-
- Friday, January 1, 1999
- مظفر النواب: الصوت والصدى
- Published at:Not Found
هذه الدراسة هي ثمرة قراءات متكررة لأشعار مظفر النواب ، بدأتها عام 1978 يوم أخذت أعود أصابع يدي على الكتابة ، وقد أنجزت ، في حينه ، مقالتين عن الشاعر – أدرجهما هنا – ولم تنقطع قراءتي لأشعاره وجديد نتاجه ، حتى إذا ما صدرت أعماله الكاملة عام 1996 أخذت أقرأه من جديد ، لأدرس ، في جامعة النجاح الوطنية ، قصيدة "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة" ، وتوجت هذه القراءات والكتابات والتدريس ، في صيف هذا العام ، بدراسة عن طبعات أعماله في الأرض المحتلة وطبعة أعماله الكاملة الصادرة في لندن ، دراسة تناولت فيها الدراسات التي كتبت عنه هنا وقصيدة "بحار البحارين" ، وأتبعتها ، بعد اطلاعي على دراسة باقر ياسين"مظفر النواب : حياته وشعره" (1988) ، ودراسة عبد القادر الحصيني وهاني الخير" مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية ، قراءة في تجربته الشعرية" (1996) ، أتبعتها بدراسة ثانية ركزت فيها أيضاً على قصيدة "بحار البحارين" حيث تناولت فيها الثنائيات والرموز التراثية وصلة القصيدة بنصوص العصر ، ويعود ذلك إلى أنني لاحظت أن الدارسين المشار إليهم تناولوا أشعار الشاعر تناولاً عاماً لم يدرسوا فيه قصيدة معينة دراسة مفصلة . وهذا لا ينتقص من جهودهم التي كانت ، في الوطن العربي ، ريادية . وليس هناك من شك في أن شاعراً على شاكلة النواب قابل لأن يدرس عشرات الدراسات ووفق مناهج نقدية عديدة ، فقصائده فيها من الثراء وغنى التجربة ما يؤهلها للخوض فيها من جوانب عديدة ، إنها دال له غير مدلول وكلما قرأها المرء اكتشف فيها أشياء لم تظهر له من قبل .
وقد آثرت أن أضم لهاتين الدراستين المقالتين اللتين أنجزتهما في 31/3/1978 و6/4/1979 ونشرتهما ، في حينه ، في جريدة "الفجر المقدسية" ، وسبب إعادة نشرهما يعود إلى أنني تناولت في الدراسة الأولى المقالات والدراسات التي كتبت عن الشاعر في الأرض المحتلة ، دون أن أتعرض لهما بالتفصيل . ويمكن نشرهما القارئ من الاطلاع عليهما وإبداء رأيه فيهما . وثمة سبب آخر حثني أيضاً على نشرهما يكمن في تطور قراءاتي النقدية واقتناعي بمقولة نقدية مهمة تركز على أن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين يؤدي إلى كتابة مختلفة . ولا تختص هذه المقولة بالنقد وحده ، فالأديب – أي أديب – حين ينظر إلى أعماله الأولى ، غالباً ما يعيد النظر فيها ، إذا ما تمكن من إعادة طباعتها ، ويعود تغييره إلى أسباب عديدة : سياسية وفكرية وجمالية ، وقد شغفت شخصياً بهذا الموضوع فأنجزت ثلاث دراسات تناولت فيها أشعار محمود درويش ، وقد تتبعت فيها التغييرات التي يجربها على أشعاره عقب قراءاته لها في أزمان لاحقة . يكتب درويش النص ثم يعيد ، فيما بعد ، النظر فيه ، ويجري تعديلات عليه ، وما من شك في أن دراسة النص الجديد ينبغي أن تدرج في حسابها الزمنين معاً ،زمن الكتابة الأولى وزمن الكتابة الثانية .
وأما أنا ، فيما يخص المقالين ، فلم أغير إلا أقل القليل ؛ لقد صغت بعض المواطن صياغة جديدة ليبدوا لغة أقرب إلى أسلوب كتابتي الآن – أي بعد ما يزيد على عشرين عاماً من ممارسة الكتابة . ومع هذا فسوف يلاحظ القارئ الاختلاف في طريقة التناول من حيث الرؤية وطبيعة الدراسة . تتطور معارف المرء ، إذا طور نفسه وثقف ذاته ، وتتغير ، حتى ليبدو أحياناً شخصاً آخر ، شخصاً مختلفاً كلياً عن ذاك الذي كانه ، ومع ذلك فإنه – في حالتي – لا يخجل من كتاباته الأولى ، فلولاها لما كانت الكتابة الجديدة .
وكنت ألاحظ وأنا أقرأ أشعار النواب أن هناك أفكاراً تلح عليه وتضغط على قلبه ، أفكاراً تكررت في غير قصيدة ، ومن يقرأ قصائده الأولى والأخيرة يلحظ ، أحياناً ، ضرباً من التكرار في الأفكار ، يعبر عنه تارة بألفاظ وصور مختلفة وطوراً بألفاظ وصور متشابهة ، حتى إنني أخذت أتساءل إن كان النواب يكرر نفسه ويصوغ في قصائده الأخيرة أفكاره الأولى صياغة جديدة . ولكي لا يظل هذا كلاماً عاماً دون دليل أحيل القارئ إلى قصائد "بحار البحارين" و"عروس السفائن" و"جزر الملح" وبقية القصائد التي استلهم الشاعر موضوعاتها من تجربته الشخصية ، وهذا ما لم يبرز في تلك القصائد التي كتب فيها عن الآخرين ، وهو ما بدا في رثائه ناجي العلي وحسين مزنر ومخيم تل الزعتر .
وليس هذا الأمر مقتصراً على النواب وحده ، ففي شعرنا العربي القديم برز هذا لدى أبي نواس الذي كرر موقفه من الأطلال والخمر ، هجا الأولى وتغزل بالثانية ، ولم تخل عشرات القصائد من هذا ، وفي شعرنا العربي الحديث ظهر هذا في أشعار محمود درويش ، وقد أوضحت هذا في كتابي "أدب المقاومة ... من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998) ، ولتوضيح هذا في أشعار النواب آثرت أن أكتب مقالتين جديدتين ؛ الأولى تناولت فيها قصيدة "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة" حيث أبرزت أفكارها الرئيسة وربطت بينها وبين الأفكار نفسها في قصائد أخرى للشاعر ، والثانية تناولت فيها قصيدة "في الحانة القديمة" ، فهذه تثير قضايا فكرية تبرز بوضوح في أشعار النواب ، وفيها أوضحت صلة شعر النواب بالشعر العربي القديم ، ولا أغالي حين أزعم أنه قصائده هي البنات الشرعيات لأبيها الشعر العربي منذ أمرئ القيس إلى العصر الحديث .
وآثرت في الخاتمة أن أبدي رأيي في ثبوت هذا الشاعر ، حتى الآن ، على مبادئه ، وعلى إصراره على أن تبقى قصائده كما هي ، إلا ما طبعه له غيره ، فلم يحذف عبارات مهمة من باب مهادنة هذا النظام العربي أو ذلك ، ولم يدخل إلى عقله حساب الربح والخسارة ، وهذا موضع احترام ، كما آثرت أن أشير بإيجاز إلى تأثيره على حركة الشعر في فلسطين .
مظفر النواب شاعر كبير ، شاعر شكل في النصف الثاني من ق20 ظاهرة لافتة تكاد تكون فريدة ، ولا أعتقد أن دراستي هذه والدراسات التي أنجزت عن أشعاره أوفته وأشعاره حقهما . وستظل قصائده قابلة لدراسات أخرى ، وسيظل اسمه يذكر في أثناء الكتابة عن الشعر العربي ، مهما حاولت الأنظمة الحالية إقصاءه ، وما من شك في أنه جدير بذلك .
د. عادل الأسطة
19 /8 /1999
-