An-Najah National University

An-Najah Blogs

 

 
  • Bookmark and Share Email
     
  • Saturday, January 1, 1994
  • المسلمون بين الأمس واليوم
  • Published at:Not Found
  • المسلمون بين الأمس واليوم

     

    كان العرب قبل الإسلام في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء … وشاءت إرادة المولى – عزّ وجل – أن يبعث فيهم رسولاً منهم "يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة : 2). وأن يخرجهم من عبادة الطاغوت – وهو كل ما يعبد دون الله-، إلى عبادة الله تعالى وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام.

     

    دعاهم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى كلمة التوحيد التي بعث بها الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – جميعاً، وحذّرهم أيضاً مما يناقضها من الكفر والشرك والجاهلية. وكان الناس آنذاك – من آمن منهم ومن كفر – يفهمون جيّداً ما جاء به الدين الجديد، ويعرفون ما يترتّب على الإيمان ب (لا إله إلا الله)؛ من الفهم الصحيح، والسلوك السوي، وعدم الفصل بين القول والعمل، وما يقتضي هذا الإيمان من تغيير جذري في واقع الحياة.

     

    ومكث (صلى الله عليه وآله وسلم) طوال العهد المكي وهو يدعو لهذه الكلمة (لا إله إلا الله)، ويغرس في نفوس أتباعه ما تعنيه هذه العقيدة من معان … .

     

    فآمن من آمن وهو يعرف حقيقة هذا الدين، وكفر من كفر وهو يعرف حقيقة هذا الدين.

     

    وبعث رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ب (لا إله إلا الله) أي بنفي الألوهية عما سوى الله – من إنسان أو حيوان أو جماد أو شيء معنوي – وبإثبات الألوهية لله ربّ العالمين لا شريك له.

     

    (لا إله إلا الله):

    معناها : لا معبود بحقّ إلا الله، ومن مقتضاها: أن لا حاكم إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله، ولا معزّ ولا مذلّ إلا الله، ولا مشرّع إلا الله، ولا متصرّف في الكون – بمن فيه وما فيه – إلا الله، ولا آمر ولا ناهي إلا الله، ولا معطي ولا مانع إلا الله. ومن مقتضاها كذلك: طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع! وأنّ الله – سبحانه وتعالى – هو وحده السيّد المطاع، والربّ المعبود، وهو الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

     

    وبالإضافة للحديث عن (لا إله إلا الله) في العهد المكي، تحدثت الآيات القرآنية عن أركان الإيمان؛ من إيمان بالملائكة الكرام وبالكتب السماوية وبالأنبياء والرسل (عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) وباليوم الآخر وبالقضاء و القدر.

    وهكذا فقد آمن من آمن عن بيّنة، وكفر من كفر عن بيّنة.

     

    وبعد أن غرست العقيدة – ركيزة الإسلام الكبرى – في نفوس المؤمنين، أصبح من السهل بعد ذلك تنفيذ الشريعة – بأوامرها ونواهيها – تنفيذاً جادّاً متناسباً والدين الجديد وما يقتضيه من طاعة.

     

    ولم يبدأ – صلى الله عليه وآله وسلم – بالدعوة إلى إصلاح الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو الحربية … مع أنّ إصلاح أيّ من هذه الأوضاع عمل رائع جميل، يستحق جهداً كبيراً: ذلك لأنّ الحكيم الخبير العليم – جلّ جلاله – يعلم أنّ هذا ليس هو الطريق السوي، فالصراط المستقيم هو ما بعث به الأنبياء من قبل: (ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل : 36).

     

    ونتيجة لقيامه – صلى الله عليه وآله وسلم – بواجب الدعوة والتبليغ والإنذار والتبشير خير قيام، آمن به أناس – عاشوا في الجاهلية وعرفوا حقيقتها – رضوا بالله وحده ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد – صلى الله عليه وآله وسلم – نبيّاً ورسولاً.

     

    وبعد تربية هؤلاء – رضوان الله عليهم – طويلاً على عقيدة التوحيد، استطاع صلى الله عليه وآله وسلم – بعون من الله وفضل – أن يقيم دولة الإسلام في المدينة النبوية. وبعد جهاد طويل بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، استطاع هو والمؤمنون معه أن يطهّروا جزيرة العرب من الكفر والشرك، وأن ينشروا فوق ربوعها راية التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله). ثم التحق رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بالرفيق الأعلى، بعد أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة، وتركها على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها سواء. وبعد أن جاهد في الله حقّ جهاده … قام خلفاؤه من بعده – رضي الله عنهم – بالدعوة إلى الله وتبليغ دينه والجهاد في سبيله، وبذلوا في سبيل ذلك أنفسهم وما يملكون.

    وقمع الصحابة – رضي الله عنه – فتنة الردّة، ثم انسابوا في أرض الله، ينادون ب (لا إله إلا الله)، ويجاهدون في سبيل الله من كفر بالله، وأزالوا ظلم القياصرة والأباطرة والأكاسرة – وبقية الطواغيت – عن كواهل الناس.

     

    وبعد انتهاء عهد الراشدين – وهو امتداد لعهد النبوة الزاهر - :

     

    "جاءت الخلافة الأموية" :

    وفي هذا العهد ظلت الأمة الإسلامية بحقّ كما كانت في صدر الإسلام، واستمرت العبادات خالصة من شوائب البدع، وبقي فهم الناس الإسلام صافياً، وسيطرت أخلاق الإسلام على معظم نواحي الحياة، وتعامل الناس بعضهم مع بعض – حكاماً ومحكومين – على أسس إسلامية، وكان الخلفاء يقومون بأركان الإسلام، ويجاهدون في سبيل الله، ويستمعون لنصائح الأئمة في أغلب الأحيان، وفتحت في زمنهم بلاد جديدة ذكر فيها اسم الله كثيراً، وازدهر العلم وكثر العلماء، وبقيت للعلماء هيبتهم وسلطانهم وتأثيرهم على عامة الناس وولاتهم. وتقدمت الحضارة والمدنية والعمران بدون تعارض بينها وبين الدين، بل إن هذا الازدهار كان باسم الله وعلى بركة الله، ولكن حدثت في هذا العهد أمور ما كانت في العهد السابق:

     

    فقد تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض! ففي العهد الراشدي: كانت الخلافة شورى، ينتخب أهل الحل والعقد أوّلاً والأمة ثانياً أكثر الناس صلاحاً للقيام بشئون الدين والدنيا، ثم لا يحرص الخليفة على الخلافة ولا يسألها، ويعتبرها تكليفاً لا تشريفاً، ويودّ لو أنّ غيره قام بأعبائها، ثم حمل الخلفاء أقاربهم والموالين لهم على رقاب الناس. وأسرف الخلفاء والولاة في استعمال الأموال العامة لمصالحهم، وازداد تمتّع غالبية الناس بالحياة وزينتها.

     

    وبعد أن كانت الحروب مقتصرة على الجهاد في سبيل الله، تحوّل بعض المجهود الحربي: للقضاء على الفتن وعلى المعارضين، ولحماية السلطة. وبدأت بذور الفرق الإسلامية في الظهور:

     

    فقد تشيّع أناس لآل البيت وانحازوا لجانبهم وحاربوا من خالفهم، وتغصّب أناس لبني أمية – السلطة الحاكمة – وناصروها، واعتزل أناس فلم ينحازوا لطرف ودعوا لترك الفتنة. ونتيجة لانحراف الخلافة الأموية عن الأخذ بمبدأ الانتخاب والشورى، وبسبب الخلاف حول الإمامة، وبسبب الخلاف حول قتلى المسلمين في المعارك الداخلية: ظهرت فرقة الشيعة، وفرقة الخوارج، وفرقة المعتزلة، وفرقة المرجئة.

    ثم إنّ الفتوحات الإسلامية الجديدة كانت أكبر وأسرع من التربية الإيمانية البطيئة، التي تمّت لمعتنقي الإسلام في العهد الأوّل:

     

    فقد قضى الإسلام على معاقل اليهودية والنصرانية والمجوسية،  ودخل قسم من هؤلاء في الإسلام ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، فقاموا بعملية التخريب من الداخل – فكانوا طابوراً خامساً في حري المسلمين – وعن طريقهم نشأت كثير من الفرق الإسلامية، وخاصة طائفة الشيعة بفرقها المتعددة … .

     

    ولم تعامل الدولة الأموية هؤلاء العجم المعاملة السليمة القائمة على الآية الكريمة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات :13). بل كان العنصر الغالب على الدولة هو العنصر العربي الإسلامي – لا العنصر الإسلامي العربي العجمي. وهذا ما جعل هؤلاء العجم يثيرون المتاعب للدولة فيما بعد، ولهذا – ولظروف وأسباب أخرى – سقطت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية.

     

    "جاءت الخلافة العباسية" :

    وأحوال المسلمين تشبه – إلى حدّ كبير – ما كان عليه الحال في العهد الأموي. فقد بقي مفهوم العبادة في حسّ المسلمين سليماً، وبقي المسجد كما كان يؤدّي دوره المطلوب، وزادت دروس العلم وحلقات الأئمة، واستمرّ العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ودوّنت في هذا العهد مختلف العلوم الدينية والدنيوية.

     

    ويعتبر هذا العهد العصري الذهبي للتأليف وظهور النابغين : فقد برز علماء المذاهب الفقهية، وعلماء الحديث، وعلماء التاريخ، وعلماء اللغة، وعلماء الأدب … وتقدّم المسلمون في علوم الفلك والطبّ و الصيدلة والرياضيات والبصريات وغيرها من العلوم المادية، وفاقوا غيرهم من الأمم باستعمالهم للمنهج التجريبي. وفي هذا العهد أيضاً تمّت فتوحات إسلامية جديدة، وكان هارون الرشيد – رحمه الله – يقول مخاطباً السحابة في السماء: (أمضي حيث شئت فإنّ خراجك عائد إليّ)! وازدهرت التجارة – عن طريق البرّ والبحر – وتقدّم العمران، وازداد تمتّع الناس بزخرف الحياة الدنيا، وكثر المال، وأنشئت المستشفيات المختلفة … وكانت مدينة بغداد – آنذاك – حاضرة الدنيا ومدينة العلوم والعمران والسلام، وساح المسلمون في الأرض، واتّصلوا بغيرهم من الأمم، وعن طريق السياحة والتجارة نشروا الإسلام في أرجاء كثيرة من المعمورة. كل هذا في صدر هذه الدولة الإسلامية الفتية.

     

    ونتيجة لابتعاد المسلمين عن دينهم شيئاً فشيئاً، جرت عليهم السنّة الإلهية:

    " لا ينال عهدي الظالمين" (البقرة : 124). وتفرّقوا إلى دويلات، وتركوا الجهاد في سبيل الله، ودبّ فيهم داء الأمم السابقة حبّ الدنيا وكراهية الموت، وأفل نجم المسلمين عن بلاد سطعت عليها شمس الإسلام حيناً من الدهر، وانتشرت البدع بين الناس، واستبدل التواكل – الذي هو أدنى – بالتوكل – الذي هو خير -، وتخلّف المسلمون عن الإبداع العلمي الذي حققوه، والاختراعات المبتكرة التي قاموا بها، وغرّتهم الحياة الدنيا: "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" (آل عمران: 185). لقد كان لهم – أثناء تمسكهم بالعروة الوثقى – حضارة عظيمة سادت، ولكنها – لمعصيتهم – ذابت ثم بادت! ففي الوقت الذي أخذ فيه القرامطة – لعنهم الله – الحجر الأسود، وألحدوا في حرم الله الآمن، وعاثوا في الأرض فساداً: يقتلون … وينهبون … ويرتكبون الفواحش … في هذا الوقت رأينا بعض المسلمين يهتمون بأمور ثانوية، نتيجة لبعدهم عن روح الدين الإسلامي – بسبب ظهور الفرق والمذاهب والطوائف والملل والأهواء والنحل  - ، وهذه الحادثة التي رواها الحافظ ابن كثير تؤيّد ما نقول :

     

    "ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة … وفيها كان خلع المقتدر … وأخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم … وفي هذه السنة وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي وبين طائفة من العامة، اختلفوا في تفسير قوله تعالى : "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" (الإسراء : 79). فقالت الحنابلة : يجلسه معه على العرش. وقال الآخرون : المراد بذلك الشفاعة العظمى. فاقتتلوا بسبب ذلك، ووقع بينهم قتلى … فإنا لله وإنا إليه راجعون!"([1]).

     

    في هذا العهد أيضاً ازداد الترف والفساد والتوسّع في التمتّع بالملذّات، وانتشر الغناء، وكثرت الجواري، ونبغ كثير من الشعراء المدّاحين … وكان فساداً عامّاً شمل الرعاة والرعية! ثم إنّ ضعف الخلفاء بعد ذلك شجع ظهور الإمارات والدويلات الصغيرة، وإن كانت تتبع ظاهرياً للخلافة العباسية!

     

    كذلك فقد حدث الفساد في أواخر الدولة الإسلامية في الأندلس، حيث دبّ فيهم داء الأمم من قبلهم، وصاروا يحبّون الدنيا ويعمرونها مادياً، ويكرهون الموت والجهاد في سبيل الله، وأصبح بأسهم بينهم شديداً، فمع أنّ ربهم واحد، ودينهم واحد، وقبلتهم واحدة، ودستورهم واحد، إلا أنهم ولاة كثر ودويلات صغيرة متنافسة! وجرت عليهم سنّة الله التي لا تتغيّر "ولن تجد لسنّة الله تبديلا" (فاطر : 43)، فزال عنهم التمكين والخلافة في الأرض : لأنهم ابتعدوا عن شروط الاستخلاف والتمكين : "الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوْا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" (الحج : 42).

     

    ومن عرف الله وعصاه سلّط عليه من لا يعرفه! وهكذا كان … ليس لأنّ أعداء الله أفضل من عصاة المسلمين، بل ليرجع المسلمون إلى دينهم ليعود لهم التمكين في الأرض من جديد. وابتلي المسلمون ببلاء عظيم لا يستطيع المسلم أن يتوسّع في الحديث عنه. فمن من المسلمين يطيق – كما يقول ابن الأثير رحمه الله – أن ينعى الإسلام والمسلمين؟! من يطيق أن يسمع ما آل إليه حال المسلمين على يد المغول؟ ومن يطيق أن يسمع ما آل إليه حال المسلمين على يد الصليبيين في الأندلس أو في بلاد الشام؟ وها نحن أولاء نقدّم قصيدة أبي البقاء الرندي – رحمه الله – التي نعى بها الإسلام والمسلمين، ففيها عبرة  للمعتبرين :

    لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ

    فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ

    هي الأمور كما شاهدتها دول

    من سرّه زمن ساءته أزمانُ

    وهذه الدار لا تبقي على أحد

    ولا يدوم على حال لها شانُ

    يمزّق الدهر حتماً كلّ سابغة

    إذا نَبَتْ مشرفيّات وخرصانُ

    وينتضي كل سيف للفناء ولو

    كان ابن ذي يزن والغمد غمدانُ

    أين الملوك ذوو التيجان من يَمن؟

    وأين منهم أكاليل وتيجانُ؟

    وأين ما شاده شداد في إرم؟

    وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟

    وأين ما حازه قارون من ذهب؟

    وأين عاد وشداد وقحطان.

    أتى على الكل أمر لا مردّ له

    حتى قضوا فكأنّ القوم ما كانوا

    وصار ما كان من مُلْك ومن مَلِك

    كما حكى عن خيال الطيف وسنانُ

    دار الزمان على (دارا) وقاتله

    وأمّ كسرى فما آواه إيوانُ

    كأنما الصعب لم يسهل له سبب

    يوماً ولا ملك الدنيا سليمانُ

    فجائع الدهر أنواع منوّعة

    وللزمان مسرات وأحزانُ

    وللحوادث سلوان يسهّلها

    وما لما حلّ بالإسلام سلوانُ

    دهى الجزيرة أمر لا عزاء له

    هوى له أحد وانهدّ ثهلانُ

    فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

    وأين شاطبةٌ أم أين حيّانُ؟

    وأين قرطبةٌ دار العلوم فكم

    من عالم قد سما فيها له شانُ؟

    وأين حمصٌ وما تحويه من نُزَهٍ

    ونهرها العذب فيّاض وملآنُ؟

    قواعدٌ كنّ أركان البلاد فما

    عسى البقاء إذا لم تبق أركانُ؟

    تبكي الحنيفيّة البيضاء من أسف

    كما بكى لفراق الإلف هيمانُ

    على ديار من الإسلام خالية

    قد أقفرت ولها بالكفر عمرانُ

    حيث المساجد قد صارت كنائس ما

    فيهنّ إلا نواقيس وصلْبانُ

    حتى المحاريب تبكي وهي جامدة

    حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ

    يا غافلاً وله في الدهر موعظة

    إن كنت في سِنَة فالدهر يقظانُ

    وماشياً مرحاً يلهيه موطنه

    أبعد حمص تغرّ المرء أوطانُ؟!

    تلك المصيبة أنست ما تقدّمها

    ومالها مع طول الدهر نسيانُ

    يا راكبين عتاق الخيل ضامرة

    كأنها في مجال السبق عقبانُ

    وحاملين سيوف الهند مرهفة

    كأنها في ظلام النقع نيرانُ

    وراتعين وراء البحر في دعة

    لهم بأوطانهم عزّ وسلطانُ

    أعندكم نبأ من أهل أندلس؟

    فقد سرى بحديث القوم ركبانُ!

    لمثل هذا يذوب القلب من كمدِ

    إن كان في القلب إسلام وإيمانُ([2])

     

    لقد احتل الصليبيون بلاد الشام، ومكثوا في بيت المقدس سنوات طويلة يهلكون الحرث والنسل، ويشهدون الله والناس والتاريخ والعدوّ والصديق، أنهم حثالة البشرية وأحقر الإنسانية، فجرة كفرة، لا ذمة لهم ولا عهد ولا وفاء، ولا ذرّة من خلق أو فضيلة، طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد! بعد ذلك صبّ الله عليهم سوء عذاب، بوساطة من أعزّ الله به الإسلام وأعزّه بالإسلام، السلطان المظفّر والمجاهد البطل والإمام العادل صلاح الدين الأيوبيّ رحمه الله.

     

    جاء صلاح الدين والمسلمون متنافرون متناحرون متباغضون متحاسدون! لكل ولاية أمير! لا تجمعهم دولة ولا توحّدهم راية! فوحّدهم على كلمة (لا إله إلا الله) وانتزع من قلوبهم حبّ الدنيا وكراهية الموت، ونادى في الناس : (الجنّة تحت ظلال السيوف)، فهرع الناس للجهاد زرافات ووحدانا، وانتصروا على جحافل الصليبيين في معركة حطين، التي أعز الله بها الإسلام والمسلمين.

     


    بعد ذلك عاث التتار في أرض المسلمين فسادا … وعلوا في الأرض علواً كبيراً، وجاسوا خلال الديار، يقتّلون الرجال ويذبّحون الأطفال والنساء والشيوخ! لا يخرجون من بلد إلا بعد أن يتركوه قاعاً صفصفاً! وقضت إرادة المولى جل وعلا ألا يهلك المسلمين بسنة عامة، وألا يستبيح عدوّهم بيضتهم ويهلك خضراءهم، فبعث الله لهذه الأمة من وحّد كلمتها وأعادها إلى حظيرة الإسلام من جديد، وصاح في الناس : واإسلاماه! حيّ على الفلاح! حيّ على الجهاد!. وهبّ المسلمون من نومهم، وجفا الكرى أعينهم، وعافوا الشهيّ من المطعم، ولم يقرّ لهم قرار حتى فازوا بإحدى الحسنيين، وانتصروا بقيادة سيف الله قطز – رحمه الله – على وحوش الغاب من المغول، في معركة عين جالوت الخالدة.

     

    ووقف التاريخ خاشعاً أمام هذا الانتصار الباهر، وسجّله بمداد من نور، وتلا فَمُ الزمان أنشودة النصر التي صيغت على لحن الجهاد! ومع وجود إيجابيات في الخلافة العباسية، إلا أنّ هنالك أيضاً سلبيات كثيرة أهمها:

     

    استمرت الخلافة ملكاً عضوضاً – كما كان الحال في الخلافة الأموية – وهذا أدّى لحمل الأسرة الحاكمة ومواليها على رقاب الناس – وترجمت في هذا العهد الكتب اليونانية – بما فيها من فلسفة ومنطق – فأدى هذا لنشأة علم الكلام وظهور الفلاسفة وعلماء الجدل والمناظرة، وازدادت الفجوة بالتالي بين الفرق والمذاهب  الإسلامية المختلفة، ونتيجة لهذه الترجمة ظهر القول بخلق القرآن، وامتحن أئمة السلف لذلك. واستمر التشيّع في رفع لواء المعارضة، بعد أن اندسّ فيه الزنادقة والحاقدون على الإسلام من يهود ومجوس ونصارى!

     

    وفي هذا العهد أيضاً: كثرت الحروب الداخلية للقضاء على الخارجين على الدولة، وعلى المارقين، وعلى الفرق الضالّة. واعتمد الخلفاء العباسيون – على النقيض من الأمويين – على العنصر الفارسي الذي ساعدهم في هزيمة الأمويين، وهذا لا غبار عليه لو أنهم أذابوا الفوارق الجنسية جميعها وصهروها في بوتقة واحدة – هي التقوى – كما كان الحال في صدر الإسلام، ولكنهم غلّبوا جانباً على جانب آخر … فأثاروا العداوة والبغضاء والتحاسد والتدابر والعصبية بين رعايا الدولة!

     

    وأصبح الخلفاء – في أواخر الدولة العباسية – ألعوبة بيد الأتراك، يعزلون … وينصّبون … ويقتلون …

     

    وفي هذا العهد انتشرت الطرق الصوفية وانتشرت معها البدع والخرافات … ولأول مرة في تاريخ الإسلام وجدت هناك دولتان إسلاميتان يحكمهما خليفتان : الدولة العباسية في معظم البلاد الإسلامية، والدولة الأموية في الأندلس.

     

    وظهرت في العالم الإسلامي – نتيجة للتخلّف الديني ومن ثمّ التخلّف العلمي – دويلات كثيرة، وأصبح المسلمون كالغنم بدون راع! وطمع فيهم الأعداء، وصاروا كالأيتام على مأدبة اللئام! وكما قيل:

    (اشتدي أزمة تنفرجي

    قد آذن ليلك بالبلج)

     

    فقد لاحت في هذه الشدائد تباشير النصر، وانبثق النور، وجاء الفرج بعد الشدّة، ويسرّ الله تعالى لهذه الأمة الأتراك – العثمانيين – ليحملوا راية الإسلام من جديد!

     

    ومن أهم الإيجابيات التي حققتها الخلافة العثمانية:

    أنها وحّدت معظم البلاد الإسلامية وأخضعتها لسيطرة الخلافة، وأنها حمت البلاد الإسلامية طوال قرون من تسلط الأعداء عليها، وأنها كانت أكبر دولة في الأرض آنذاك، وأنها فتحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية – القسطنطينية – التي كانت حلماً يراود المسلمين منذ فجر الإسلام، وأنها دقت أسوار فينا، وأنها انتزعت من الصليبيين أصقاعاً كثيرة بعد أن غزتهم في عقر دارهم ومرّغت أنوف طواغيتهم بالتراب! وأنها في أواخر عهدها – وهي على فراش الموت – رفضت تنفيذ المخطّط الصليبي اليهودي العالمي، بإعطاء شبر من فلسطين لشذّاذ الآفاق وجذور البلاء! ومع ما سنذكره عن هذه الخلافة من سلبيات، فسيبقى لهذه الخلافة الإسلامية الذكر الخالد والثناء العطر، وحسبها أنها فتحت عاصمة الروم وحمت بلاد المسلمين: (فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) ([3]) الذي جعل من كنيسة أيا صوفيا مسجداً يذكر فيه اسم الله كثيراً.

     

    سلبيات الخلافة العثمانية:

    لقد استمرت الأسرة الحاكمة – من الأتراك العثمانيين – في الحكم على أساس الملك العضوض، لا على أساس الانتخاب والشورى!

     

    ثم إنّ هذه الخلافة هي الوحيدة في تاريخ الإسلام التي لم تستعرب، فكان الطابع التركي العثماني هو الغالب عليها! ونتيجة لذلك، ولعدم صهر جميع عناصر الدولة في بوتقة الإسلام، ظهرت القوميّات المختلفة في نهاية عهد الخلافة، وهذا أدّى فيما بعد لتقويض الخلافة الإسلامية، والاحتلال الأوروبيّ للدّيار الإسلامية.

     

    ولم توافق الخلافة العثمانية – بحسن نيه – على إعادة فتح باب الاجتهاد – الذي أغلق في زمن انحطاط الخلافة العباسية - ، فاستجدت أشياء لم تكن في العهود السابقة، فلم تجد الحلول لها أو الإجابات عليها، فكان ذلك من الأسباب التي ساعدت – فيما بعد – على حلول القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية.

     

    وفي أواخر الخلافة العثمانية ظهر الفساد تدريجياً أو مختلف نواحي الحياة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والعسكرية والعلمية … وانتشر الظلم … وحدث التفاوت الكبير بين الأقلية – الأغنياء – وبين الأكثرية – الفقراء - … وفي هذا العهد أيضاً انتشرت الطرق الصوفية المنحرفة، ونشطت الحركات اليهودية المنظّمة … وانحصر مفهوم الدين في نفوس كثير من المسلمين في إقامة الشعائر التعبدية، وفي جهاد النفس فحسب!

     

    وبالإضافة لهذه الانحرافات الدينية … فإنّ دولة الخلافة لم تأخذ بالأسباب الماديّة ولم تتقدّم في الناحية العلمية، فسبقتها أوروبا في هذه الناحية. ونتيجة لتخلّف الخلافة العثمانية روحياً وعلمياً، أفل نجمها – بعد أن كانت الشمس لا تكاد تغيب عن ممتلكاتها – واحتلتها الجيوش الأوروبية.

     

     


    ([1]) ابن كثير : البداية والنهاية 11/162.

    ([2]) التلمساني : نفح الطيب 4/487.

    ([3]) رواه أحمد وصححه الحاكم.

     
  • Bookmark and Share Email
     
Leave a Comment

Attachments

PROFILE

Mohammed Hafez Saleh Al- Shraidhe
 
Show Full ProfileArabic CV
 
 

PUBLISHED ARTICLES

 
Please do not email me if you do not know me
Please do not e-mail me if you do not know me