مبنى الفاعل من (برح) لدلالة تقع على معنى الشدة والكراهة،  والسانح في مبنى الفاعل من (سنح) لدلالة تقع على المواتاة،  ولهذا فقد  كنى العرب بطير الشّمال عن المكروه وما يتمناه المرء لعدوه  ،  ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:

                                                                                            (  طويل )

    زجرتُ له  طير الشمال فإن تكن          هواك الذي تهوى يصبك  اجتنابها (48)

    أي أردتُ به مكروها.   فإن كانت  تحبك حقاً،  فإنها  لن تبخل عليك، وستواتيك. وقد عبر عن ذلك بالاجتناب.  أي  هبوب ريح الجنوب،  كناية عن المواتاة.

     

    نخلص مما سبق إلى تقرير ما يلي:

    (أ) الشَّّمال:  ريح مكروهة وليس لها فضل الجنوب.

    (ب) الشِّمال:  هي اليد يكنى بها عن الخسران،  وليس لها فضل اليمين.

    (ج) كلتا الكلمتين  مشتقة من المادة (شمل) فيما يبدو.  وسنناقش  هذه المسألة فيما بعد.

    (د) الجنوب:  ريح ذات فضل،  والعرب تتفاءل بها.

    (هـ) اليمنى ( اليمين): هي اليد التي يكنى بها عن الحق  والخير والقوة،  ويتفاءل بها.

     

              وتقفنا الدراسة المقارنة بين العربية وبعض "الساميات" في مجال الألفاظ التي تخص بالجهات على حقيقة مهمة،  حيث التناظر  قائم بينها جميعاً،  وباستثناء كلمة "شمال"  ويناظر الشمال في العبرية  سمؤل،  وفي السريانية

               :  سمولو،  ويناظر اليمين في العبرية يمن وفي السريانية          يمنا.  أما الجنوب، الجهة   وليس الريح،  فقد استخدمت كلمتا:  "   تيمن   وتيمناً"   في بعض النصوص  الجغرافية  العربية للدلالة عليها،  ومن ذلك أن الهمداني (49)  أطلق على الجهة التي تهب منها ريح الجنوب اسم التّيمنا.  وقال اليعقوبي (50): " ومهب الجنوب القبلة – وهو مطلع سهيل الذي يسميه الحُسّاب  التّيْمَن".  يريد سمت قبلة أهل العراق،  أراد بالحُسّاب الفلكيين  والمنجمين.  ولعل في ذكره الحسّاب إشارة إلى أثر الترجمة،  وإلى أن هاتين الكلمتين في صورتيهما تينك من العربية.  ويناظرهما في دلالتهما اليمن، وهي جميعا من مادة واحدة هي (يمن).  ومنها ، لذلك ، اليُمن واليمين.  إذا،  هل لليمن  والتيمن علاقة بما أوضحنا مما تمتاز به ريح الجنوب التي تهب من قبل اليمين ( أو اليمانية في بعض النصوص) وما تمتاز به اليد اليمنى من فضل على الشمال،  واتصاف بما يستحب ويتفاءل به؟  أليست " اليمين   والمفردات  السابقة"

     " اليَمَن   والتّيْمَن والتّيْمَنا"   مشتقة من المادة (يمن)؟ أليس " اليُمْن" هو الجامع اللفظي والدلالي بينها جميعها؟  ذلك أنه ينصرف للدلالة على البركة  والفضل والفأل الحسن،  وأنها  لمعان تدور في إطار تلك الدلالة.

              لكن ما العلاقة بين " الجنوب"  الريح، والجنوب الجهة " واليمين  واليُمن  واليَمَن  والتيْمَن"؟  لقد سبق أن أوضحت أن العلاقة المعنوية قائمة على نحو بين وجذري،  وقد بينا فضل اليمين من قبل في بضع   نقاط،  أما اليمن،  فهو مهب ريح الجنوب – وقد بينا فضلها سابقاً -     فقد كان – وما يزال – بلداً   طيباً خصباً.  وقد سماه الإغريق باليمن السعيد ...... وفي القرآن أخبار عن  طيبه حيث  قوله تعالى ] لقد  كان  لسبأ في مسكنهم آية [ (51)   وفي الأخبار   والسير والتراث  الأدبي ا لعربي مما يشهد بذلك كثير.  ولذلك كانوا يقصدونه للتجارة شتاء.

     ومما يذكر  من فضل اليمن تنوع الطبائع الجوية فيه في الوقت الواحد،  فتهامته حارة رطبة، والجبل معتدل، وما يليه شرقا  حار نهارا، معتدل ليلاً،  هذا في فصل الصيف،  أما في الشتاء،  فتهامة معتدلة،  والجبل بارد،  وما يليه بارد ليلاً، معتدل نهاراً،  مما يهيء  فرصا كثيرة لتنويع الزراعة واستمرار النشاط على مدار العام.  أما العلاقة اللفظية فلا تنتظم سائر المفردات.  فالجنوب من المادة ( جنب) والمفردات الأخرى من مادة ( يمن).  وسنجتهد – غير متكلفين – في البحث عن العلاقة بين اليمين والجنوب فيما يلي هذا.

     

              لماذا اتفقت " الساميات" في الألفاظ التي تعبر عن " اليمين" تماما،  وعن الجنوب إلى حد كبير،  ولماذا لم تتفق في الألفاظ التي يعبر بها عن جهة الشمال، ألآن للأوليين ارتباطا باليمن؟  ولأن للشمال ارتباطاً بالشؤم؟  إني أرى ذلك استناداً   لما سبق أن بينته من تفاضل بين شِقي البدن وفضل ريح الجنوب على ريح الشمال،  وفضل جنوب الجزيرة العربية عل شمالها.

     

    وقد جرت العادة على أن يذكر ما يتفاءل به،  وما يستحب من الأمور بلفظه صراحة.  ولذلك كان الاتفاق بين تلكم اللغات في ألفاظ " الجنوب"،  وأن يكنى عما يتشاءم به أو كان مكروها أو ينتمي إلى الشر، مما يدعمه قانون " التابو" أو  تسمية الشيء بضده أو بمخالف لا يحمل ما يشير إلى سوء في الدلالة أصلا.  وأمثلة ذلك في العربية،  وغيرها من اللغات كثيرة جداً.

              وقبل الابتعاد عن " الجنوب واليمن" والعلاقة اللفظية بينهما أود أن أقف مع الطبيب على الشق الأيمن من البدن ( الركن اليماني) والشق الجنوبي ( الجنب الأيمن) لأسأله: أليس في خلوه من بعض الجوارح ( القلب ،الطحال،البنكرياس) ما يجعله مختلفا اختلافا كبيراً   عن الشق الأيسر؟  أليست اليمنى هي مناط القوة والتحمل  والاستخدام الأكثر أهمية  وتأثيراً؟  أليس النوم عل الجنب الأيمن أصح،  وأن الإنسان ميّال إليه بطبعه؟  إني أرى أن اشتقاق "الجنوب" من "الجنب"   الأيمن، إنما كان بعد أن خصت كلمة " جنب " في الاستخدام بالجانب الأيمن ، لأنه أخص من الأيسر من حيث أهميته وكثرة استخدامه . وهاتان الحيثيتان كافيتان لجعل قصر الدلالة في المشتق الجديد أمرا  ممكناً .  وبهذا  تكون دائرة العلاقة اللفظية غير المباشرة،  والمعنوية المباشرة، بين الجنوب واليُمن واليَمن واليمين  والجنب الأيمن قد أحكم حبكها واستمر مريرها.

    والآن أسأل:  هل هناك فضل لجهة على أخرى  كفضل ريح الجنوب على ريح الشمال وفضل اليمنى على اليسرى؟ لقد  ذهب بعض القوم إلى أن بعض الجهات أشرف من بعض،  وأظهر ما يتضح ذلك في "تهافت  التهافت"(52) حيث قال ابن حزم "  إن  الأرض  ليس لها سبب في أن كانت تهوى إلى أسفل إلاّ صفة  الأرضية،  وليس للنار سبب  في أن  تعلو إلى فوق إلا نفس طبيعتها وصورتها،  وبهذه الطبيعة قيل إنها مضادّة للأرض،  وكذلك الفوق  والأسفل ليس لهما سبب به صارت إحدى الجهتين أعلى والأخرى أسفل بل ذلك  بمقتضى  طباعهما،  وإذا  وجب  اختلاف الجهات لأنفسها  واختلاف الحركات  لاختلاف الجهات فليس هنا سبب يعطى في اختلاف الحركات إلا  اختلاف جهات المتحركات،  واختلاف الجهات  لاختلاف طبائعها،  أعني أن بعضها أشرف من بعض(53).  مثال ذلك:  أن الإنسان إذا أحس الحيوان يقدّم في الحركة إحدى  رجليه من جهة بدنه ثم يتبع بها الأخرى،  فقال: لم يكن هناك سبب يوفى في ذلك إلا أن يقال إنه  لا بد في حركة الحيوان من أن يكون رجل يقدمها ورجل يعتمد عليها، وذلك يوجب أن يكون للحيوان جهتان  يمين  ويسار،  وأن  اليمين هي التي تقدم ابتداء لقوة  تخص بها،  وأن اليسار هو الذي يتبع ابتداء في الأكثر – اليمين،  لقوة تختص بها،  وأنه لم يمكن أن يكون الأمر بالعكس.  أعني أن تكون جهة اليمين  هي جهة اليسار،  من طبائع الحيوان  تقتضي ذلك إما اقتضاء أكثريا  وإما دائما.  وكذلك الأمر في الأجرام السماوية،  إذ لو سأل سائل فقال: لم تتحرك السماء من جهة دون جهة؟  قيل: لأن  لها يمينا  ويساراً،  وبخاصة إذ  قد ثبت من أمرها أنها  حيوان،  إلا أنها يخصها أن جهة اليمين في بعضها هي جهة اليسار في البعض.  وهي مع هذا الجزء الواحد منها تتحرك  إلى  الجهتين المتضادتين  كالرَّجُل  الأيسر الأعسر،  فكما أنه لو سأل سائل  فقال: إن حركة الحيوان كانت تتم لو كان يمينه يساره،  فلم اختص اليمين بكونه يمينا واليسار بكونه يسارا لقيل له: ليس لذلك سبب إلا أن طبيعة الجهة المسماة يميناً  اقتضت بجوهرها أن تكون يمينا ولا تكون يسارا،  وطبيعة اليسار اقتضت بجوهرها أن تكون يسارا وإلا تكون يمينا،  وأن الأشرف للجهة الأشرف.

     

              وكذلك إذا سأل سائل لماذا اختصت جهة اليمين في الحركة العظمى بكونها يمينا،  وجهة اليسار بكونها يساراً،  وقد كان يمكن أن يكون الأمر بالعكس،  كالحال في أفلاك الكواكب المتحيرة (55)،   لم يكن له جواب إلا أن يقال: الجهة الأشرف اختصت بالجرم الأشرف،  كالحال في اختصاص النار بفوق  والأرض بأسفل.

     

              وجاء  فيه  تأييداً  لذلك ،  قوله:  والبسيط(56) بالمعنى  المقول  على الأجرام السماوية لا يبعد أن توجد  أجزاؤه مختلفة بالطبع،  كاليمين  والشمال للفلك،  والأقطاب،  والكرة بما هي كرة يجب أن يكون لها أقطاب محدودة ومركز  محدود به تختلف كرة عن كرة(57)".  وهذا يعنى أنه لا بد  من يمين  وشمال للجرم أيما كان وأينما كان،  وأن الجهة  اليمنى أشرف من اليسرى،  وسنعرض لكيفية  توجيه كل جهة والتعليم عليها في الصفحات التالية.

              الآن أسأل:  أليس في الكرة الأرضية ما يشير إلى ما ذهب إليه  ابن حزم؟  بل أليس في الكائنات المختلفة ما يرشح ذلك ويرجحه؟  أما ترون إلى الاختلاف في تركيب السطح بين نصفي الكرة شمال خط الاستواء وجنوبه من حيث الطبائع والمكونات؟  أما ترون أن حيتان نصف الكرة الجنوبي لا تجتاز خط الاستواء شمالاً؟ أما  ترون أن قطب المغناطيس الشمالي هو السالب.  والجنوبي هو الموجب،  وأن خطوط المجال المغناطيسي إنما تتجه إلى القطب الجنوبي؟  ذلك في كل أنواع المغناطيسية بما فيها المغناطيسية الأرضية تماما كما تفعل يدك الشمال أثناء العمل،  تقدم العون لليمنى  وتناولها،  وليس العكس.

              وكما نعلم،  فالكرة الأرضية مغناطيس كبير شماله المغناطيسي يقع جنوبها،  وجنوبه المغناطيسي يقع شمالهما،  أي أن الشمال الجغرافي هو جنوب مغناطيسي،  والجنوب  الجغرافي هو شمال مغناطيسي،  وخطوط المجال المغناطيسي تنطلق من جنوب الأرض إلى شمالها، أي بموازاة خطوط الطول على الخارطة.  ولما كان الأمر كذلك فإن العلم الحديث ينصح الإنسان بأن ينام وجسمه متجه شمال جنوب. فعند نومه شمال جنوب تكون المساحة المعرضة من جسمه  لمرور خطوط المجال المغناطيسي الأرضي بمقدار مقطع أرضي في جسم الإنسان أي: أقل مما لو نام  شرق  غرب  حيث تكون المساحة بمقدار مقطع طولي في جسم الإنسان.

              وقد أراد أحد العلماء المهتمين بالأمر أن يثبت أن النوم شمالاً  جنوباً أفضل لراحة النائم  فقام بتجربة  تتمثل في أن نام في غرفة مغلقة لا يعرف الاتجاهات الأربعة فيها،  وعند الصباح عرف أن سريره كان يميل عن  خط شمال – جنوب بزاوية مقدارها خمس درجات دون أن يخبره أحد بذلك. 

             

     

     

    ولكن ما هو تأثير الاتجاهات وخطوط المجال أثناء النوم؟! للإجابة عن هذا السؤل يجب أن نتعرف على عملية التنفس في جسم الإنسان كيف تتم؟  وكيف يقوم مركب اليحمور " الهيموجلوبين" بحمل الأكسجين من الرئتين إلى خلايا الجسم،  ونقل ثاني أكسيد الكربون في طريق العودة. إن لمركب اليحمور خواص قطبية مغناطيسية،  حيث يقوم عند تلامسه مع  غشاء الحويصلات الهوائية في الرئة بجذب جزيءO2  ذي الخواص المغناطيسية المناسبة، وبذلك ينتقلان مع الدم المتدفق في الأوعية  الدموية إلى أنحاء الجسم.

              وبالقرب من الغشاء الخلوي تنعكس قطبية اليحمور المغناطيسية،  وقد  تكون ذلك بسبب مغناطيسية الخلية،  فينفصل O2 عن اليحمور  مارّا بغشاء الخلية إلى الداخل.  ولجزيء CO2 الناتج عن  عمليات الاحتراق في الخلية خواص مغناطيسية معاكسة كالجزيء O2 فيقوم مركب اليحمور بجذبه،  ويسيران مع الدم المتدفق في طريق العودة إلى الرئة،  وعند غشاء الحويصلة التنفسية تنعكس قطبية اليحمور ثانية،  فيتنافر مع جزيء CO2  ويتجاذب مع جزيء O2  ليعود إلى الخلايا ثانية.

              ومما لا شك فيه أن خطوط المجال المغناطيسي الأرض تؤثر على هذه العملية،  لأنها تخترق جسم الإنسان.  فعندما  تكون كثيرة  تؤثر على انعكاس  القطبية لمركب اليحمور فلا تتم عملية التبادل بالشكل الأفضل.

              ولهذا،  ينصح العلماء أيضا بعدم السكنى قريبا من أسلاك خطوط الكهرباء ذات الضغط العالي،  ذلك لأن مرور تيار كهربائي في سلك يؤدي إلى تكوين مجال مغناطيسي  حوله مما يؤثر في يحمور الدم ويؤدي إلى الإصابة بسرطان الدم. وقد أدرك الصينيون  القدماء  أفضلية النوم شمال جنوب عن طريق الصدفة،  فكانوا ينامون شمالاً جنوباً،  لم يعرفوا التفسير العلمي،  إلا أنهم وصولوا إلى نفس النتيجة.

              ونستطرد بعض الشيء في بيان تفاضل الجهات،  حيث يتضح لك فضل "قبل" الإنسان على "دبره"  وفضل يمينه على شماله.  ثم،  أما ترى أن الله خلق الإنسان  قويما؟  ما هو "فوق" في مكانه "فوق" في رتبته كأن الفوقية في الجهة والمكان فوقية في " المكانة".  فترى عقله،  وهو أسمى ما فيه فوق "محل عاطفته" أن صدق القول أن القلب محلها،  وذلك فوق محل غذائه  وهو بطنه،  وهذا فوق محل شهوته وهو فرجه ......  وأن  الله لما  أراد  بالحيوان ما أراد،  ولم يجعل له مكانة الإنسان،  لم يجعل فرقاً كبيراً  بين مواضع تلكم الجوارح  والغرائز فجعل خلقة الحيوان أفقية بحيث يستوى رأسه موضع عقله وصدره وبطنه وفرجه.  ولذا كان من الحق أن يوصف الإنسان  بأنه حيوان،  إذا استوى عقله وعاطفته وغريزته وشهوته.

             

              ولمّا لم يكن الإنسان كرويا في شكله،  فقد تميزت في ذاته الجهات الأربع،  بل الست.  أما الأرض،  فلم تمتز  فيها إلا جهتان وهما الشمال والجنوب،  أي الجهتان اللتان ينزع إليهما طرفا المحور الذي تدور عليه،  ولذلك كان لا بد من الاستعانة بالشمس أو نحوها في تحديد الجهتين الأخريين.  وقد خصت الشمس لأن العلاقة الدورية بينها وبين الأرض تتأطر في نحو 360 يوماً،  هي عدة زوايا الدائرة المتمثلة في خط الاستواء أو فلك البروج. 

     

    إن العلاقة بين الشمال والجنوب( السالب والموجب ، الخير والشر، النور والظلام) تعكس الجانب الذاتي في الإنسان في تفاعله مع نفسه،  أي حياته، أما ما بين الشرق والغرب من علاقة،  فتعكس الجانب الزمني وتعامل المرء مع غيره،  ومع الكون.  وإني أدعو العلماء إلى القيام بدراسات مركزة،  للوقوف على مفارقات جوهرية بين الجنوب والشمال،  والموجب والسالب،  ونصف الكرة الجنوبي ونصفها الشمالي،  واليمين واليسار ونحو ذلك مما يتفق معه ،  وأنا على يقين من أنهم سيقفون- آخر الأمر- على حقائق جليلة تكل عن إدراكها أفهام معظم الناس.

     

    وفي كثير من اللغات ما يشير إلى أن ثمة علاقة أكيدة بين اليمين وما يستحب، وبين الشمال وما يكره. وأن الكلمة التي تطلق على ما يكره كثيراً ما يعبر بها عن الشمال، والتي تطلق على اليمين يعبر بها عن الجنوب، ومن أمثلة ذلك في :

    ·   الفارسية: دست راست:  اليمنى.راست: الحقيقي، الصادق. دست جب: اليد  اليسرى،  جب: شرير  ومنها جب كردن وتعني الشيوعيين والأشرار.

    ·   وفي البشتو،  حيث تستخدم الكلمة التي يعبر بها عن اليسار في الدلالة على ما يكره والتي يعبر بها عن اليمين للدلالة على ما يستحب:

    ( جب  لاس، يني  لاس )

    ·       وفي الألمانية : Recht : يمين Recht  حق.

    ·       وفي التجربة: إدمان:  اليد اليمنى،  وتعني الصدق. إد  كلب،  يتشاءم بما يكنى عنه بها.

    ·       وفي الفرنسية: droit(e) يمين، يمنى droit: حق.

    ·       وفي الإنجليزية: right: يمين، يمنى: right: حق، صحيح.

    ·       وفي اللاتينية: dextera: اليد اليمنى.

       Dextra: عهد مقدس، ميثاق جليل، القوة الجهد.

       Dextra: يمين، في المتناول، حاذق ، حسن الحظ، مرض، سمح النفس، بشير، صحيح، مستقيم.

       Sinister: أيسر، شمال.

    Sinistra, Sinistrum: الجانب الأيسر، اليد اليسرى، مخطىء،  غير صحيح، غير مرض، غير محق.

    ·       وفي اليونانية:

    .......      يمين، على اليمين،  اليد  اليمنى، القوة، الجهد.

    ......       سعيد،  محظوظ،  فأل ( حسن ) إضافة إلى جميع معاني كلمة               dexter                اللاتينية.

    ......       طير أيمن، حظ سعيد.

    .....        شمالي، أيسر، لليسار.

                  اليد اليسرى، شؤم.

    فأنت ترى أن الألفاظ التي يعبر بها عن اليمين واليسار في هذه اللغات يعبر بها عما يعبر بنظائرها في العربية عنه،  ولبعض هذه المفردات استخدام تحمل فيه دلالة معاكسة ذلك لاختلاف طبيعة المستوى اللغوي الذي يستخدم فيه.  ففي لغة العرافين الرومان تنصرف كلمة sinistrum " اليد اليسرى، غير صحيح" لمعنى ميمون، سعيد، مبشر بالنجاح،  ذلك أن الكهنة الرومان كانوا يتجهون نحو الجنوب عند ممارستهم النبوءة،  وبذلك يصبح الجانب الشرقي أو الخير، عن يسارهم... غير أنهم كانوا يتبعون التقاليد اليونانية أحياناً  فتحمل الكلمة عندئذ دلالتها الأصلية على معنى غير ميمون،  غير سعيد. ومن ذلك في العربية كلمة " بحري " فهي تعني " شمالاً" في لغة الاسكندرية، وتعني جنوباً  في لغة حضرموت ... نظراً لموقع البحر من كل منهما.

     

              وفي اتجاه  الكهنة الرومان نحو الجنوب،  إشارة إلى فضل تلك الجهة سواء كان ذلك للجهة ذاتها،  أم كان الأمر إكباراً للبحر جنوب بلادهم.  وفي اعتبارهم جهة المشرق نظيراً  للخير،  ودليلاً  عليه،  فذلك لأنها الجهة التي تشرق منها الشمس،  أي لأنها توازي في الباطن ابتداء الحياة.  وسنأتي على شيء من هذا القبيل عند المصريين القدماء فيما يأتي.

     

              وكان العراف الإغريقي يتجه شمالاً عند ممارسة  الكهانة وبذلك يكون المغرب عن يساره ومن هنا كانت الدلالة على الشؤم،  وكان الارتباط بينهما حيث يناظر الغروب الموت في الباطن.

     

              وقد استخدم المصريون القدماء كلمتين مشتقتين من المادة (  يمن ) وهذا  يشير إلى العلاقة بين المصريين واللغات "السامية" من ناحية،  وبين المصريين " والساميين"  من ناحية أخرى.  والكلمتان هما " يمنتي " و ( أيمنتا ) imenty للدلالة على جهة الشرق،  كأنهم كانوا يتجهون أو ييممون وجوههم عند ممارسة الطقوس في  اتجاه مجرى النيل،  أي شمالاً،  ذلك لما له من أهمية في حياتهم،  وبذلك تكون جهة المشرق عن يمينهم،  والشروق واليمن من الخير،  والرابطة بينهما قوية في الظاهر والباطن.  ولا يغيب عن البال هنا أن المصريين قد عبدوا الشمس " الاله رع".  وأعتقد أن كلمة "يم" " السامية الحامية" بمعنى " نهر" إنما اكتسبت دلالتها العامة بعد دلالة خاصة كانت تقصر على نهر النيل دون غيره.  وهذا ما يرشحه ويرجحه الاستخدام القرآني لهذه الكلمة، حيث لم ترد فيه إلا في خبر موسى مع فرعون  وأهل مصر.  ثم أن في دلالة المادتين ( أمم ويمم ) في العربية ما يؤكد ذلك،  حيث تنصرفان لمعنى ( اتجه ). واتجاه الناس قديماً لأن أكثر ما يكون صوب الماء ومصادره.

     

              ومثل ذلك فعل سكان شمال السودان،  فقبائل " المَحَس " التي تعيش قريباً من دنقلة غرب النيل،  ما تزال تستخدم ألفاظاً تتفق وما أسلفت،  حيث تنصرف كلمة " أُرُ"  إلى المعاني " شرق "،  نهر النيل ، " يمين"  وبهذا تكون  العلاقة بين النيل واليم قد حبكت،  وفي ذلك ما يؤكد أنهم كانوا يتجهون شمالاً  عند ممارسة الطقوس.  حيث يكون النيل والشرق عن يمينهم، ومن هنا جاز عندهم استخدام كلمة واحدة لليمين،  والشرق،  والنيل. وقد توصلت إلى هذه الحقيقة من خلال معجم صغير صنعته لتلك اللغة استقاء من أبناء دنقلة.

     

              ونعود الآن إلى لغتنا،  أم اللغات،  بالسؤال التالي:  هل هناك علاقة بين الشَّمال والشِّمال،  (  والشام  والشآم ) والشؤم  كتلك التي بين الجنوب واليَمن واليمين واليُمن.  سبق أن بينا أن ريح الشَّمال ليست بذات فضل على الجزيرة العربية،  بل لقد  كان العرب يكرهونها ،  وكذلك هي الحال بالنسبة للشِّمال،  وما يكنى بها عنه،  حسب ما تبين لك  من قبل.

     

              أما ما يتعلق بالشام والشأم والشآم فهي سواء من حيث الأصل اللغوي،  ومن حيث الدلالة.  وموقع الشام إلى الشمال من بلاد العرب،  وعن شمالها إذا ما استقبلت الشمس لدى شروقها.  وقد تسمى ريح الشمال،  شآمية أو شامية نسبة إلى الشام،  ذلك بما تهب من قبلها.  وشأمة جهة الشمال،  والكلمة حية لدلالتها في لهجة الفلسطينين إلى يومنا الحاضر يقولون -  شامَ - .  والأشأم الذي يقع عن شمالك،  وهي الشؤمي -  أفعل فعلى – والشآم  فعال منه،  والشام بتخفيف الهمزة .  قال المرقش:

                                                                           (مجزوء الكامل)

    فاذا الأيامن كالأشا م                  ئم والأشائم كالأيامن

    كناية عن التباس الخير  بالشر والحق بالباطل (58): وقال القطامي التغلبي:

                                                                                                       (طويل)

    فخرّ على شؤمي يديه فذادها                       بأظما من فرع الذّؤابة أسحما (59)

    أي :على يده الشمال . لكن ، هل من علاقة بين الشأم و الشؤم ؟  وهل الشمال والشمأل من ماده (شمل) أصلا؟ ورد في الاختيارين قول أحد بني العنبر في نخلة ، (وقد سبق )(60 ):

    تدحّى وتسمو في السماء برأ سها           وإن هبّ يوما شأملٍِ لم تحلّل

    حيث تعني كلمة (شأمل) ريح الشمال ، التي تهب من جهة الشأم. وفي هذه الكلمة ما يمكن أن نناقشه على النحو التالي:

    ما أصل هذه الكلمة ؟هل هي منحوتة من شأم وشمل لدلالتيهما؟

    أم أنها من مادة رباعية (شأمل ) ؟ ام أنها مركب إضافي أصله شأم ــ إل ، بمعنى الله يكره أو يتشاء م ، (إن كان يجوز إسناد التشاؤم إلى الله )

    فهي في ذلك مثل :يسمع إل: اسماعيل ، وعبد إل ، " عبد ل ": عبد الله ونحوها .

    وعند ئذ ، أليس ممكنا ان نقول :إن هناك علاقة مكانية ولفظية بين هذه الكلمة وبين مملكة "الشّمأل او الشّأمل" التي ورد ذكرها في النقوش التي ترجع إلى عهد الملك سليمان ،تلك المملكة التي كانت تقع بين حلب ونصيبين ،أي في شمال بلاد الشام ؟ كانت هذه المملكة كثيرة الحروب بخاصة مع الآشوريين لذلك كانت في حلف دائم مع ممالك الشأم .ويطلق على الشمال في العبرية إسم سمأل أو شمؤل، وفي السريانية ............ وتعرف في المراجع  العربية  باسم شمأل،  وشأمل،  وشمال.  ويطلق عليها في الأشورية Sumeia وقد ذهب بروكلمان إلى أن اسمها مشتق من "شأم" لعلاقة بالشؤم،  وهذا يرجح ما أسلفت،  نظراً لكثرة الحروب التي كانت تسببها وتعرف في مراجع الآثار باسم " سند شيرلي أو زنجيرلي * ".

     

              وقد يقال إن العلاقة بين الشأم والشؤم غير واضحة في ما عدا الجانب اللفظي،  وقد يحتج علينا بما في الشام من خيرات،  وبالآية الأولى من سورة الإسراء ] سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله [  حيث تشير عبارة " باركنا حوله " إلى ما لا يتفق مع الشؤم،  كما قد يحتج علينا بما يروى من الحديث " بارك الله في شامنا وفي يمننا"  وبالحديث " بارك الله في الشام من فحص الأردن إلى رفح (61)"  وغير ذلك مما يشبهه فأقول:  إن في الآية المذكورة تخصيص،  حيث نعت المسجد الأقصى بقوله " الذي باركنا حوله" أي بما يقع حوله،  وهذا النعت أولى ما يكون بفلسطين،  بل ببعضها،  وهذا ما يؤكده الحديث الأخير،  حيث إن في عبارة " من فحص الأردن إلى رفح"  تحديدا المنطقة المباركة.  وهي منطقة بيت المقدس وما يليها مما يقع بين غور الأردن – فحص الأردن – ورفح.  وهي منطقة مقدسة وفيرة الخيرات.  ولعلها المقصود بالشام المبارك في غير هذه المواضع،  ثم إننا نحتج لذلك بمسألة أخرى حيث نرد على المتذرع بخيرات الشام " بمفهومها العام"  بقولنا:  إن أنحاء كثيرة من تلك البلاد لم تكن معمورة حتى العصر الأموي،  وأخص بالذكر حماة وضياعها،  حيث لم تكن قد أنشأت قبل سنة 68 هـ،  ثم إنه ليس لتلك المنطقة ما لفلسطين من فضل في ذلك،  وليس في الشآم إلا غوطتها " غوطة دمشق"  والطريق إليها من بادية إلى بادية،  فهي على العكس من اليمن في ذلك،  إذ تمتد الطرق إليه عبر أراض يختلف المناخ فيها اختلافا يتيح للذاهب إليه أن يختار لنفسه الطريق التي تلائمه.  فان سلك تهامة فهي حارة صيفا،  معتدلة شتاء،  أو سلك الحجاز فهو بارد شتاء معتدل صيفا،  أو سلك البادية عن يسار الحجاز،  فهي على نحو مختلف.  ويضاف إلى ذلك كله،  أن الأراضي المؤدية لليمن من الحجاز أراض دائمة الخضرة كثيرة المراعي،  وفيرة الماء إلى حد كبير،  وهذه أمور لا غنى للمسافر عنها،  حيث يجد فيهما ما يلزمه ويلزم راحلته.  أما الشام فطريقه عبر حرار شمال الجزيرة،  ثم عبر صحراء النفوذ،  فبادية الشام،  فحرار حوران عبر بلاد قليلة الماء كثيرة الغبار قليلة المرعى.  وهذه الصفات قد تكون كافية لأن تجعله مشئوما،  بالرغم من أن بعض حاجاتهم تقضي فيه.  ويضاف إلى ذلك أن البرد يأتيهم من قبله وأن المطر قليل من ناحيته.

     

              وإذا كان هناك من يصر على أن العلاقة بين الشام  والشؤم غير واردة في المعنى مستندا  على ما فيه  من خيرات،  وهي أقل من خيرات اليمن – فإننا نجاريه في ذلك لنجرده سلاحا ضدّه ، فنقول : نعم ، إن الشام بلاد يسر وخير ويسار ، لكن أليست اليد الشمال أي الشؤمى ، التي تقابل بلاد الشام ، هي التي يشار بها لليسار ، وهي اليسرى ؟ وهو الأيسر كالأشأم . أو ما ترى أن لليسر علاقة بالشؤم ؟ أن كلمة الأيسر تتبع ب " أعسر " مرادفة لها ، وأن الناس تكره " العسر واليسر " في الأيدي. أما ترى أن المادة ( ي س ر ) تنصرف أصلا إلى معنى القلة ، والقلة نقص ، والنقص أدخل في الشؤم منه في غيره . ومن ذلك قولهم : النزر اليسير ، أي القليل. ثم أن في دلالة الكلمة على " وفرة المال وأسبابه " من زينة الحياة الدنيا ، ما يرشح علاقة الكلمة بما يكره ، ذلك أن المال – الكثير منه على وجه الخصوص – غالبا ما يؤدي بصاحبه إلى ما يكره .

              إنني أرى أن المادة " ي س ر" تنصرف أصلا لمعنى الضيق والشدة ، وما يكره – ومن ضمن ذلك معنى القلة معاقبة في ذلك المادتين " أ س ر " و " ع س ر" لفظا ومعنى . ونظرا لعلاقة " الشمال "  بالشؤم ، فإننا نجد " اللغات السامية " مختلفة في الألفاظ التي يعبر بها عن تلك الجهة ، ذلك أن المفردات السامية مختلفة في الألفاظ التي يعبر بها عن تلك الجهة ، ذلك أن المفردات التي تدل على ما يكره وما يسوء الناس ذكره – غالبا ما تختلف من مستوى لمستوى ، ومن لهجة لأخرى ، ومن جيل لجيل . فالشمال في العبرية " تسفون " وفي السريانية " كريبو " . وكثير ما تكنى الناس عمى تكره بألفاظ تنصرف أصلا لدلالات مستحبة ، يقولون في الأسود،:  أكحل، وفي الفحم بياض،  وفي العبرية، مثلاً، تستخدم بارك بمعنى لعن.  وفي  اللهجة الفلسطينية يقولون: رأيت" بسم الله" يقصدون  " عفريتاً أو شيطاناً"، والأمر  كلّه خاضع لنظرية " التابو" حيث  تكره الناس استخدام المفردات ذات الدلالة  السيئة ،  وتعدل إلى الكناية بما يستحب، تفاؤلاً  بالخير،  وإعراضاً  عن الشر. أعني بذلك أن كلمة " يسار" لمعنى الشمال قد  تكون من هذا القبيل، ذلك إذا أخذنا بأن " اليسار " لدلالة أصلية على " الخير المادي " وليس على القلّة.  فيكونون بذلك، قد سموا الشمال يساراً تماماً  كما يسمي كثير من العرب المصريين والليبيين الفحم بياضاً،  وكما استخدم العرب " السليم" للدّيغ" وكما يستخدم بعض العرب كلمة " بصير " في مقام " أعمى ".

     

              إذاً  هناك علاقة لفظية  ومعنوية بين ريح " الجنوب "  و" اليمانية "  التي تأتي عادة بالمطر -  وهو جوهر الحياة – وجهة الجنوب " التيمّن " وما يقع في الجنوب " اليمن ".  واليمن، واليمين من البدن، واليد اليمنى  وما يكنى بها عنه.

     

              وهناك علاقة لفظية معنوية بين ريح "الشّمال" أو "الشامية": حيث تأتي بما يكره ،  وجهة الشمال( الشآمة) وما يقع في الشمال ( الشام  - الشأم  - مملكة الشمأل  الشأمل) والشؤم ،  والجانب الأشأم " الشمال " أو "  اليسار " من البدن.

     

              غير أن الظروف " شَمال،وشِمال وجنوب ويمين"  مبهمة إلى حدّ ما وفي بعض الأحوال.  فهي بحاجة إلى ما يخصصها أو يعرفها.  ثم إنها نسبية متغيرة فما هو عن يمينك قد يكون إلى الشمال منك الآن،  وإلى الجنوب فيما بعد، أو إلى الشرق أو غير ذلك،  الأمر الذي تتحكم فيه قبلتك ووجهتك.  إذاً  كيف تمّ  تثبيت هذه المفردات لتلك الجهات  والولدان،  وتثبيت تلك الأسماء  لتلك المسميات؟؟  وكيف كان التوافق الطبيعي بين الجهة وريحها التي تهب منها والبلد الذي يقع فيها وطبعه وأحد  شقي البدن وأحد معنيي  الخير والشر،  وأحد قطبي المغناطيس وأحد طبعي التيار الكهربائي: سالب، موجب.

     

              وإجابة عن السؤال الأول نقول: إن أقل ما يحدد به الاتجاه أمران هما: ما يأخذ فيه وما يبدأ أو ينتهي إليه.  ولما كانت الاتجاهات تأخذ في كل " اتجاه " ولا تبدأ في مكان بعينه أو تنتهي عنده ( لكروية الأرض) فإن ذلك يوجب أن يكون التعليم عليها بما له مكانة عظيمة عند الإنسان.  وقد كان ذلك – حيث علم بالشمس – عند شروقها، لأن الشروق علامة الحياة وأوضح الظواهر الطبيعية – وبالإنسان نفسه،  غير أن تحركه وتغير وجهته يتعارض مع الغاية.  ذلك أن الثابت ( الجهة ) لا يحدد بمتحرك ( الإنسان  والشمس ) ولذا ،  فقد تمّ  التحديد – تحديد الجهات – في مكان ثابت  وهذا المكان يجب أن يكون ذا  مكانة عظيمة تقابل عظمة الشمس،  إنه الكعبة المشرفة.  الشمس منبع الضياء المادي،  الكعبة موئل الضياء المعنوي.  فما كان عن يمين الواقف فيها أو عن يمينها عند شروق الشمس،  فهو " اليمن " وموضع اليمن والجنوب استناداً إلى العلاقة بالشق الأيمن=  الجنب، ومهب الريح الطيبة التي تأتي بجوهر الحياة  على  الأرض- المطر" وهي جميعاً  ذات علاقة باليمين وباليد اليمنى ( لفظاً ومعنى). وما كان عن شمالها أو شمال الواقف فيها فهو " شام " وموضع " شؤم" وشمال ومهب الشمال التي تسفر السحاب وتأتي بالبرد والغبار ( 62).

     

              أما التوافق الطبيعي بين تينك الجهتين وما ذكر في السؤال الثاني فذلك ما لا يعقل أن يتم نتيجة لتواضع واتفاق أجمع عليهما العرب،  إلا أن يكون بينهم وبين الطبيعة توافق،  وهذا أمر ترشحه فطرتهم.  كما أنه – نفي أم ثبت – يؤكد أن اللغة أو بعضها توقيف من الله تعالى لا اصطلاح،  واذكّر هاهنا بقوله تعالى:" وعلّم آدم الأسماء كلها" ولا أخوض في هذه القضية التقليدية راداً من أراد ذلك إلى المصنفات التي عرضت لها ( 63).

     

              ونتساءل بعد ذلك كيف جاءت الكلمات " تَيْمَنا" السريانية،  و" تَيْمَن" العبرية و " اليَمَن" العربية،  لدلالتها على الجنوب ،  سواء أكانت هذه الدلالات مباشرة أم غير مباشرة ؟  هل تواضع العرب والآراميون والعبرانيون على ذلك،  فاصطلحوا عليه؟ أم أن الكلمتين في تينك اللغتين دخيلتان من العربية؟  أليس في ذلك إشارة إلى أن الكعبة " الحد المكاني للتعليم على الجهات لدى الإشراق " كانت مقدسة عند جميع "الشعوب السامية" منذ أمد بعيد يرجع إلى الوقت الذي كانوا يحيون فيه قبائل رعوية أو قبل ذلك؟.  أو ليس فيه إشارة إلى أن بلاد العرب هي موطن " الساميين " الأصلي، بل المنبع الذي صدر عنه الناس كافة؟  ألم يقل تعالى " كان الناس أمة واحدة" ؟ إن في لغاتهم المعاصرة بقايا مما تشير إليه كلمة " واحدة ".  كثيرة هي الشعوب التي سمعتها تعبر عن نعم بإخراج  نقرة مطبقة من جانب اللسان،  وعن " لا "  بالصوت " تس " بإخراج نقرة حادّة من مقدّم اللسان.  وكم هي المفردات المشتركة ،  وأسوق أمثلة بابا وماما وأمبو من لغة  الطفل.  وطريف أن كلمة امبو تعني الماء باللغة السنسكريتية،  وهي مستخدمة لذلك في لغة الأطفال ببلاد الشام ومصر،  وفي لغة بقايا البربر والطوارق،  وفي لغة الهوسا في وسط غرب أفريقيا.  ثم إن في دلالات يمين ويسار أو شمال على ما يستحب ويكره بالترتيب لدليلاً  على أنهم جميعاً قد صدروا في ذلك عن فكر واحد لمجتمع كان يوماً  ما واحداً.  إن حفريات القبور القديمة وأشكالها توحي بشيء من هذا التوافق غير الناجم عن مصادفة.

     

              إن الجزيرة العربية مؤهلة لأن تكون مهد الإنسان  ووطنه الذي ارتحل منه إلى جميع البلدان،  ذلك بما تتمتع به من مناخات  مختلفة في الوقت الواحد،  ولما  يهطل عليها من مطر صيفاً وشتاء  يتناسب مع طبيعة الحياة البدائية والرعوية.  ثم إنها متصلة بإفريقيا بواسطة جزر باب المندب " جنوباً " وبواسطة شبه جزيرة سيناء  شمالاً

    " غربياً" .  لقد كانت متصلة بها قديماً حين كان ساحلا البحر الأحمر رتقاً ،  قبل الزمن  الجيولوجي الثالث (64).  وأن هذين الساحلين متشابهان في أكثر من 80% مما يشهدانه من طباع بشرية وألوان ومن بيئة طبيعية،  وأسلوب معاش، ومناخ  ونباتات وغير ذلك.

     

              وتتصل بآسيا عن طريق مضيق هرمز،  وعن طريق العراق،  وتتصل بأوروبا عن طريق الشام،  فهي ،  بحق بؤرة العالم.  ومكة بؤرتها والكعبة بؤرة مكة، وإن هذا ليتفق مع ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن ابتداء دحو الأرض  وبسطها كان من موضع الكعبة،  كان الأصل شبيهاً بحجر على الماء.  فكأن ذلك الموضع مركز الأرض. وإذا كانت هي مهبط الوحي من السماء،  فهي إذاً  مبدأ التكوين، وهل مكة، وبلاد العرب مؤهلة لذلك؟

     

              لعل فيما أسلفت من مميزات لجزيرة العرب ما يؤهلها  لأن تكون كذلك دون غيرها.  وقد جاء في كتاب " مغامرات لغوية" لعبد الحق فاضل.  قوله: " إن كلمة اليمين حجازية المنبت في عقيدتنا،  ولنا في نشأة اليمين واليسار رأي ليس هنا مقام شرحه"  ( 65).  ولا شك في أن صاحبنا واقف على حقيقة تدعم ما ذهبنا إليه.

     

              كما نشر في مجلة العربي ( العدد 66) تحت عنوان " دراسة تثبت أن مكة مركز اليابسة" ما نصه: قام الدكتور حسين كمال الدين، أستاذ المساحة لدراسة أثبت خلالها أن مكة هي مركز الكرة الأرضية.  وكان هدفه في البداية الوصول إلى وسيلة تساعد أي مسلم في أي مكان على تحديد القبلة.

     

              إلا أنه توصل أثناء بحثه إلى ما يشبه النظرية الجغرافية وأن مكة هي مركز لدائرة تمر بأطراف جميع القارات،  فقد اتجه إلى رسم خريطة للكرة الأرضية تحدد عليها اتجاهات القبلة،  فبعد أن رسم خريطة تحسب أبعاد كل الأماكن على القارات الست وموضعها  من مدينة مكة ثم أوصل بين خطوط الطول المتســاوية "مع بعضهــا" (67).  ليعرف كيف يكون إسقاط خطوط الطول وخطوط العرض،  فتبين له أن مكة هي بؤرة هذه الخطوط، ثم رسم خطوط القارات وسائر التفاصيل،  على هذه الشبكة،  واستعان في بحثه بالعقل الالكتروني لتحديد المسافات،  والانحرافات المطلوبة،  ولاحظ أنه يستطيع أن يرسم دائرة يكون مركزها مكة وحدودها خارج القارات الأرضية ومحيطها يدور مع حدود القارات الخارجية،  وتوصل من نظريته إلى مغزى الحكمة الإلهية في اختيار مكة لبيت الله.

     

              بهذا تكون الأدلة الدينية واللغوية والعلمية متفقة على مكانة مكة وبلاد العرب،  وبهذا تتضح بعض الجوانب الميتافيزيقية في اللغة بعد أن تبين لك مدى التوافق الطبيعي بين الإنسان ولغته وبيئته.

     

              إن في الكون لعبراً  كثيرة لمن أراد،  ولمن تدبر وتفكر،  كل يمين موجب،  في الجسم ،  وفي بلاد العرب،  بل في العالم بأسره، وفي الرياح، وفي المغناطيس، وفي الذرة،  وفي الكهرباء.  وكل شمال إلى شؤم،  وكل شمال سالب،  الالكترونات السالبة تتحرك مندفعة من مداراتها حول نواة الذرة فيتم الدمار.  والشر يطغى على الخير فيكون الدمار،  والظلمة تزاحم الضياء فيكون العمى.

     

    وتبارك الله الذي خلق الكون الأصغر في هيئة الكون  الأعظم، الإنسان:  الشمس عيناه، وعقله المدبر من فوقه، وأذناه القمر بما هنا دون  العينين في الإدراك، تماماً كالقمر دون الشمس في الكشف أو هما قطبا الأرض أو المداران.  وقبله مشرق، ودبره مغرب، ويداه القطبان الأعظمان، أو قطبا الأرض، فالشمالي منها سالب غالباً ما يشهد ما يكره،  والجنوبي منها ميمون.  وبلاد العرب بطن الأرض ورحمها  التي زودت أنحاء الأرض المختلفة بالناس،  ومكة سرتها،  منها ابتداء الخلق المادي أو التكوين المادي للكرة،  وعبرها كان يتنزّل الوحي المخرج من الظلمات إلى النور.

              ليس في الأرض إلا جهتان هما الشمال والجنوب.  أما المشرق والمغرب والفوق والتحت فنسبة إلى الشمس والحساب.  فالأرض كرة وأظهر ما في الكرة محورها  واتجاهاه اللذان يأخذ فيها من مركزها هما الشمال والجنوب. ورقبة الإنسان هي الفضاء الخارجي،  والصدر والرئتان هي الغلاف الغازي وبقية جسمه هو الأرض،  والتراب من التراب إلى التراب.

     

              إنني أدعو العلماء إلى البحث في خصائص القطبين وأوجه التفاضل بينهما،  وإلى البحث في أوجه التفاضل بين الشمال والجنوب،  وبين شقي البدن،  وإلى البحث فيما وراء اللغة،  فهي كتاب الحضارة وأداة الخلق.  وإني على يقين من أنهم إلى نتائج باهرة لا بد واصلون.

     

     

     

     

    الهوامش

     

    1. ناقشنا هذه الفكرة في موضوع "  العين بين العلم واللغة"  فانظره.

    2. مريم من الآية 16 وانظر نعت الزيتونة في سورة النور،  الأية 35.

    3. القصص من الآية 44.

    4. البقرة من الآية 115، وانظر لمثله البقرة 142، 177، 258 والشعراء 28 والمزمل 9 والكهف 86.

    5. الرحمن 17 وانظر الزخرف 38.

    6. ابن قتيبة – الأنواء – 141.

    7. الأعراف 137 وانظر لمثله المعارج 40 والصافات 5.

    8. انظر 65 سابقاً.

    9. الأصمعيات 49.

    10. أحمد فريد رفاعي – عصر المأمون – 1/427.

    11. ابن قتيبة – الأنواء – 165.

    12. المزروقي – الأزمنة والأمكنة – 2/343.

    13. ابن الأنباري – شرح المفضليات ط لندن – 771.

    14. لبيب – ديوانه – 185.

    15. ابن بنين – اتفاق المباني وافتراق المعاني، بتحقيق المؤلف – ص 43.

    16. انظر مجموع أشعار هذيل.

    17. ابن الأنباري – المفضليات – 104.

    18. طرفة بن العبد – ديوانه – 52.

    19. ينزل المطر على مكة ونواحيها صيفاً وشتاءاً لأنها في منطقة تصل إليها الرياح الشمالية الغربية شتاء، والرياح الموسمية صيفاً.

    20. الحجر – الآية 22.

    21. الذاريات – الآية 41.

    22. الطرماح – 412.

    23. النابغة الشيباني – ديوانه – 111.

    24. كثير غرة – ديوانه – 1/175.

    25. النمر بن تولب – مجموع أشعاره – 68.

    26. رؤبة -  ديوانه – 1/175.

    27. المبرد – الكامل في الأدب – 1/246.

    28. أبو علي القالي – الأمالي – 2/181.  وانظر ما ورد من بيان لطبع الجنوب في الصفحات السابقة.

    29. الطرماح 412.

    30. لذلك ذهب بعض الفلاسفة المسلمين إلى اعتبار الأجرام السماوية كائنات حية لأنها تتحرك.

    31. انظر لدلالتها اللسان ( جشأ ).

    32. السّكري – شرح أشعار هذيل – ط القاهرة – ص 172.

    33. ابن الأنباري – المفضليات – 170.

    34. انظر قول طرفة 185.

    35. مجموع شعر مالك بن الريب ص 53 ومثله لابن مقبل – ديوانه – 223.

    36. امرؤ القيس – ديوانه 8.

    37. الأخفش الأصفر – الاختيارين ، تحقيق فخر الدين قباوة – ط دمشق سنة 1974ص 178.

    38. السكري – شرح أشعار الهذلين – 1/199.

    39. نفس المرجع 1/130.

    40. ابن الأثير – النهاية في غريب الحديث،  واللسان (  زيب ).

    41. ابن فارس – معجم المقاييس – ( زيب ) والكلمة لدلالتها على النشاط

     " سامية " مشتركة، ( انظر: دراسات مقارنة في المعجم العربي – للسيد يعقوب بكر " زيب ").

    42. الواقعة: 27 وانظر لمثله المدثر: 39.

    43. الواقعة: 8 ، 9.

    44. الاسراء 71 ، وانظر لمثله الحاقة 19 والانشقاق 7.

    45. الزمر 67.

    46. الشماخ بن ضرار – ديوانه – 181.

    47. الحاقة: 25.

    48. اللسان ( شمل ). وراجع الفصل الأخير من المجلد الرابع من المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي.

    49. الهمذاني – صفة جزيرة العرب – 154.

    50. ابن واضح اليعقوبي – البلدان – 268.

    51. سبأ: 16.

    52. ابن حزم- ط الكاثوليكية ببيروت. ص 488- 490.

    53. يتضح ذلك باستقراء ما سبق،  وباستقراء طبائع الجهات ولا سيما ( شمال وجنوب ).

    54. تذكر أن المدرب العسكري يخالف من يبدأ السير برجله اليسرى عند الايعاز: إلى الأمام سر )!

    55. يقصد السيارة .

    56. يقصد العنصر أو الاسطقس أو واحد الأجرام العلوية.

    57. ابن حزم – تهافت التهافت – 243.

    58. جواد علي المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – 4/476. وانظر للبيت ديوان المرقش.

    59. القطامي التغلبي – ديوانه – 181.

    60. أنظر هـ 37.

    61. المعجم المفهرس للألفاظ الحديث ( فحص ).

    62. سمعتهم في تهامة عسير يقولون للمتجه شمالاً شايم أو شاءم وللمتجه جنوباً يمن أي اتجه قبل الشام،  وقبل اليمن كل ذلك جنوب مكة المكرمة.

    63. راجع ما ذهب إليه ابن فارس وابن جني في مصنفاتهما، وما أورده السيوطي من ذلك في مزهره.

    64. بروكلمان – تاريخ الشعوب الإسلامية – ترجمة منير البعلبكي 1/10.

    65. عبد الحق فاضل 126.

    66. العدد 237 شعبان 1398هـ ، اغسطس 1978  م ص 71 ( استطلاع مكة المكرمة).

    67. هكذا وردت.

     

    ·       انظر بحث ليد اسبارسكي في   Kelilnschreften und das alte Tertament. S.  179 f.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     
  • Bookmark and Share Email
     
  • mahtabshariq said...
  • thank you very much.
  • Wednesday, October 27, 2010
  • عبد الفتاح زهير said...
  • انا لم احترم في حياتي شخصا , كما احترم الدكتور يحيى جبر شخصا وفكرا وعلما . واتمنى ان اصبح مثله ان شاء الله تعالى
  • Friday, November 2, 2012
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me