An-Najah National University

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber

موضوعات النصوص المدرجة شتى،لم أدرج نصوصا لقدمها ولا احتفظ منها بنسخة إلكترونية، ولمن يخالفني الرأي أن يحاورني قبل أن يحكم علي، فلعلي غيرت

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Friday, May 22, 2009
  • السيرة النجدية في الأدب العربي
  • Published at:مجلة الدارة (دارة الملك عبد العزيز)العدد:1، شوال/ذو الحجة 1412هـ
  • السيرة النجدية في الأدب العربي

    أ.د. يحيى عبد الرؤوف جبر  

    الاشتقاق اللغوي:

              ينصرف الأصل اللغوي (ن ج د) لدلالة أصلية تقع على معنى الارتفاع الماديّ، ومنه لهذه الدلالة النجد بمعنى الهضبة، وما ارتفع من الأرض. والنجدان من قوله تعالى "وهدينه النجدين" (1)، حيث تفسر الكلمة بالثديين، وهما إلى ارتفاع وبروز عن سواء البدن، وبالطريقتين المرتفعتين الواضحتين وهما طريقا الخير والشر.

              ومن شواهد النجد بمعنى المرتفع من الأرض استخدامهم الكلمة لمعنى نقيض الغور، وهو المنخفض من الأرض، قال الطرماح بن حكيم الطائي:

      ................                                                  بما لا يُرى منها بغور ولا نجد(2)
    وأنجد القوم، إذا أتوا نجدا أو ساروا في اتجاهه، قال مالك بن نويرة في هذا المعنى:

    يهلون عمارا إذا ما تغوروا                                ولاقوا قريشا خبروها فأنجدوا(3)
    ومثله في أقوالهم مثل أعرق وأتهم وشاءم ويمّن، إذا أتى العراق وتهامة والشام واليمن.

    والنجد أو نجد كذا، أسماء تطلق على مواضع بعينها، كنجد الشرى ونجد اليمن ونجد كبكب وغيرها. وما يزال سكان المناطق الجنوبية الغربية من السعودية (تنومة والعوصاء وقراهما) يطلقون على الهضبة الممتدة من الشرق من بلادهم اسم نجد، وذلك لارتفاعها، وهذا هو الأصل في دلالة الكلمة، ثم خصصت لمواقع معينة أعلاما عليها، غير أن أشهرها على الإطلاق، والذي يفهم دون غيره عند تحرير الكلمة هو إقليم نجد الذي يتوسط شبه جزيرة العرب، جزءا من المملكة العربية السعودية.

              ومن المُلْبِس في أقوالهم ما يروى من "أن عبد الملك بن مروان أخرج جاريته في السوق ونادى منادٍ بدمشق الشام أن من قال بيتا ثانيا من الشعر لهذا البيت فهذه الجارية له حلال، وهو قوله شعرا:

    بكى كل ذي شجو تهام وشجوه                    بنجد فأنى يلتقي الشجوان
    فقال في ذلك العرب أقوالا كثيرة هم والعلماء، فلم يرتضها عبد الملك حتى قال جرير:

    يغور الذي ينجد أو الذي                   (م)                بغور تهامات فيلتقيان
    فال عبد الملك خذ الجارية، لا بارك الله لك فيها، والله إن البيت ليقع على البيت كما يقع الحافر على الحافر، فالمراد، كل مكان عالٍ يسمى نجدا، وكل مكان هابط يسمى غورا أو تهامة"(4).

              وفي هذه الحكاية ما يشير إلى أن الذين قالوا ولم يصيبوا ما يوافق رأي عبد الملك كانوا يعتقدون أن المقصود هو إقليم نجد وتهامة في وسط الجزيرة وغربها، والمسافة بينهما كبيرة، وليس المكانين المرتفع والمنخفض اللذين قد يكونان قريبا أحدهما من الآخر.

              وتقع دلالة "نجد" أيضا على الارتفاع المعنوي، ومن ذلك النجدة بمعنى المروءة والشهامة والقصد إلى المعالي  والأمور السامية. وفي المثل "هو طلاع أنجد" (5) إذا كان ساميا لمعالي الأمور ويحسن ضبطها ويحكم الصرفة بها. ومن ذلك في أشعارهم قول دريد بن الصمة يرثي أخاه:

    كميش الإزار خارج نصف ساقه                            صبور على العزاء طلاع أنجد(6)
              ولعل هذا الاستخدام هو الذي قاد إلى تغيير الدلالة لمعنى الشهامة والمروءة، وتتضح العلاقة بين الدلالتين بتقليب المعاني التي يتضمنها قول أبي القاسم الشابي في رائيته المشهورة:

    ومن لا يحب صعود الجبال                          يعش أبد الدهر بين الحفر
              حيث قرن صعود الجبال بمعنى الشهامة والعزة، والعيش في المنخفضات بالذل والمهانة ... وقد سبق الجاهليون إلى مقارنة من هذا القبيل حيث كان أحدهم يفاخر بنزول الأماكن العالية المشرفة، التي تستقطب الأضياف، وكانوا يذمون "حلال التلاع مخافة" أن ترى الأضياف داره أو ناره، والتلاع هي الأماكن المنخفضة بجانب الأودية.

              وعكس النجد الغور، وبه سميت تهامة، وكل منخفض من الأرض وغيرها ـ كالماء ـ فهو غور. قال تعالى "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين" (7). أي غائرا، وعكسه المعين. وغور الأردن من ذلك، لانخفاضه، وهو امتداد طبيعي لتهامة التي تمتد على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، وقد تشكلا معا في الزمن الجيولوجي الثالث (8) ومن جراء الخسف الذي اعترى الأرض آنذاك، ونجم عنه ما يعرف بالأخدود الإفريقي العظيم أو حفرة الانهدام، وامتدت ما بين منابع النيل في وسط إفريقية إلى البحر الأسود في أواسط آسية، مرورا بالبحر الأحمر وغور الأردن والبقاع في لبنان وسورية.

     

    أسماء نجد:

    عرفت نجد في التراث العربي بعدد من الأسماء غير نجد، ومن ذلك:

     

    أ‌)      الجلْس، ودون ال:

    وإنما سميت به لأنها كانت جالسة في مكانها من وسط الجزيرة، فهي ترتفع من فوقه كما يرتفع الجالس المتربع فوق مكانه، قال الأحوص:

    وإني إليها حيث طارت بها النوى                       من الغور أو جلْس البلاد لنازع(9)
    وقال العرجي في المتجه صوبها:

    شِمالَ من غاربة مفرعا                         وعن يمين الجالس المنجد_10)
    أي الآتي نجدا، وفي هذه الصيغة ما يؤكد دلالة الكلمة (جلس) على نجد، الإقليم الذي يتربع في وسط جزيرة العرب.

     

    ب‌)سنام الأرض:

    وهذه التسمية من باب المجاز لعلاقة المشابهة، فكأن الأرض ناقة ونجد سنامها. ولم أقف على هذه التسمية إلا في بيت واحد هو قول بشر بن أبي خازم:

    كفينا من تغيب واستبحنا                          سنام الأرض إذ قحط القطار(11)
         يريد نجدا بعينها، والمعنى إننا قمنا باللازم دون حاجة إى من تعيب منا، وأغرنا على نجد بعد ان اشتدت وطأة القحط، وأرسلنا سائمتنا ترعى حيث شاءت.

     

    ج) العالية أو عالية نجد:

         وقد سميت بها لعلوها على ما حولها من أنحاء الجزيرة العربية، وإشرافه عليه، وإياها أراد الشاعر بقوله:

    إذا هب علوي الرياح وجدتني                            يهش لعلوي الرياح فؤاديا
    وإن هبت الريح الصبا هيجت لنا                      عقابيل حزن لا يجدن مداويا(12)
         إذ المقصود بعلوي الرياح ما هب منها من قبل العالية ... نجد. ومثله قول المجنون الذي سيأتي بعد قليل.

    د) والشرف هو كبد نجد:

         وكانت منازل الملوك من بني آكل المرار "مملكة كندة قبيلة امرئ القيس الشاعر الجاهلي المشهور" وفيه اليوم حمى ضرية ... وفي الشرف الرُّبْدة، وهي الحمى الأيمن، والشُّريف إلى جنبه يفرق بينه وبين الشرف والشريف واد يقال له النسرير (13).

     

    المناخ والبيئة الطبيعية:

         يسود منطقة نجد مناخ قاري، حار صيفا بارد شتاء، شديد الحرارة نهارا، شديد البرودة ليلا، وقد نقف على هذه الحقائقفي أشعارهم، قال أحد الأعراب:

    ألا أيها البرق الذي بات يرتقي                        ذرى الظلماء ذكرتني نجدا
    ألم تر أن الليل يقصر طوله                            بنجد، وتزداد النطاف به بردا (14)
    والنطاف جمع نطفة، وهي القليل من الماء يتجمع في الأقلات وتجاويف الصخور. أما في الصيف فإن الحرّ يشتد فيه إلى درجة عالية، وما أرى تخليدهم ريح الصبا في أشعارهم إلا صدى لما يلاقونه من حمّارة القيظ ولفح الهواجر، وخير ما يوضح ذلك تلك الأبيات التي استطارت في الآفاق وجازوت حدود نجد إلى الأصقاع المختلفة ـ التي تغنى بها ابن الدُّمَينة قبل أكثر من ألف عام حيث قال:

    ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد                لقد زادني مسراك وجدا على وجد(15)
    ...... إلى آخر القصيدة.

         ولما كانت البلاد هي البلاد، والمناخ هو المناخ، فقد أطربت هذه القصيدة كل مستمع، حيث جرت على لسان المطرب الخليجي عوض دوخي نغما شجيا ولحنا عميق الأثر في النفس.

         ولعل في الخبر الذي أورده أبو علي القالي في أماليه (16) ما يؤكد ما قدمنا، حيث روي أن رجلا من أهل تهامة تزوج امرأة من أهل نجد، فأخرجها إلى تهامة، فلما أصابها حرُّها قالت: ما فعلت ريح كانت تأتينا ونحن بنجد يقال لها الصبا؟ قال: يحبسها عنك هذان الجبلان (يعني جبلي نعمان) فأنشدت:

    أيا جبلي نعمان بالله خليا                       نسيم الصبا يعبر إلينا نسيمها
    أجد بردها أو تشف مني حرارة                  على كبد لم يبق إلا صميمها
    فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت                    على نفس مهموم تجلت همومها
         والصبا ريح شرقية تهب على نجد من قبل الخليج العربي، فتكون رطبة تنعش الجو بما تحمله من رطوبة الخليج وتلطفه، قال أبو صخر الهذلي (17) في جهة مهبها:

    إذا قلت حين أسلو يهيّجُني                           نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
    أي من قبل المشرق.

         وإذا انخرقت ريح الصبا في نجد، وتجاوزتها إلى الغرب تكون قد فقدت نداوتها، ولم تعد تلطف الجو، ولكنها على العكس من ذلك، تثير الغبار وتؤدي الناس، قال أبو ذؤيب الهذلي:

    تكركره نجدية وتحده                        مسفسفة فوق التراب معوج (18)
         أي تعصف به وتطيره من مكان لآخر ريح تهب من قبل نجد، ولذلك فقد نسبها إليها ـ نجديّة!! وهي الصبا بعد أن تنخرق في هضبة نجد، وتعبرها في اتجاه الغرب، والمسفسفة التي لا ترتفع فوق الأرض، فهي تثير الغبار، أما المعوج فهي السريعة.

         ونجد بلاد نزهة، وذلك بسبب جفافها، فالأوبئة والوخم لا تكون إلا في البلاد الرطبة حيث يكثر الماء والكلأ، وفي أماكن لإقامة الدائمة، وليس في المنتجعات والمرادات والمرابع والدارات والهجر وغيرها من أماكن النزول الموسمية. وتتضح بعض هذه الصفات في أشعارهم، ومن ذلك قول نوح بن جرير الخطفي:

    أذا العرش لا تجعل ببغداد ميتتي                         ولكن بنجد، حبذا بلدا نجدا
    بلاد نأت عنها البراغيث والتقى             بها العين والآرام والع‘فْر والرّبْد (19)
         ولم يكن نوح هو الوحيد الذي يرى ذلك، فهذا عبد الرحمن بن دارة يوصي بأن يدفن في نجد، ولئن فضلها نوح على بغداد العراق، فهذا عبد الرحمن بن حسان يفضلها على حمص / الشام، قال:

    خليلي إن حانت بحمص منيتي                    فلا تدفناني وارفعاني إى نجد (19)
         وروى ياقوت الحموي أن بعض أهل حجر قدم إلى بغداد فاستوبأها؛ وذلك لكثرة الرطوبات من مياه دجلة ونتح الأشجار، فقال:

    أرى الريف يدنو كل يوم وليلة                          وأزداد من نجد وصاحبه بعدا
    ألا لإن بغدادا بلاد بغيضة                      إلي وإن كانت معيشتها رغدا
    بلاد تهب الريح فيها مريضة                       وتزداد خبثا حين تمطر أو تندى (20)
         إن هذه الأبيات لتذكرنا بقصة ميسون بنت بحدل الكلبية، زوج معاوية بن أبي سفيان، التي لم ترقها الحياة في نعيم دمشق وقصور بني أمية، وآثرت عليها بادية الشام حيث كانت تتجول قبيلتها ـ بنو كلب ـ فقالت أبياتها المشهورة التي أولها:

    لبيت تخفق الأرواح فيه                           أحب إلي من قصر منيف
    ولبس عباءة وتقرّ عيني                      أحب إلي من لبس الشفوف(21)
    ......

    فلما سمعها معوية سرّحها.

         فنجد ليست تزداد خبثا حين تمطر أو تندى ولكنها، على العكس من ذلك، تغدو عبقة بروائحها الطيبة، من شذا العرار والأقحوان، ومن ترابها الذي ما لإن يمسه المطر حتى تفوح منه الروائح الزكية، قال شاعرهم:

    أكرر طرفي نحو نجد وإنني                  إليه، وإن لم يدرك الطرف، أنظر
    حنينا إلى أرض كأن ترابها                  إذا مطرت عود ومسك وعنبر
    بلاد كأن الأقحوان بروضه                 ونور الأقاحي وشي بُردٍ محبَّر (22)
    وقال آخر:

    فيا حبذا نجد وطيب هوائه                      إذا هضبته بالعشي هواضبه (23)
         والمعنى: إذا أصابه المطر ... الغزير مساء. وجدير بالذكر هنا أن الأرض، أيا كانت ، تفوح برائحة خاصة في أعقاب المطر أو ما يتنزل في موسمه
    (Fragrance) وهي رائحة مميزة، وغالبا ما تكون طيبة، وخصوصا في الأرض العذاة وفي نزه الفلاة، وهذا ما أراده الشاعران هنا، حيث صرحا بذلك مقرونا بالمطر.  ونجد من أنزه بلاد العرب لجفافها وطبيعة أرضها وتضاريسها.

         وقال شاعر آخر، وفي قوله ما يوضح مدى تعلق العرب بنجد، بالرغم مما كان عليه عيشها من شظف:

    ما وَجْدُ أعرابية قذفت بها                          صروف النوى من حيث لم تك ظنتِ
    تمنت أحاليب الرعاة وخيمة                  بنجد، فلم يقدر لها ما تمنت
    إذا ذكرت ماء الفضاء وطيبه                وبرد الحصى من نحو نجد أرنتِ
    بأوجَدَ من وجدٍ بريّا وجدتُه                   غداة غدونا غربة واطمأنت (24)
         فهذه الأعرابية غدت مضرب المثل في شدة الشوق إلى نجد حتى لو لم تجد فيه إلا حليب ناقة وخيمة، ولكن شوق هذا الشاعر إلى "ريا" أشد من شوقها إلى نجد ... إنه أعظم مما يستعظمه هو والناس.

     

    لواعج البرق والهوى:

         يقف المطالع في أدب العرب على ما كان للبرق من مكانة أثيرة عندهم، ذلك لأنه غالبا ما يكون غبّ مطر جيد، ولما كان المطر من أهم مصادر المياه في بلاد العرب، وعماد الحياة فيها، سواء لهم ولأنعامهم وزروعهم، فقد اقترن ذلك كله بموقف وجداني عميق تجاه البيئة الطبيعية، يتمثل في التعلق بها وحبها إلى درجة الاتحاد معها جزءا فطريا منها لا يتجزأ.

    ونجد ـ مثلها مثل تهامة بكثرة، واليمن قليلا ـ أكثر البلدان التي أضيفت إليها البروق،يراها أبناؤها المغتربون عنها، فتهيج ذكرياتهم، وتبعث فيهم الآمال للعودة إليها على نحو ما نجده في آثارهم قديما وحديثا. ومن يستمع إلى بعض الأصوات ـ ضرب من الغناء الشعبي منتشر في بلدان الخليج العربي ـ يقف على عبارة مثل: "لمع البرق اليماني" تتردد فيها، ولو لم يكن اليمن قريبا منها، ذلك أن اليمن ـ كنجد ـ غدا في الأدب العربي مبعث شوق، ومحط آمال المغتربين من أبنائه، فاكتسبت الكلمتان ( نجد واليمن ـ تهامة ) دلالات هامشية تقع على معنى الهوى والعشق والحنين ودواعيها وما يثيرها، تماما مثلما قال شاعرهم:

    يذكرني لمع البروق منازلي                             بنجد وأهليها، فأضنى بها وجدا
    وهذي النوى حُكْم من الله نازل                      وما كنت ممن يستطيع له ردا(25)
    وقال أعرابي في الموضع نفسه:

    رأيت بروقا داعيات إلى الهوى                          فبشرت نفسي أن نجدا أشيمها
    إذا ذكر الأوطان عندي ذكرته                           وبشرت نفسي أن نجدا أقيمها(26)
         فالبرق يذكر الشاعر بمنازله وأهله في نجد، وهي، في البيتين الأخيرين، تدعوه إلى الهوى، وتبشره بأنه أصبح قريبا من نجد.

         وجاء في معجم البلدان أن عشرة من الخوارج، أدخلوا على عبد الملك بن مروان، فأراد أن يضرب رقابهم، وكان يوم غيم ومطر وبرق ورعد، فضربت رقاب تسعة منهم، وقدم العاشر ليضرب عنقه، فبرقت برقة فأنشأ يقول:

    تألق البرق نجديا فقلت له                              يا أيها البرق إني عنك مشغول
    بذلّةِ العقلِ حيران بمعتكف                   في كفه كحباب الماء مسلول (27)
         يقصد ان البرق كان جديرا بإثارة كوامنه وتحريك وجدانه وأحاسيسه، ولكن الموقف العصيب الذي يقفه جعله مشغولا عنه، وحال دون استجابة عواطفه لأثره.

         فقال عبد الملك: ما أحسبك إلا حننت إلى أهلك ووطنك، وقد كنت عاشقا؟!! قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: لو سبق شعرك قتل أصحابك لوهبناهم لك، خلّوا سبيله، فخلوه.

         وجدير بالذكر أن البرق يتشكل بكثرة فوق نجد وتهامة وصدر عسير، لارتفاعها أولا، ولأن تهامة وصدر عسير أول ما يعترض السحب القادمة من فوق البحر الأحمر، ونظرا لكثرة ما يتهيّأ للسحب التي تصل نجد من أسباب التأين والشحن الكهربائي نتيجة للتقلبات المناخية والرياح والعواصف الرملية التي تكتنف المنطقة من حين لآخر.

         ومما يؤكد الدلالة الجديدة التي بدأت تكتسبها كلمة "نجد" على المعنى، وإن لم يكونوا من أهل نجد، فها هو سعيد بن حُمَيد المذحجي المعروف بالدوقلة، يخاطب محبوبته مستخدما الإتهام والإنجاد المشتقين من تهامة ونجد لمعنيين مرتبطين بذلك النوع من المشاعر الدافئة، فقال:

    إن تتهمي فتهامة وطني                                 أو تنجدي يكن الهوى نجد(28)
         أي إنني أهوى من الأماكن حيث تكونين، وما نراه اختار نجدا وتهامة إلا لارتباطهما في الذهن الشعبي العربي بالهوى والعشق حتى لقد غدتا علمين عليهما، تماما كما هي الحال بالنسبة للاسم "ليلى" من قولهم "كل يغني على ليلاه" و "سعاد" في المقدمات الطللية، حيث شاعت عبارة "بانت سعاد" في كثير من قصائدهم، فقد رُوي أن الأصمعي كان يحفظ ستة عشر ألف قصيدة ومقطعة تبدأ بقول الشاعر: بانت سعاد!!!

         وقد نشير هنا إلى أم كل ما وقفنا عليه من الآثار والأشعار التي تشرح العلاقات السابقة بين نجد ودلالتها على الهوى والعشق هو إسلامي، وتوجيه ذلك أن كثيرا من أهلها التحقوا بالجيش الإسلامي في العراق والشام وغيرها، وأقاموا في الأمصار المفتوحة، فهيّج البعد مشاعرهم، وأنطقهم من الشعر بما بثوا فيه أحاسيسهم تجاهها، فكان على نحو ما تقدم.

         ومما يوضح انتشار الدلالة السابقة بين النجديين وشيوع استخدام اللفظ لهذا الغرض ما ينسب لعبد الله بن عجلان النهدي (29) وهو حجازي، من قوله:

    بكى، فرنت له أجبال صبح                       وأسعدت الجبال به مروت
    حجازي الهوى علقٌ بنجد                  جويٌّ لا يعيش ولا يموت
    كأن فؤاده كفّا غريق              تنازعه بشط البحر حوت (30)
         والشاعر ها هنا يستبكي لبكائه الجبال، فلم يجدها كافية، حتى شاركها في ذلك الصحاري والفلوات، وهو حجازي الحب، ولكن محبوبته "نجد" أي فتاة بنجد وقد أضناه حبها حتى كاد يقتله.

         وليس الشعراء وحدهم هم الذين يحنون إلى نجد، بل إن الإبل هي الأخرى تحن إليها، وجدير بالذكر هنا أن الوطن وحبه والحنين إليه ألصق بالإبل، وقد نُقلَت هذه الألفاظ والعواطف من عالم الجمل إلى عالم الإنسان. فالإبل أنزع من الإنسان للوطن وقد فُطرت على ذلك مذ كانت.

    وقال رجل من تميم:

    حنّت قلوصي من عدان إلى نجد                ولم ينسها أوطانها قدم العهد (31)
         بل إن الحنين، الذي هو الشوق للوطن والأهل ونحوهما، هو في الأصل صوت يصد عن الناقة إذا طلبت حوارها لترضعه، ولما كان ذلك مقرونا ـ في العادة ـ بعاطفة جيّاشة، فقد استساغ العربيّ أن ينقل الكلمة لدائرة الإنسان بمعناها الشائع اليوم.

         ومن المقارنات الطريفة بين الإنسان والإبل، ما أنشده المبرّد لبعض الأعراب في الحنين، حيث قال في ناقته:

    حنّت وما عقلت فكيف إذا بكى                       شوقا يُلام على البكا من يعقل
    ذكرتْ قرى نجد، فأطلقه الهوى                  وقرى العراق وليلهنّ الطول (32)
         وهذه الناقة لم تحنّ جريا على عادة الإبل، بمناسبة وبغير مناسبة، بل لأنها تذكرت نجدا، فذكّره حنينها بما أطلق وجده وحرّك أشجانه، وإنه لأحقّ منها بذلك، فهو يعقل، وهي لا تعقل، والشوق أخص بالعاقل من سواه.

         ومن الأشعار التي تجردت فيها كلمة نجد علما على موطن الهوى والمحبو، قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وهو حجازي شامي، يتغزّل:

    سقى الغيث ذلك الغور ما سكنت به            ونجدا إذا صارت نواها إلى نجد (33)

         وما نراه استخدم الكلمة اضطرارا لإقامة الوزن وطلبا للروي، بل انسجاما مع ما درجت عليه العرب، وما شاع عندهم من إضفاء معنى المحبة والعشق والهوى لتلك الكلمة، لعلاقة البيئة التي تقع عليها، وبما فطر عليه إنسانها من تعلق بها لأسباب مختلفة.

         وقريب من البيت السابق قول جرير وهو بالكوفة:

    أحب ثرى نجد وبالغور حاجة                    فغار الهوى يا عبد قيس وأنجدا(34)
    يعني ان مواضعه اختلفت، فحبه لنجد فطري قديم، يسري في عروقه منذ نشأته، وحبه لتهامة (الغور) عارض حديث، لأن الحبيب اتخذ منها دار إقامة.

         ومما يؤكد عمق العلاقة الدلالية بين نجد كلمة وأرضا، وبين المعاني العاطفية التي سبق ذكرها، ما حكاه الهيثم بن عدي عن أبي مسكين من خبر قيس بن الملوح، قال: خرج منا فتى، حتى إذا كان ببئر ميمون، إذا جماعة على جبل من تلك الجبال ، وإذا بينهم فتى قد تعلقوا به، مديد القامة، طوال أبيض، جعد الشعر، أعين، أحسن من رأيت من الرجال، وإذا هو مصفرّ مهزول شاحب اللون، قال: سألت عنه، فقالوا: هذا قيس الذي يقال له المجنون، خرج به أبوه الملوّح حين ابتلي بما به إلى الحَرَم، مستجيرا بالبيت لعل الله أن يفرج عنه، فقلت: ما يصنع ها هنا، ومالكم تمسكونه، قال: لما يصنع بنفسه، فإنه يصنع بها صنيعا يرحمه منه عدوه ويقول: أخرجوني أتنسمصبا نجد، فنخرجه ها هنا، فيستقبل بلاد نجد عسى ان تهب له الصبا، ونكره ان نخلي سبيله فيرمي بنفسه من الجبل، فلو شئت دنوت منه فأعلمته أنك قدمت من نجد، فيسألك عنها وعن بلاده فتخبره !! فقلت: أفعل، فقالوا: يا أبا المهدي! هذا رجل قدم من نجد، فتنفس تنفسا ظننت أن كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألني عن وادٍ وادٍ، وموضع موضع، وأنا أصف ذلك له، وهو يبكي أحرّ بكاء وأوجعه للقلب، ثم قال:

    ألا ليت شعري عن عوزارضتي قنا              لطول الليالي هل تغيرتا بعدي؟
    وعن علويات الرياح إذا جرت                  بريح الخزامى هل تهب على نجد
    وعن أقحوان الرمل ما هو فاعل                إذا هو أسري ليلة بثرى جعد (35)

    سقى الله نجدا:

         ونظرا لما تقدم بيانه من المكانة الأثيرة التي حظيت بها نجد عند الشعراء وعامة الناس، فقد آثروها بطلب السقيا لها، وذلك شأن العرب جميعا مع بلادهم وأوطانهم، لا سيما إذا شطت بهم يد النوى، غير أن نجدا اوفر من غيرها حظا لما استطار من شهرتها، وإنها غدت علما على المحبة والعشق، قال عبيد الله بن الدمينة في داليته المشهورة (36):

    سقى الله نجدا والمقيم بأرضها                    سحابا ثقالا خاليات من الرعد
         وذلك أغزر لمطره وأعم، وأنفع للأرض ومن عليها. وقال القريطية وقد ارتحل أهلها عن نجد:

    سقى الله نجدا من ربيع وصيف               وماذا نرجّي من ربيع سقى نجدا
    على أنه قد كان للعيش مرة            وللبيض والفتيان منزلة حمدا (37)
         إن في هذين البيتين ما يوضح لواعج الشوق الذي يستكنّ في فؤاد هذه المرأة لنجد، فهي بعيدة قد ارتحلت عنه، ومع ذلك فهي تدعو له بالسقيا، لأنه يكفي انه كان يوما ملعبا للشباب وللحسان.

     

    *********************

         إن في تعقب التطورات التي طرأت على تاريخ هذه الكلمة (نجد) ما يوضح عمق العلاقة بين الإنسان والبيئة بوجه عام، والخصوصية التي امتاز بها "نجد" عن غيره من المواضع، سواء في هوائه ونسائمه، وفي تنزهه عن الأوبئة والرطوبات، ودروج اسمه على ألسن الشعراء، يلهجون بذكره والتغني به، بالرغم من شظف عيشه، حتى غدا اسمع علما على العشق والهوى ... كان ... وما يزال، وسيظل مادامت الصبا تأتيه رخاء، ومادام شيحه وأقحوانه وعراره ... بإذن الله.

     

    الهوامش والمراجع:

    1.    سورة البلد ـ الآية 10.

    2.    الطرماح بن حكيم الطائي ـ ديوانه، تحقيق صلاح الدين الهادي ـ ص192.

    3.    الأصمعي، عبد الملك بن قريب ـ الأصمعيات، ص192.

    4.  ابن ماجد، الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، تحقيق عزة حسين وزميله، منشورات مجمع اللغة العربية بدمشق، عام 1971.

    5.    ابن بنين، سليمان، اتفاق المباني وافتراق المعاني، تحقيق يحيى عبد الرؤوف جبر، دار عمار، عمان، 1985، ص 202.

    6.    الأصمعي، ص108.

    7.    سورة الملك ـ الآية 30.

    8.    بروكلمان ـ كارل، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة منير بعلبكي، بيروت، 1/10.

    9.    الأحوص، مستدرك شعر الأحوص، مجلة المورد، ص91.

    10.          العرجي، ديوانه، ص11.

    11.          الضبي، المفضل الضبي، المفضليات، ص343.

    12.          الحموي، ياقوت ـ معجم البلدان، بيروت، دار صادر ودار بيروت، 1973، ج4، ص71.

    13.    ابن جنيدل، سعد بن عبد الله، المعجم الجغرافي لعالية نجد، منشورات دار اليمامة بالرياض، مطبعة نهضة مصر، 1978، 1/11.

    14.          ابن بنيت، ص202.

    15.          ابن الدمينة، ديوانه، ص29.

    16.          2/181.

    17.          المسعودي ـ التنبيه والإشراف، ص18.

    18.          السكري ـ شرح أشعار الهذليين، القاهرة، ص131.

    19.          ياقوت ـ معجم البلدان، 5/64

    20.          المرجع نفسه، 5/265.

    21.          شواهد سيبويه، 1/436.

    22.          ياقوت 5/262،263.

    23.          المرجع نفسه 5/263.

    24.    الزجاجي ـ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحق، الأمالي، تحقيق عبد السلام هارون، ط2، دار الجيل، بيروت 1987، ص24، 25.

    25.          أسامة بن منقذ ـ المنازل والديار، منشورات المكتب الإسلامي 1/47، ط1، بيروت 1980.

    26.          ياقوت 5/263.

    27.          المرجع نفسه 5/264.

    28.          ابن خير ـ الفهرست، طبعة سرفسطة، ص104، ومجلة الزهراء، المجلد الثالث، ص224، 362.

    29.          نسبة إلى نهد النزارية، وكان أحبها حبا شديدا فمات به.

    30.    ابن دريد ـ الأمالي، تحقيق السيد مصطفى السنوسي، ط1، الكويت، 1984، ص94، وانظر ديوان الهذليين 3/13 والأغاني (ط دار الكتب) 20/22، وأمالي القالي 2/219، والأخبار الموفقيات للزبير بن بكار، تحقيق سامي العاني، ص513، 514.

    31.          أسامة بن منقذ 2/13.

    32.          الزجاجي ص201.

    33.          أبو الفرج الأصفهاني ـ الأغاني (ط دار الكتب) 2/21، وديوان قيس بن الملوح ص 113.

    34.          ابن الدمينة ـ ديوانه ص29.

    35.          أسامة بن منقذ 1/91.

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

  • No Attachments Found for this Article

PROFILE

Yahya Abdul-Raouf Othman Jaber
علم اللغة
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me